المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تقديس الفرد !


ورد الجوري
05-08-2008, 02:24 PM
لاينكر أحد أن الناس يتفاوتون تفاوتا كبيرا فيما بينهم في ملكاتهم وخصائصهم وما تفيض به عليهم ظروفهم الخاصة من مكنة وسلطان, لكن الله تعالى جعل لنا سقفاً لا نستطيع أن نتجاوزه مهما كان شأننا، وهناك صفات مشتركة بين الناس تجعلهم جميعاً بين عتبة وسقف محددين على اختلاف مواقعهم بينهما.
ويقوم منهج التصور الإسلامي في هذه المسألة على أن البشر عبيد الله تعالى، وأنهم يخطئون ويصيبون، حتى الأنبياء – عليهم السلام- قد يخطئ الواحد منهم إذا اجتهد، ولكن الله لا يقره على الخطأ جزء من المنهج، وحتى لا يشوب القدوة شائب.
وهناك مواضع عدة في القرآن الكريم مشهورة عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم على بعض إجتهاداته. وحين أكرم الله نبيه بالإسراء والمعراج ذكره بقوله ( سبحن الذي أسرى بعبده ليلا) سورة الإسراء آية رقم 1
ليشير للناس كافة أن الإنسان مهما سما ورقى فإنه لا يستطيع أن يتجاوز دائرة العبودية لله تعالى.
إن مشكلة تقديس الأشخاص تنبع أساسا لدى الأمم والشعوب من غياب المنهج أو غموضه أو تعقيده وقد ذكرت من قبل أن العلاقة بين المناهج والأشخاص حساسة جداً، وقد تكون غامضة في بعض الأحيان مما يوجب علينا الحيطة والحذر. ومن السوابق التاريخية الهامة لاختلال هذه العلاقة ما حدث من ردة أعراب المدينة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن علاقتهم به أكبر من علاقاتهم بهذا الدين الذي ما جاء – عليه الصلاة والسلام – إلا لتبيلغه، والذي كان هو نفسه منضبطاً بكل تعاليمه. أما أبو بكر رضى الله عنه فقد كشف عن فهم مخالف حين قال ( أيها الناس من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات )
إنه لم يرتد أحد من سكان المدينة – فيما نعلم - كما لم يرتد أحد من أسلم قبل الهجرة، لان عند هؤلاء من معرفة المنهج، ومعرفة مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحول بينهم وبين ماهو دون ذلك.
وحين أدرك عمر – رضى الله عنه – نوعاً من الخلل في العلاقة بين الأشخاص والمنهج، وأحس بنوع من الطغيان على المنهج في حس الناس ونظرهم قام بعزل خالد – رضى الله عنه – عن إمرة الجيش وتولية أبي عبيدة، حيث ارتكز في حس الناس أنهم لن يهزموا مادام قائدهم خالدا، وهذا – لاشك – خطير وقد فعل عمر ذلك حرصا على رؤية الأمور على وجهها الصحيح.
وحين يصاب الناس بأزمات حادة فإنهم يحاولون الوقوع على مخرج، وبما أن إدراك المواقف أسهل من إدراك المباديء، وإدراك إنجازات الأشخاص أسهل من إدراك إنجازات المنهج فإن الناس حينئذ يرمقون شخصاً تناط به الآمال في الخروج من التيه، ونفض غبار المشكلات التي يعانون منها. ومن خلال دندنة الناس حول ( البطل المنقذ) تتبلور المواصفات التي يرغبون في توفرها لدى بطل أحلامهم، من الصدق والأمانة والعدل والقوة والحزم والتواضع وبعد النظر والشفافية والرحمة والجاذبية الخ... وهنا يبدأ الطامحون- وما أكثرهم- في وزن ما لديهم من هذه الصفات المطلوبة شعبياً، وبعد ذلك تبدأ محاولات الطفو على السطح من خلال إبراز المواقف والتصريحات التي تنم عن توفر ما يرغب فيه الناس، وتبدأ أنظار الناس بالتوجه إلى أولئك الطامحين لحسم الجدل لصالح احدهم! وفي الوقت ذاته تكون الأجهزة الاستعمارية الساهرة على مصالح دولها في حالة من الترصد والترقب لسوق عرض المنقذين الطامحين ، ليقع الخيار على فتى الأحلام، ويبدأ فصل