المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أين الضجيج العذبُ والشغبُ ؟!


مناهل
05-26-2008, 09:04 PM
ما أجمل أن نتذوق من الأدب العربي شعره ونثره ما يجعل حياتنا الأسرية أكثر متعة وعاطفتنا الأبوية أكثر توهجاً ونظرتنا لأبنائنا أكثر جمالاً وتسامحاً .

في عدد من قصائده ، حاول الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري أن يرسم طفولة أولاده في صور طبيعية ، غير مصطنعة ،التقطها بعدسة شعره ،ونقلها قصيدة (أب) ، وقد نالت من الذيوع والانتشار ما جعل الشاعر نفسه يعجب من ذلك ، حتى سماها قصيدة محظوظة ! كثر طلب الناس لها ،وإعجابهم بها ،وهي قصيدة في الحنين إلى أولاده في طفولتهم ،حينما خرجوا من داره في مصيف قرنايل بلبنان عام 1377 هـ عائدين إلى دارهم في (حلب) ،وتركوه وحيداً في صمت ثقيل ، بعد الصخب الذي كانوا يشعلونه في كل زاوية من البيت ،فما كان منه إلا أن أطلق هذا الاستفهام الظامئ اللاهث خلف كل أثر تركوه من حوله ،بحثاً عن اللذة التي لا تعرف إلا حين تفتقد .. يقول :
أين الضجيجُ العذبُ والشغبُ = أين التدارسُ شابَهُ اللعبُ
أين الطفولةُ في توقدِها = أين الدمي في الأرضِ والكتبُ
أين التشاكسُ دونما غرضٍ = أين التشاكي ما له سببُ
أين التباكي والتضاحكُ في = وقتٍ معاً ، والحزنُ والطربُ

يتكيء الشاعر في هذه الأبيات على حشد مجموعة من المتناقضات التي لا تكون حسنة إلا في دنيا الأطفال ،فالضجيج الذي تنفر منه الآذان أصبح عذباً مستساغاً في سمع الوالد الولهان ،والشغب الذي يتبرم منه الإنسان أصبح شيئاً نفيساً يبحث عنه ،والتدارس واللعب ،والدمي والكتب ،والبكاء والضحك ،والحزن والطرب ،ثنائيات محيرة ولكنها جميلة في حياة الطفولة يلتقطها الأميري بخفة ،ويحشدها وراء استفهاماته الذاهلة ليشحذ الذاكرة حتى تستعيد الصورة التي غابت عن عينيه في الواقع ، ولو في الخيال .

ويسترسل في تصويره الحي ،فيلتفت إلى ما يلامس علاقته بهم ملامسة مباشرة ،وهو شأن كل إنسان يفقد حبيباً كان ملء قلبه وعينيه ،فإنه يظل يتذكر منه ما كان سبب محبة أحدهم للآخر،أو أجمل المواقف بينهما ،لأن ذاك هو ما فقده منه ، يقول :

أين التسابق في مجاورتي = شغفاً إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي = والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوق فطرتهم = نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم (بابا) إذا فرحوا = ووعيدهم (بابا) إذا غضبوا
وهتافهم ( بابا ) إذا ابتعدوا = ونجيهم (بابا) إذا اقتربوا

(بابا) كلمة مقطوفة من لغة الحياة اليومية ،ودفئها الأسري ،لم يجر عليها الشاعر أي تعديل ،حتى لا يفقدها إيحاءها الشعوري ودفأها الأسري ،وتكرارها يشير بحب الشاعر للاستماع إليها من أطفاله ،ولا سيما حينما فقدها ،ولذلك فهو يتلذذ بترديدها .

ثم يلتفت إلى الفراغ الكبير الذي تركوه في الدار ، فيصور ببراعة الصمت الرهيب الذي أطبق على صدرها فيقول :

بالأمس كانوا ملء منزلنا = واليوم ويح اليوم قد ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت = أثقاله في الدار إذا غربوا
إغفاءة المحموم هدأتها = فيها يشيع الهم والتعبُ

وإذا كان في أول القصيدة يتساءل عنهم وعن لعبهم وعراكهم ، فهو الآن صار يتخيلهم وكأنهم صاروا بين يديه ، يتواثبون، ويتلاعبون :

إني أراهم أينما التفتت = نفسي ، وقد سكنوا وقد وثبوا
وأحس في خلدي تلاعبهم = في الدار ، ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهم إذا ظفروا = ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كل ركن منهم أثر = وبكل زاوية لهم صخبُ
في النافذات زجاجها حطموا = في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه = وعليه قد رسموا وقد كتبوا

ويختم القصيدة بالموقف العاطفي الذي تعرض له في لحظة الوداع ، وهو دائماً أصعب المواقف على المتحابين ، لأنه يهدم سبب اللذة الحاصلة في اللقاء :

