المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : معادلة الأخلاق والدين


ورد الجوري
04-23-2008, 03:11 PM
عبارة قالها نبينا المصطفى المالك زمام الاعجاز في القول لخص الدين كله في كلمة واحدة «المعاملة» التي قد لا يجيد فنها كثير من الناس وهي التي تشير دائما باصبع الاتهام او البراءة في مواقف الحياة اليومية لكل الناس، وفن التعامل هذا اختبار يومي يتعرض له كل واحد منا مهما التزم الصمت والخفاء في سلوكياته مع الآخرين فلابد وانك سامع من يقول لك انظر إلى فلان رافع انفه او مطأطيء رأسه امام علان سواء كان زيدا او عمرا، فالتعاملات مع الآخرين بحاجة إلى اخلاقيات قمة في الرقي وخاصة اذا كان الامر مرتبط بالدين فانت هنا بين موقفين اما ان تسيء إلى دينك من خلال بعض الاخلاقيات السيئة التي تمارسها وتنسبها إلى الدين الذي تؤمن به او ان تكون شجاعا مع نفسك ومع الآخرين فتفصل بين المعاملة الخلقية التي تمارسها وبين الدين الذي تحمله بين جنبات قلبك، يا ترى ما هي العلاقة بين التعامل الاخلاقي مع الناس وبين الدين؟ لا يمكن بناء الاخلاق الا على الدين، ومع ذلك فليس الدين والاخلاق شيئا واحدا.

فالاخلاق كمبدأ، لا يمكن وجودها بغير دين، اما الاخلاق كممارسة او حالة معينة من السلوك فانها لا تعتمد بطريقة مباشرة على التدين، والحجة التي تربط بينهما معا هو العالم الاخر، العالم الاسمى، فلأنه عالم آخر فانه عالم «ديني» ولانه اسمى، فهو عالم «اخلاقي» وفي هذا يتجلى استناد كل من الدين والاخلاق إلى الآخر، كما يتجلى استقلال كل منهما عن الآخر.

لهذا، من الممكن ان نتصور رجل دين لا اخلاق له، وبالعكس، فالدين نوع من المعرفة والاخلاق هي الحياة التي يحياها الانسان وفقا لهذه المعرفة، وهنا يظهر الاختلاف بين المعرفة والممارسة فالدين اجابة على سؤال كيف تفكر وكيف تؤمن؟ بينما الاخلاق اجابة على سؤال: كيف تحكم الرغبة، كيف تهدف، او كيف تحيا وكيف تتصرف؟
والشاهد على هذا هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية الزواج وشروط الاختيار عندما قال «اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه فان لم تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير وفي رواية «عريض» او كما قال في هذا الاثر لو كان الدين والخلق شيئا لذكرا في كلمة واحدة لان الزوج قد يكون صاحب دين ولكن لا يعرف حقيقة تدينه الا الزوجة وذلك عندما يبدأ الزوج بممارسة حياته الزوجية مع زوجته اولا ثم مع من ناسبهم وربط خيوط علاقته الاجتماعية الجديدة معهم فالحياة الزوجية الخالية من الاخلاقيات التي تحافظ على اركان الاسرة من الزلازل والاعاصير سرعان ما يتعرض تدينها إلى خلل عندما يحدث هناك فصل تام بين التدين كممارسة لبعض الشعائر التي لم تتعدى آثارها إلى اخلاق الزوج في معاملاته مع اطراف القضية المعنية هذا النموذج يمكن ان يلاحظه وينتبه اليه كل واحد في المجتمع لانه لا يمكن اخفاؤه ابدا ويمكن التأكد منه حتى من خلال الطفل الجديد الذي حل ضيفا على الاسرة المسلمة، اقرأ هذه الآية (..الذين آمنوا وعملوا الصالحات..) انها تتكرر بصيغتها او بمعناها في القرآن اكثر من خمسين مرة، ان هذه الآية تعبر عن الفرق بين الدين «الايمان» وبين الاخلاق «عمل الصالحات» كما تأمر في الوقت نفسه ان يسير الاثنان معا.

كذلك يكشف لنا القرآن عن علاقة عكسية بين الاخلاق والدين، فيوجه نظرنا إلى ان الممارسة الاخلاقية قد تكون حافزا قويا على التدين «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»، فمعنى الآية هنا لا يقول (آمن لتصبح خيرا) وانما العكس يقول: (افعل الخير تصبح مؤمنا)، وفي هذه النقطة نرى اجابة على سؤال كيف يمكن للانسان ان يقوي ايمانه؟ والاجابة هي: (افعل الخير تجد الله امامك).