جديد من الدعاية المركزة ببيان خصائصه تارة ، وشتمه تارة أخرى ، ومنحه الأوسمة في حين ، وقطع المساعدات في حين آخر إلى أن يوقن الناس أن اختيارهم كان صحيحا ، وأم منقذهم مستقل الإرادة حريص على مصالح من اختاروه ، فهي عنده المبتدأ والخبر ، والوسيلة والغاية معاً. فإذا تمكن صاحبنا وصار فوق الشبهات، وفوق الشورى، وفوق المنهج، وفوق الخطأ – لأنه ملهم- بدأت مرحلة سداد الثمن لمن مكن له في الداخل والخارج.... وحينئذ يصاب الناس بالإحباط مرة أخرى، وينسون الأزمة الأولى، لينشغلوا بالأزمة الجديدة، التي صار البطل الملهم أبا عذرتها ، ويبدأ بعد ذلك فصل جديد من البحث عن منقذ جديد!!
وهذا باختصار شديد تاريخ ما يسمى ب( العالم الثالث) مع أزماته وانكساراته ومع أبطاله ومنقذيه! ولست أدري من أين تولد تقديس الأفراد لدى أمة يعلمها دينها ألا تركع إلا لله، كما يعلمها أن المنهج فوق الجميع ، حتى الذي يجتهدون فيه ويعلمونه الناس ؟! هل نظام القبيلة الذي كان سائدا في الجاهلية هو البذرة الكامنة التي أخذت تورق بعد أن صار المنهج غامضاً في أذهان العامة الذين ارتفعت اسهمهم بعد خفوت صوت أخل الحل والعقد، أو أن ذلك تولد عن تقصيرنا عبر القرون في بلورة مؤسسات شورية قوية تعبر عن رأي الجماعة ومصالحها، وتنمي في الوقت نفسه ضمير الجمعية ، أو أن ذلك من طبيعة تعشق التفرد في ذاتها وغيرها ، أو أن ذلك إفراز طبيعي من إفرازات التخلف حيث يكون الجميع في انتظار من سيحل لهم مشكلاتهم ، وحيث يكون الرجوع إلى المنهج مكلفاً. أو أن معالم الشخصية الإسلامية اند رست من خلال عمليات الضغط والقهر لتصبح صالحة للتشكيل حسب ما يريد الطغاة والمتنفذون ؟؟ هذه كلها احتمالات، وإن كان لا يمنع مانع من أن تكون هذه الأسباب وغيرها قد تعاونت جميعاً في الصيرورة إلى ما نحن فيه.
ونحن بعد كل هذا لا ننكر أثر الأفراد في الرادة والإصلاح وتجميع الطاقات والمشاعر وتوجيهها ، كما لاننكر دورهم في إعطاء النماذج العملية الواقعية ، لكن الذي ننكره هو تضخيم التقدير لهم بحيث يؤمًن لهم غطاء معنوي يمكنهم من تجاوز الشورى والنصح والمنهج ، ويجعل الناس يهابون نقدهم وبيان أخطائهم.... بعد هذا وذاك ما هي الإشكالات والملابسات التي تترتب على تقديس الأفراد وإناطة آمال الإصلاح بهم ؟
( أ ) إن تعليق أمة أو جيل من أمة آماله على ( بطل ملهم ) للخلاص من نكساته وانحباساتها الحضارية يدل على عدم معرفة حسنة بآليات تكون تلك المشكلات، وعلى عدم معرفة بآليات حلها. إن الحضارة الإسلامية – على سبيل المثال – بلغت مرحلة جيدة من النضج خلال قرن من الزمان، وظلت نقاوم عوامل الفناء قرابة عشرة قرون، والحالة التي وصل إليها المسلمون هي الحصيلة النهائية لك أشكال الإحباط والانكسار وكل ألوان الصمود والمقاومة0 هذا على المستوى التاريخي، أما على مستوى الواقع فإن كل مسلم هو جزء من إشكالات الأمة بسلوكه ومنهجه وخلقه وفعاليته 0 ومن هنا فإن من المستحيل على جيل من الأجيال أن يعيد كل الأمجاد المفقودة، فكيف إذا علقت إعادتها برجل أو رجال محدودين ؟ لا سيما والأمة اليوم تجاوز عددها ألفا ومئتي مليون نسمة، وهم موزعون على سائد المعمورة !0
إن الحل ليس مدخراُ عند شخص، لكنه مذخور في دم كل مسلم مهما كان شأنه، بأن يقلل من سلبياته، وأن يضاعف من فاعليته، وأن يساعد في إيجاد الوظائف للمبادئ الإسلامية تخطيطا وتنفيذا. والانصراف نحو الأشخاص لحل المشكلات دون ذلك سيكون ضربا من إضاعة العمر ومنبعا ثرا للاحباطات المتتالية !!0