دمعي الذي كتمته جلداً = لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا = من أضعلي قلباً بهم يجب
ألفيتني كالطفل عاطفة = فإذا به كالغيث ينسكب

يصدر الشاعر كلمة ( دمعي ) في هذا المقطع ، لأنها محور فكرته ، فالدمع الذي كتمه متجلداً حين كانوا ينظرون إليه ،هطل غيثاً سخياً عندما تفرد بنفسه ،ومن أجل أن يعذر في هبوط عاطفته إلى مستوى عاطفة الأطفال ( كما قال ) ،فإنه يعمم التجربة ،في حكمة تحمل العذر المقبول له أمام عاذليه ،ولتكون ترنيمة حرة ،يرددها كل ( أب ) في أية لحظة عاطفية مع أولاده يسكب فيها من أجلهم دمعة ،فيقول :

قد يعجب العذال من رجل = يبكي ، ولو لم أبك فالعجب
هيهات ، ما كل البكا خور = إني و بي عزمُ الرجالِ ،أبُ

وهي خاتمة رائعة ، لواحدة من أروع قصائد الأميري في شعره كله .



بقلم : د.خالد بن سعود الحليبي – المملكة العربية السعودية .

مدهش
05-27-2008, 12:15 AM
موضوع جميل وشيق

ابوسيفين
05-27-2008, 03:08 AM
ما أجمل أن نتذوق من الأدب العربي شعره ونثره ما يجعل حياتنا الأسرية أكثر متعة وعاطفتنا الأبوية أكثر توهجاً ونظرتنا لأبنائنا أكثر جمالاً وتسامحاً .

في عدد من قصائده ، حاول الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري أن يرسم طفولة أولاده في صور طبيعية ، غير مصطنعة ،التقطها بعدسة شعره ،ونقلها قصيدة (أب) ، وقد نالت من الذيوع والانتشار ما جعل الشاعر نفسه يعجب من ذلك ، حتى سماها قصيدة محظوظة ! كثر طلب الناس لها ،وإعجابهم بها ،وهي قصيدة في الحنين إلى أولاده في طفولتهم ،حينما خرجوا من داره في مصيف قرنايل بلبنان عام 1377 هـ عائدين إلى دارهم في (حلب) ،وتركوه وحيداً في صمت ثقيل ، بعد الصخب الذي كانوا يشعلونه في كل زاوية من البيت ،فما كان منه إلا أن أطلق هذا الاستفهام الظامئ اللاهث خلف كل أثر تركوه من حوله ،بحثاً عن اللذة التي لا تعرف إلا حين تفتقد .. يقول :
أين الضجيجُ العذبُ والشغبُ = أين التدارسُ شابَهُ اللعبُ
أين الطفولةُ في توقدِها = أين الدمي في الأرضِ والكتبُ
أين التشاكسُ دونما غرضٍ = أين التشاكي ما له سببُ
أين التباكي والتضاحكُ في = وقتٍ معاً ، والحزنُ والطربُ

يتكيء الشاعر في هذه الأبيات على حشد مجموعة من المتناقضات التي لا تكون حسنة إلا في دنيا الأطفال ،فالضجيج الذي تنفر منه الآذان أصبح عذباً مستساغاً في سمع الوالد الولهان ،والشغب الذي يتبرم منه الإنسان أصبح شيئاً نفيساً يبحث عنه ،والتدارس واللعب ،والدمي والكتب ،والبكاء والضحك ،والحزن والطرب ،ثنائيات محيرة ولكنها جميلة في حياة الطفولة يلتقطها الأميري بخفة ،ويحشدها وراء استفهاماته الذاهلة ليشحذ الذاكرة حتى تستعيد الصورة التي غابت عن عينيه في الواقع ، ولو في الخيال .

ويسترسل في تصويره الحي ،فيلتفت إلى ما يلامس علاقته بهم ملامسة مباشرة ،وهو شأن كل إنسان يفقد حبيباً كان ملء قلبه وعينيه ،فإنه يظل يتذكر منه ما كان سبب محبة أحدهم للآخر،أو أجمل المواقف بينهما ،لأن ذاك هو ما فقده منه ، يقول :

أين التسابق في مجاورتي = شغفاً إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي = والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوق فطرتهم = نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدهم (بابا) إذا فرحوا = ووعيدهم (بابا) إذا غضبوا
وهتافهم ( بابا ) إذا ابتعدوا = ونجيهم (بابا) إذا اقتربوا

(بابا) كلمة مقطوفة من لغة الحياة اليومية ،ودفئها الأسري ،لم يجر عليها الشاعر أي تعديل ،حتى لا يفقدها إيحاءها الشعوري ودفأها الأسري ،وتكرارها يشير بحب الشاعر للاستماع إليها من أطفاله ،ولا سيما حينما فقدها ،ولذلك فهو يتلذذ بترديدها .

