المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته


صقر قريش
09-27-2008, 02:01 PM
إذا كان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لم يستغل أصحابه الاستغلال الذي يؤدي إلى تحميلهم مالا طاقة لهم به، بمعنى أكثر وضوحاً، إنه لم يكن ينظر إليهم على أنهم وقود لمعركة، أو وسائل لتحقيق أهداف رحمةً بهم كما مرَّ بنا، لأنهم بالنسبة إليه هم المعركة التي يقاتل من أجلها، وما هم بوقود لها، وهم الهدف، وما كانوا يوماً وسيلة بيده، بالمعنى الذي نرى آثاره السلبية في سير كثير من القادة العظماء.

فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإنه كان شديد الحرص على التخفيف عنهم، وإظهار رحمته بهم، في كل أمورهم اليومية، على الرغم من شعوره الأكيد بشدة محبة أصحابه له، وقوة رغبتهم في طاعته، ومتابعته في كل ما يصدر عنه، من أقوال أو أفعال.
لقد جعل الرحمة بكل مظاهرها سمة بارزة في كل شؤون حياتهم، سواءً ما اتصل بها بعلاقاتهم مع ربهم تعالى، أو بعلاقاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أو بعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً، أو حتى بعلاقاتهم مع أقاربهم من غير المسلمين.
إن أول مظاهر هذه الرحمة هو الترغيب فيها، عبر نصوص واضحة دائمة، ليستقر في الأذهان، وعلى مر الأزمان، أنها هي طوق النجاة، وليس لأحد تجاوزها، أو تجاهلها.

وقد يتعذر علينا إيراد النصوص جميعها، ولكن حسبنا ما يتسع له المقام، فمنها قول الله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وإثبات اليسر، ودفع العسر، من أبرز مظاهر الرحمة.
وكذا قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78 )، وأية رحمة أعظم، وأظهر من تلك التي تؤدي إلى رفع الحرج والضيق عن أتباع نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، والتخفيف من الله تعالى رحمة ظاهرة: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ) (النساء:28)، أياً كانت صور هذا التخفيف ومظاهره.
ولقد أبلغ الله تعالى المسلمين، والنبيصلى الله عليه وسلم من قبل، بأن نبيهم رؤوف رحيم بهم، في قوله تعالى في وصف النبي الكريم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة : 128).
ولقد رغبت في أن أنظر فيما كتبه أهل الاختصاص، في معنى هذه الآية، وفي بيان الفرق بين الرأفة والرحمة. فوجدت كلاماً جميلاً، يسعدني أن ألخصه لكم، فقد قال بعض العلماء: الرأفة هي دفع المضار، والرحمة هي جلب المسار، بمعنى أن الرأفة مقدمة، فهي من باب التخلية، ثم تكون الرحمة التي تجلب النفع، فهي إذن من باب التحلية (1)، لا بأس أن أبين إن المراد بالتخلية إزالة الشوائب والأضرار، والمراد بالتحلية تزيين النفس بالخير وما ينفعها.

وقال بعضهم، الفرق بين الرأفة، والرحمة، أن الرأفة مبالغة فهي رحمة خاصة، وهي دفع المكروه، وإزالة الضرر، كقوله تعالى: (وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) (النور: 2)، أما الرحمة فإسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه الأفضال والإنعام(2)
لقد جمع الله تعالى لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم هذين الوصفين، بهذا الأسلوب، ليكشف بجلاء عن الحكمة البالغة، التي من أجلها وصف بهما النبي صلى الله عليه وسلم،وأنهما وصفان يبعثان الأمن والطمأنينة، في نفوس أتباع النبي، لأنهم يشعرون أنهم يعيشون في كنف من كلفه ربه أن يكون رؤوفاً رحيماً، وأن يعمل بمقتضى هذين الوصفين، فيدفع عن أتباعه الضرر والأذى والحرج، ويجلب لهم الأمن والخير والسعادة.