(ب) إن تقديس الأشخاص يساعدهم مساعدة مباشرة على تجاوز المنهج والأنظمة والأعراف ومصالح الأمة إن كانوا من الساسة، ويشجعهم على الاندفاع نحو الاجتهادات غير المؤصلة، وعلى الخروج على السلوكيات الإسلامية إن كانوا من العلماء، وذلك لأن كل من يريد الخروج علة ما هو موضع إجماع بحاجة إلى مساعدة من أهل الإجماع أنفسهم، أو بعبارة أخرى عليه أن يشق عصا الإجماع أولا، وذلك لا يكون إلا حين تنحاز إليه فئة من المجتمع واضعة ثقتها فيه، ومؤكدة صحة كل ما يقوله، ويقوم به من أعمال، وتتلقف أجهزة الدعاية الخاصة ذلك، فتضخمه عشرات المرات، ويؤدي الحزب الحاكم ذلك الدور بمهارة، ويرسم حوله دوائر متسعة من العامة وأنصاف المثقفين الذين لا يدركون ما يدبر، ويحاك ! فإذا ما شعر البطل أنه منح ثقة لا بأس بها فإنه ينتقل إلى المرحلة الثانية، وهي تأويل كل ماهو ثابت تأويلا جديدا يقلل من قيمة الأنظمة، أو يلغيها، أو يحرفها أو ينسخها.... من أجل امتداد سلطاته الشخصي لملء الفراغ الذي تتركه ! وما كان لذلك أن يتم لولا تصوير الناس له بأنه متفرد في كل شئ، وأن تجاوزه ليس بتجاوز ، وإنما أملي عليه ذلك المصالح الوطنية والضرورات الآنية ، ومحاولات الاكتشاف للأحسن !! والمشكلة ليست في تجاوزات فرد، لكن في ذيول ذلك، حيث إن الشرائح التي تؤمن له الغطاء الدعائي تربط مصالحها بمصالحه, وتستمد نفوذها من نفوذه، وهو لا يستطيع أن يمنعها من التجاوز، لأنها هي التي تساعده عليه وتلك الشرائح تشكل من جهتها طبقات تقتات على التجاوز الذي يؤمنه لها النفوذ !
وهكذا يتم نشر ما لا يحصى من الأحقاد الاجتماعية، ويصبح العدل كلمة حبيسة في بطون المعاجم، وترتفع الأسعار ارتفاعا مذهلا لوجود أقوام ينفقون مما لم يتعبوا بالحصول عليه، ويدخل المجتمع في دوامة من الأزمات التي لا يجد لها حلا ولا مخرجا0
( ج) والمرض الثالث الذي يترتب على تقديس الأشخاص هو تهيب الناس لنقدهم، أو مراجعتهم في شئ مما فعلوا، ذلك لأن البسط كثيرا ما يصاحبه الطغيان، كما قال – سبحانه- { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض} سورة الشورى الآية رقم 27
وهذا البغي يحتاج من الأمة إلى نقد وتمحيص ومواجهة، ولا يستغنى العدول والثقات عن مراجعة أعمالهم فضلا عن غيرهم، لأنه يتعاقب على حياة البشر نوعان من العمل بناء ونقد، والنقد يرقى العمل، وينضجه، ويوجهه، لكن هالات التقديس التي ترسم حول الشخص تحول بين الناس وبين نقدهم له0 وهي تظهر بأشكال لا تكاد تنفذ، فتارة يكتسب ذلك من خلال مكتب فخم، أو موكب يسير خلفه، أو أمامه، وتارة يكون من خلال نسب شريف، أو خوارق تنسب إليه أو جهود جبارة بذلها في سبيل خدمة الأمة0000
وهذه الحال وجدت في بعض الأوساط الإسلامية حيث بزغت فكرة ( المرشد الكامل ) ! ومع أن الكمال لله وحده، ومع أن الذين يطلقون هذا اللقب لا يقصدون منه عصمة ذلك المرشد، إلا أن الظلال والدوائر التي يرسمها ذلك اللقب كافية لأن تجعل كثيرين يترددون قبل توجيه أية نصيحة، أو أننقاد أي مسلك، وتكون العاقبة هي انتشار الغيبة والحقد والمكائد وترسخ الأخطاء، وتفاعلها، ثم الانهيار0000
ورحم الله عمر حين علمنا وضع الأمور في نصابها، فقد قال له رجل: يا أمير المؤمنين اتق الله، فنهره أحد الحاضرين، فقال عمر دعه فلا خير فيكم إن لم تقولوها، ولاخير فينا إن لم نسمعها!0
إن الأخطاء حين لا تجد من يصحهها تتجمع، لتتضاغط كما يتضاغط البخار، حتى إذا طفح الكيل انداحت في صورة انفجار مروع يذهب بالصالح والطالح0 وفي حالة المجتمعات الشيوعية اليوم عبرة لمن يعتبر !! 0
وأخيرا فإذا ما قدر للشخص المقدًس أن ينتهي- وكل منا سوف ينتهي- فإن كارثة سوف تحل، فإن كان حاكما ترك فراغا هائلا، لا يدري كيف يُسد بعد، لأن كل خيوط الحكم في يده، وإن كان شيخا تبددت جماعته من بعده، وكأن شيئا لم يكن، على حين أن المجتمعات التي لا تولى الفرد ذلك الاهتمام يكون ذهاب الأشخاص ومجئ غيرهم فيها طبيعيا، ويتم التغيير عن طريق التدرج المتزن 0

المؤلف : الدكتور عبدالكريم بكار

مدهش
05-09-2008, 04:19 PM
مشكورين على الموضوع

ورد الجوري
05-11-2008, 06:13 PM
مشكور اخوي مدهش على المرور المميز
يعطيكم العافيه