فان اي بعث اخلاقي حقيقي يبدأ دائما بيقظة دينية، فالاخلاق انما هي دين تحول إلى قواعد للسلوك، يعني تحول إلى مواقف انسانية تجاه الآخرين وفقا لحقيقة الوجود الالهي.

وما يؤكد على هذه الحقيقة عن ابي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم، قال: «شرار امتي الثرثارون، المتشدقون، المتفيقهون، وخيار امتي احاسنهم اخلاقا» رواه الترمذي واحمد.

ان هذه الاصناف الثلاثة بهذه الصفات يمثلون على الناس حتى يتهيأ لهم بأنهم فطاحل في الفقه مع ان كثرة الكلام والتشدق في استخراج الحروف والتقعر بها والتظاهر بكثرة الفقه كل هذه المزايا لا تساوي في ميزان الاخلاق شيئا.

فلننظر إلى دهشة واستغراب علي بن ابي طالب رضي الله عنه من بعض اصناف الناس حينما قال: يا سبحان الله! ما ازهد كثيرا من الناس في الخير! عجبت للرجل يجيئه اخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير اهلا! فلو كنا لا نرجو جنة ولا نخاف نارا ولا ننتظر ثوابا لكان ينبغي لنا ان نطلب مكارم الاخلاق فإنها تدل على سبيل النجاة.

لذا قال احد الصالحين: ان الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم الا السخاء وحسن الخلق الا فزينوا دينكم بهما.

وعن الحسن البصري رحمه الله: من ساء خلقه عذب نفسه، وقال وهب بن منبه: مثل السيء الخلق كمثل الفخار المكسور لا يرقع ولا يعاد طينا.

وعلى هذا الاساس فضل الفضيل بن عياض رحمه الله صحبة الفاجر على العابد في قوله: لان يصحبني فاجر حسن الخلق احب إلي من ان يصحبني عابد سيء الخلق.

لان حسن خلقه يغطي على فجور الفاجر فينتفع به من يصاحبه اما هذا العابد فسوء خلقه تسيء لعبادته التي لا تتعدى نفسه فيقع في سوء عمله من باب العبادة فبهذه الصفة يكون الفرد العادي خير منه بدرجات.

وبناء على هذا قال بعض السلف لابنه: اذا دعتك نفسك إلى كبيرة فارم ببصرك إلى السماء وخف ممن فيها، فان لم تفعل فارم ببصرك إلى الارض فاستح ممن فيها، فان كنت لا ممن في السماء تخاف ولا ممن في الارض تستحي فاعدد نفسك في عداد البهائم.

وقال ملك لوزيره: ما خير ما يرزقه العبد، قال: عقل يعيش به.

قال: فان عدمه، قال: ادب يتحلى به، قال:فان عدمه، قال: مال يستره، قال: فان عدمه، قال: فصاعقه تحرقه وتريح منه العباد والبلاد.

نضيف بان مساحة المعاملة والاخلاق كبيرة جدا في حياة المسلم مقارنة بمساحة العبادات الوقتية فبين صلاة واخرى ساعات من الزمن يتعامل فيها مع الناس الآخرين بكافة اجناسهم فهل يا ترى تتوافق سلوكياته مع الناس مع حقيقة وقوفه بين يدي رب الناس؟ ويقال هذا بين كل العبادات المحددة بوقت معين، اذا فرضنا مما سبق ذكره جانب نظري بحاجة إلى دعم عملي من خلال مسلكيات السابقين فبمن نبدأ.

فلو بدأنا بعيسى بن مريم عليه السلام عندما لقي خنزيرا بالطريق، فقال له: انفذ بسلام، فقيل له: تقول هذا لخنزير؟ فقال عيسى بن مريم: اني اخاف ان اعود لساني المنطق السييء، التسامي عن السفاسف فن بحد ذاته بحاجة إلى تدريب خاص ومجموعة من المهارات التي لا تتوفر الا في قلة من الناس الذين يملكون زمام جوارحهم (الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)، من العملات النادرة وخاصة اذا تدخل عنصر الكرامة والحفاظ عليها وماء الوجه الذي لا ينبغي ان يسكب في اي اناء.