لقد استشعر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى العظيم، وهذا الوصف الكريم، فقالها صراحة لأصحابه ( إنما أنا رحمة مهداة )(3) وأنا أرى أن كلمة (مهداه ) في هذا الحديث، تشعر الإنسان بجمال الرحمة، وبمدى حاجة البشرية إليها، حتى كأنها ممن يهدى لمن يحب، فالله يحب خلقه، ولهذا أهدى إليهم النبي محمداً صلى الله عليه وسلم الذي استحضر هذا المعني العظيم، وعمل على تطبيقه ، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف في موطن آخر فقال ( إنما بعثت رحمة)(1) .
هذان الحديثان الصحيحان يدلان أن ثمة اتحاداً، أو تلازماً، لا ينفك بين الرحمة بكل مظاهرها، وبين شخص نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فلا يتصور والحالة هذه، أن يصدر عنه قول، أو فعل، لا تكون الرحمة أبرز سماته.
يحسن أن نذكر في هذا المقام، أن هذه الرحمة، بكل صورها، ومظاهرها، ليست خاصة بتلك الفئة التي تحيط بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ قد يتوهم أنه خصهم بهذا الوضع المتميز، لاعتبارات لا تخفى، تمليها الصحبة، والمعايشة، والرغبة في استبقائهم، والإفادة منهم، وما شابهها.

كلا ثم كلا، فإن كل ما نعم به أصحابه من رحمة، كان لكل من جاء بعدهم، النصيب الأوفى منه، وهذا ما تؤكده عموميات الأقوال، والتوجيهات، والأفعال، ولقد حدث مرة أن بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بالذات، فكان سؤاله نعمة لأن الجواب جاء بشرى.
وبيان هذا، أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أصاب من إمرأة قُبْلة، فأتى النبي، فأخبره، فأنزل الله عز وجل:(وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود :114) ، فقال الرجل: يا رسول الله، أليَ هذا ؟ قال: لجميع أمتي كلهم )(1).
إن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإعلان الذي يفيض رحمة، ليؤكد أن شفقته على أتباعه عبر مئات السنين القادمة، لا تقل عن شفقته ورحمته بأولئك الذين يعيشون معه ويشاهدونه صباح مساء.
صاحبت الرحمةُ تكاليف العبادة كلها، وكانت الرحمة تحدد طبيعة هذه العبادات، وتوجهها.
</span>

صقر قريش
09-27-2008, 02:04 PM
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالأطفال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يرحم لا يُرحم" (متفق عليه).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم. قالوا: لكنا - والله - ما نُقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة" (متفق عليه).

ففي هذين الحديثين بيانٌ عظيم لشفقة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، وأن تقبيل الصبي من مظاهر الرحمة والشفقة، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يُرحم" دليلٌ على أن الجزاء من جنس العمل، فمن حرم الأطفال من الرحمة والشفقة حرمه الله تعالى منها يوم القيامة.

ومن صور رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم، وهو يجود بنفسه - أي في سياق الموت - فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان وقال: "إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (رواه البخاري).

فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم حق العبودية في الصبر والرضا والتسليم لأمر الله تعالى. وأعطى ابنه حقه في الرحمة والشفقة وذرف الدمع والحزن على فراقه وهذا من أكمل صور العبودية.

ولما مات ابن ابنته فاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: "إنها رحمةٌ، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" (متفق عليه).

ومن صور رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه صلى الله عليه وسلم زار غلاماً يهودياً مريضاً كان يخدمه. فقال له: "قل لا إله إلا الله" فنظر الغلام إلى أبيه. فقال له: أطع أبا القاسم. فقالها الغلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" (رواه البخاري).

ومن ذلك أن غلاماً لأنس بن مالك رضي الله عنه اسمه عُمَيءر، كان له نُغءر - وهو الطائر الصغير - يلعب به، فمات النَّغءرُ، فحزن عليه الصبي، فذهب إليه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يزوره ليواسيه ويمازحه، فقال له: "يا أبا عُمَيرء! ما فعل النُّغَيءرُ" (متفق عليه).

وعن عبدالله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر للصلاة، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، فرفع شداد رأسه، فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يُوحى إليك. قال: "كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتجلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" (رواه النسائي وصححه الألباني).

ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال أنه كان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم (رواه النسائي وصححه الألباني).

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالصغار أنه كان يُؤتى بالصبيان فيُبرّكُ عليهم ويحنكهم (رواه مسلم).

ومعنى يُبرّكُ عليهم: يمسحهم بيده الشريفة ويدعو لهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.

فصلوات ربي وسلامه على هذا النبي الكريم الرحيم.