ثم يلتفت إلى الفراغ الكبير الذي تركوه في الدار ، فيصور ببراعة الصمت الرهيب الذي أطبق على صدرها فيقول :

بالأمس كانوا ملء منزلنا = واليوم ويح اليوم قد ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت = أثقاله في الدار إذا غربوا
إغفاءة المحموم هدأتها = فيها يشيع الهم والتعبُ
ذهَبُوا، أجَلْ ذهبوا، ومَسْكـنُهم ...في القَلبِ، ما شطُّوا وما قـَرُبوا

وإذا كان في أول القصيدة يتساءل عنهم وعن لعبهم وعراكهم ، فهو الآن صار يتخيلهم وكأنهم صاروا بين يديه ، يتواثبون، ويتلاعبون :

إني أراهم أينما التفتت = نفسي ، وقد سكنوا وقد وثبوا
وأحس في خلدي تلاعبهم = في الدار ، ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهم إذا ظفروا = ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كل ركن منهم أثر = وبكل زاوية لهم صخبُ
في النافذات زجاجها حطموا = في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه = وعليه قد رسموا وقد كتبوا



في الصحنِ فيه بعضُ ما أكلُوا ...في عُلبةِ الحلوى التي نَهبُوا

في الشَطرِ مِن تُفاحة قضموا... في فَضلة المَاءِ التي سَــكَبُوا

إني أراهُمْ حَيثُما اتجَهَتْ... عيني كأسرَاب القَطَا ســــــــَرَبـوا

بالأمْسِ في "قرنايلٍٍ" نَزَلُوا...واليوم قد ضمَّــتــْـهمُ "حـَلَــــبُ"
ويختم القصيدة بالموقف العاطفي الذي تعرض له في لحظة الوداع ، وهو دائماً أصعب المواقف على المتحابين ، لأنه يهدم سبب اللذة الحاصلة في اللقاء :

دمعي الذي كتمته جلداً = لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا = من أضعلي قلباً بهم يجب
ألفيتني كالطفل عاطفة = فإذا به كالغيث ينسكب

يصدر الشاعر كلمة ( دمعي ) في هذا المقطع ، لأنها محور فكرته ، فالدمع الذي كتمه متجلداً حين كانوا ينظرون إليه ،هطل غيثاً سخياً عندما تفرد بنفسه ،ومن أجل أن يعذر في هبوط عاطفته إلى مستوى عاطفة الأطفال ( كما قال ) ،فإنه يعمم التجربة ،في حكمة تحمل العذر المقبول له أمام عاذليه ،ولتكون ترنيمة حرة ،يرددها كل ( أب ) في أية لحظة عاطفية مع أولاده يسكب فيها من أجلهم دمعة ،فيقول :

قد يعجب العذال من رجل = يبكي ، ولو لم أبك فالعجب
هيهات ، ما كل البكا خور = إني و بي عزمُ الرجالِ ،أبُ

وهي خاتمة رائعة ، لواحدة من أروع قصائد الأميري في شعره كله .



بقلم : د.خالد بن سعود الحليبي – المملكة العربية السعودية .

اختيار جميل وموفق وتعليق اروع من الابيات وليسمح لي الكاتب والناقل باضافه الابيات التي ربما تكون سقطت0

مدهش
05-27-2008, 08:33 AM
اختيار جميل وموفق وتعليق اروع من الابيات وليسمح لي الكاتب والناقل باضافه الابيات التي ربما تكون سقطت0

هونها وتهون
شهر ويجون
يعطيك العافية سعادة الدكتور

ابوسيفين
05-27-2008, 10:37 AM
هونها وتهون
شهر ويجون
يعطيك العافية سعادة الدكتور


ماشاء الله عليك ماخليت يامدهش ولا قسم من اقسام المنتدى،بس التصويت راح خلاص0

عموما لاتضحك من مصيبه أخيك يعافيه الله ويبتليك0

مناهل
05-27-2008, 09:18 PM
موضوع جميل وشيق

جزاك الله خيرا

اختيار جميل وموفق وتعليق اروع من الابيات وليسمح لي الكاتب والناقل باضافه الابيات التي ربما تكون سقطت0

جزاك الله خيرا , أشكر لك إضافة الأبيات التي لم يتعرض لها الدكتور بالتحليل .

______________________________

وإنما أولادنا بيننا =أكبادنا تمشي على الأرضِ
لو هَبَّتِ الريح على بعضهم = لامتنعت عيني عن الغمضِ