فهذا حكيم من الحكماء الح عليه رجل بالشتم في السوق وهو ساكت فقيل له: يشتمك مثل هذا وانت ساكت؟ فقال: ارأيت ان نبحك كلب اتنبحه؟؟ ورمحك حمار اترمحه؟؟ وسأل رجل الاحف بن قيس: بم سودك قومك وما انت بأشرفهم بيتا ولا اصبحهم وجها ولا احسنهم خلقا؟!! فأجابه: بخلاف ما فيك يا ابن اخي: قال ماذاك؟ قال: بتركي من امرك ما لا يعنيني، كما عناك من امري ما لا يعنيك! وحتى عندما يكون الامر متعلقا بمخ العبادة فالخلق السامي لابد وان يكون دأبنا والاعتداء من خلاله على عباد الله لا يعد امرا مشروعا فالدقة في الدعاء ينبغي توفرها لان المقام ليس ساحة لتصفية الحسابات وادارة المعارك الخاسرة حتى في اخص اوقات المناجاة وهذا ما نأخذه من مقام علي بن الحسين رضي الله عنه عندما سمع رجلا يدعو قائلا: اللهم اغنني عن خلقك، فقال له: ليس هكذا الدعاء، انما الناس بالناس، ولكن قل اللهم اغنني عن شرار خلقك، ان للدعاء فقه وادب لابد من مراعاته الا اذا انقلبت هذه العبادة إلى نوع من الاعتداء على الناس دون ادنى مراعاة للصالح او الطالح منهم وفي هذا ظلم وجور واضحين وطمس بمعالم الحق في مراعاة حقوق الناس الادبية والمعنوية، فلا نريد ان يتحول مقام المناجاة إلى الهجاء والقدح في الاخرين بلا مبرر منطقي وشرعي.

يقول محمد بن معتوق الشيباني القوضي الشاعر عن نفسه: لما دخلت إلى منطقة قوضى، قال لي ابن دقيق العيد: انت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته معه فلا تهج احدا، قال: فلم اهج احدا.

وقيل لابي حازم: ما شكر العينين؟ قال: اذا رأيت بهما خيرا ذكرته، واذا رأيت بهما شرا سترته، قيل له: وما شكر الاذنين؟ قال اذا سمعت بهما خيرا حفظته، واذا سمعت بهما شرا نسيته، المجتمع الذي يتسم افراده بهذه الصفات من ستر العيوب وعدم نشرها ونسيان الشر ونشر الخير ولو كان يسيرا لا يسرع اليه الفساد، لا نريد ان يتحول بعض افراد المجتمع إلى صحف التابلويد المنتشرة في الغرب التي لا تلتقط الا اخبار المستنقعات والفضائح وكأن العالم كله لا يعيش الا في هذا المستوى.

نريد السنة عفيفة وآذانا واعية وقلوبا مبصرة تعرف ما يضر وما ينفع وما يحسن التكلم فيه ومالا يحسن هذا الحس الاخلاقي يفتقده كثير من الناس لان بساطة السلوك تباعدت عن ممارساتنا اليومية بل ان عقد الحياة بدأت تدب في قلوبنا قبل جوارحنا فشكر الاذنين والعينين تحول إلى صفة سمّاعون للكذب والبصر الحديد المنطلق يمنة ويسرة باحثا عن سيئة او عورة يتم الكشف عنها صار دأب فئة ليست بالقليلة من جملة الناس وبدأت الالسن تلوك الشيء الكثير من المساويء بل التنقيب عن المثالب والدليل على هذا في المجالس والدواوين، واماكن تجمعات الناس فنسمع عن الشر جهرا وعن الخير سرا بل قد يعطى الشر اكثر من حجمه ويبالغ في تقديم الخير وهذا المسلك في حد ذاته لا خير من ورائه فالتوقف عنه واجب اجتماعي يصب في صالح اي مجتمع يريد ان يرى رايات الخير فيه مرفوعة ورايات الشر مطموسة.

وهذا ما رسمه محمد صلى الله عليه وسلم لاتباعه وهو الذي علمهم في الحياة الدنيوية ما يوصلهم إلى نجاح في الحال، وفلاح في المآل لانه كان عليه الصلاة والسلام يتمتع بالسلطة الروحية والدنيوية، وما نعانيه اليوم في حياتنا المعاصرة السبب الرئيسي يعود إلى انفصال هاتين السلطتين عن بعضها البعض بسبب تصرفات بعض منا ممن يحاول هدم الجسر الذي ينبغي العبور عليه إلى الاخرة.

ويتحدث الكسيس كارل عن هذا في كتابه «تأملات في سلوك الانسان» ويقول: القوانين الطبيعية عامة وصارمة، لا يستطيع احد ان يعصيها ثم ينجو من العقاب في اي بلد كان وهي لا تنذر من يخالفها، والعقاب هنا صامت صمت الامر نفسه.