صقر قريش
09-27-2008, 02:05 PM
نَبِيُّ الرَّحْمَةِ (1)
رَحْمَتُه صلى الله عليه وسلم بِأَعْدَائِهِ:
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَحْمةً لِلبَشَرِيَّةِ كُلِّها، وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِذَلِكَ فَقَال: ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وَقَالَ النِّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً" [رواه مسلم].
فَكَانَتْ رَحْمتُه صلى الله عليه وسلم رَحْمةً عَامَّةً شَمِلَتِ المؤْمِنَ وَالكَافِرَ، فَهَا هُوَ الطَّفَيْلُ بْنُ عَمْروٍ الدَّوْسِيُّ ، يَيأْسُ مِن هِدَايةِ قَبِيلَتِه دَوْسٍ، فَيذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَد عَصَتْ وَأَبتْ, فَادْعُ اللهَ عَليْها.
فَاسْتَقْبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الْقِبلةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَأَيْقَن النَّاسُ بِهَلاكِ دَوْسٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وائتِ بِهمْ" [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
دَعَا لَهُمْ بِالهِدَايةِ وَالرَّشَادِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِم بِالعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ, لأَنَّه لَا يُرِيدُ للنَّاسِ إِلَّا الخيْرَ وَلَا يَرْجُو لَهُمْ إِلَّا الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ.
وَيَذْهَبُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ قَبَائِلِها إِلَى الْإِسْلَام, فَيُقَابِلَهُ أَهْلُهَا بِالجُحُودِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيُغْرُوا بِه سُفَهَاءَهُمْ، فَيَضْرِبُوهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْ عَقِبَيْهِ صلى الله عليه وسلم.
وَتَرْوِي عَائِشةُ رَضِي اللهُ عَنْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَومٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ - وَكَانَ أَشدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُم - يَوْمَ الْعَقَبةِ، إِذْ عَرضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْد يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلى مَا أَردْتُ, فَانْطَلقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي, فَنظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْريلُ, فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي اللهُ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك فَما شِئْتَ؟ إِنْ شِئتَ أَنْ أُطْبِق عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ". فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا" [متفق عليه].
إِنَّها الرَّحْمَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي جَعلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْسَى جِرَاحَه الَّتِي تَسِيلُ, وَقلْبَه المنْكِسِرَ، وَفُؤادَه المكْلُومَ، وَلَا يَتذكَّر سِوَى إِيصَالِ الخيْرِ لِهؤلاءِ النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور وَهِدَايتَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ المسْتَقِيمِ.
وَيفْتَحُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَيدْخُلُها فِي عَشْرةِ آلافِ مُقَاتِلٍ, وَيُحكِّمُه اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي رِقَاب مَنْ آذَوْه وَطَردُوه وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِه، وَأَخْرَجُوه مِن بَلدِهِ، وَقَتلُوا أَصْحَابَه وَفَتنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.
فَيَقُولُ أَحَدُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الفَتْحُ الْأَعْظَمُ "اليومَ يَوْمُ الملْحَمَة" فَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ اليَوْمَ يَومُ المرْحَمَةِ".
ثُمَّ يخْرُج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى هَؤُلاءِ المنْهزِمِينَ وَقَدْ شَخِصتْ أَبْصَارُهمْ, وَوجِلَتْ قُلوبُهمْ, وَجَفَّتْ حُلُوقُهمْ، يَنْتَظِرونَ مَاذا سَيفْعَلُ بِهم هَذا القَائِدُ المنتَصِرُ، وَهمُ الّذِينَ اعْتادُوا عَلى الْغَدْرِ وَالانْتِقامِ وَالتَّمثيلِ بِقَتْلى المسْلِمينَ كَمَا فَعلُوا فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا.
فَقَالَ لَهمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا معْشَر قُرَيْشٍ مَا تروْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟".
قَالُوا: خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أخٍ كَرِيمٍ.
فَقَالَ لَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ" فَانْطلَقوا كَأَنَّهم نُشِروا مِنَ القُبورِ.
فَهذَا العَفْو الشَّاملُ نَتيجةُ الرَّحْمةِ الَّتِي فِي قلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالَّتِي عَظُمَتْ لتَشْمَل أكْثرَ أَعْدَائِهِ إِيذاءً لَه وَلأصْحَابِه, فَلَوْلَا هَذِهِ الرحمةُ لما حَدثَ هَذا الْعَفْوُ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُول: "إِنَّما أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" [رَوَاه الحاكم].