والاخلاق الدينية تفرض قواعد لا تختلف في شيء عن القواعد التي ارادتها الحياة نفسها، لذلك يجب اعتبار التحرر من كل نظام اخلاقي مساويا لعصيان القوانين الطبيعية، وقد ردت الحياة ـ كما نعرف ـ على هذا العصيان بابتعادها عنا، وكان ردها صامتا قاسيا في آن واحد وقد شعر ذوو البصيرة بالخطر.

«والامم والاجناس التي لم تعرف كيف تميز بين الحلال والحرام تتحطم في الكوارث والتحلل والموت، وهذا عقاب آلي بحت، فان الفناء مصير اولئك الذين ينتهكون القوانين الطبيعية».

لقد جاء «توفلر» في هذا الخضم لكي يزيد الطين بلة فهو يقترح «النسبية المطلقة» في القيم والاخلاق والسلوك، ويدعو إلى تبرير جميع الوان الشذوذ والانحراف وتدمير الاسر والروابط الاجتماعية، وإلى ايجاد مؤسسات الامومة، وتفريخ الاطفال بالجملة، والزواج المؤقت واستئجار الارحام، وبيع النطف، والسماح بالاسر التي يكونها ذوو الشذوذ الجنسي، وبالصداقات الموقوته، على ان يكون المحور الذي تدور في فلكه كل هذه الظواهر المقترحة هو توفير الطاقات العاملة لمراكز الانتاج.

يقول الفيلسوف الامريكي جون ديوي: ان الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها ولا تثق بقوة هذا العلم في خلق قيم جديدة، تدمر نفسها بنفسها، وهذا الرد المحتوم من جانب الحياة على اخطاء الانسان يفسر ما نحن فيه من ضروب الشقاء: فمرض الحضارة ومرض الحرب العالمية نتيجتان حتميتان لانتهاك حرمة القوانين الطبيعية، اذ لا يستطيع كائن ما ان يمنع الحياة من متابعة اتجاهاتها الجوهرية دون ان يحل به العقاب.

والاخلاق لم تعد مجرد بحث عن الفضائل المبعثرة في الانفس دون الآفاق، بل هي سبيل إلى انقاذ ما ينبغي ان يكون، والحقيقة الاخلاقية هي بمثابة همزة الوصل التي تربط نظرة المرء للواقع وتحدد سبل سلوكه وتصرفه فيه، فالاخلاق في جوهرها صراع يتجدد يوما بعد يوم، ضد ما في الواقع من نقص.

قال ارسطو: فيما يتعلق بالفضيلة لا يكفي ان يعلم ما هي بل يلزم زيادة على ذلك رياضتنا على حيازتها واستعمالها او ايجاد وسيلة اخرى لتصيرنا فضلاء واخيارا، ولو كانت الخطب والكتب قادرة وحدها على ان تجعلنا اخيارا لاستحقت ـ كما كان يقول تيوغنيس ـ ان يطلبها كل الناس وان تشترى بأغلى الاثمان، ولكن لسوء الحظ كل ما تستطيع المباديء في هذا الصدد هو ان تشد عزم بعض فتيان كرام على الثبات في الخير، وتجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة، وفيا بعهدها، واذا امعنا النظر في اسباب سقوط جميع الامم التي يذكرها التاريخ بلا استثناء لا فرق في ذلك بين الرومان والعجم، وجدنا ان العامل القوي في انحلالها تغير طرأ على مزاجها العقلي ترجع علته إلى انحطاط الخلق، ولست اعلم ان دولة واحدة سقطت لانحطاط الذكاء في قومها، فطريقة انحلال المدنيات واحدة، حتى ان الانسان يتساءل كما فعل احد الشعراء ان كان التاريخ الذي امتلأت به المجلدات العديدة صفحات كثيرة او هو في الحقيقة صفحة متكررة؟

المؤلف : الدكتور عبدالله محمد صالح علي العوضي

امووورة
04-23-2008, 05:49 PM
كتب الله أجرك

albrens99
04-23-2008, 05:52 PM
والامم والاجناس التي لم تعرف كيف تميز بين الحلال والحرام تتحطم في الكوارث والتحلل والموت، وهذا عقاب آلي بحت، فان الفناء مصير اولئك الذين ينتهكون القوانين الطبيعية».


يعطيك العافية

محمود عادل
04-24-2008, 12:38 PM
جزاكي الله خيرا

ورد الجوري
04-25-2008, 08:34 PM
مشكورين على المرور
يعطيكم العافيه