صقر قريش
09-27-2008, 02:05 PM
نَبِيُّ الرَّحْمَةِ (2)
رَحْمَتُهُ صلى الله عليه وسلم بِالْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ:
ذَكَرْنَا أَنَّ الرحمةَ النَّبويَّةَ اتَّسعَتْ لِتشْملَ الْكَافِرَ فَضْلاً عَنِ المسْلِمِ الموَحِّدِ، وَنَزيدُ هُنَا أَنَّ رحْمةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَجاوَزَتِ الجنْسَ البَشَرِيَّ حَتَّى شَمِلَتِ الـحَيوَانَ والجَمَادَ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَد بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَىَ مِنَ الْعَطَشِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلَبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ, فَمَلَأ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ" قَالُوا: يَا رَسولَ اللهِ! وَإِنَّ لَنَا فِي هَذه البَهائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَال صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" [مُتَّفَقٌ عليه].
بِهذِه الْقَاعِدةِ الْعَامَّةِ "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" سَبقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ المنظَّماتِ وَالهيْئَاتِ الَّتِي تُعنَى بِالدِّفَاع عَنْ حُقُوقِ الحَيوَان وَالرِّفْقِ بِهِ، سَبَقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِئاتِ السِّنينَ يَوْمَ قَال: "عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ, سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ, لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ" [متفق عليه].
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصِدُ بِهذَا تَعلِيمَ أَصْحَابِهِ الرِّفْقَ بِالحيوَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْه، وَيُبيِّنُ لَهمْ أَنَّ قَتلَ الحيوَانَ غَيْرِ المأَذْونِ فِي قتْلِه, أَوْ التَّسبُّبَ فِي قَتْلِه يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ سَببًا فِي دُخُولِ النَّارِ وَالعِياذُ بِاللهِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا تَعْرِفُه القَوانِينُ الوَضْعِيَّةُ الَّتِي يحكُمُ بِها النَّاسُ اليَوْمَ.
وَحَذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن قَتْلِ الحَيوَانِ بِلَا هَدفٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ". قِيل: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا حقُّها؟ قَالَ: "حَقُّهَا أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا, وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهِ" [رواه النَّسائيُّ].
وَقَدْ أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِالإحْسَانِ عِنْدَ ذَبْحِ الذَّبَائحِ فَقَال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ, وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ, وَلِيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"[رواه مسلم]، وَقَدْ ذَكر أَحدُ الْعُلَماءِ أَنَّ بعضَ الغَرْبِيِّين أَسْلَموا لـمّا عَلِمُوا آدابَ الإِسْلامِ فِي الذَّبْح وَهَذَا يَدلُّ عَلى كَمالِ هَذَا الدِّيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَللهِ الحمْدُ وَالـمِنَّةُ.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا" [متَّفقٌ عليْهِ] أَيْ لَا تتّخذُوا الحيوَانَ الحيَّ هَدفًا تَرمُونَهُ بِسِهامِكُمْ, لَأَنَّ هَذَا مُنَافٍ للرَّحمةِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى المؤْمنِ أَنْ يتحلَّى بِها.
وَالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ الظُّلْمَ والقهرَ حَتَّى عَنِ الحيوَانِ وَيهتَمَّ بذَلِكَ أَشدَّ الاهْتِمامِ، فَقَدْ دَخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بُستانًا لِرجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ, وَإِذْ فِي البُسْتَانِ جَمَلٌ, فَلَمَّا رَأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وذَرِفَتْ عَيْنَاهُ.
فَأتَى إِليهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم, فَمسحَ عَلَى رَأْسِه، فَسكَن, ثُمَّ قَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَل؟" فَجَاءَ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ! فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا تتقِي اللهَ فِي هَذِهِ البَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟ فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُه( )" [رَواهُ أَبُوداود وصحَّحه الألبَانيُّ].
وَللجَمادِ نَصيبٌ مِنَ الرَّحْمةِ المحمَّدِيةِ, فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمّا صُنِعَ لَه المنبرُ، صَاحَتِ النخْلَةُ الَّتِي كَانَ يخْطُب عَلَيْها صِياحَ الصَّبِيِّ، فَنَزَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَلَى المنْبَرِ، فَضَمَّها إِلَيْهِ، فَجَعلتْ تَئِنُّ أنِينَ الصَّبيِّ الَّذي يُسَكَّن، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "بَكَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ".
كَان الحسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهذا الحدِيثِ بَكَى وَقَالَ: يَا مَعْشَر المسْلِمِيْنَ الخشبة تَحنُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شوقًا إِلَى لِقَائِهِ، فَأنْتُم أَحَقُّ أَنْ تَشتَاقُوا إِلَيْهِ( ).

ولد الديرة
09-27-2008, 04:14 PM
جزاك الله خيرا
ويعطيك العافية

جميل كردي
09-27-2008, 04:56 PM
صل الله عليه وسلم

البحتري
09-28-2008, 05:30 AM
بارك الله فيك