منتديات بلاد ثمالة

منتديات بلاد ثمالة (http://www.thomala.com/vb/index.php)
-   الــمـنـتـدى الإسـلامــــــــي (http://www.thomala.com/vb/forumdisplay.php?f=12)
-   -   تفسير جزء عم لابن عثيمين (http://www.thomala.com/vb/showthread.php?t=47400)

صقر قريش 09-01-2009 05:57 PM

تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم لابن عثيمين
سورة النبأ ابن عثيمين

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَـداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَـكُمْ أَزْوَجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً * لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّـتٍ أَلْفَافاً}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{عم يتساءلون} يعني عم يتساءل هؤلاء، ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال: {عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون} وهذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البينات والهدى، ولاسيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الاخر والبعث والجزاء، وقد اختلف الناس في هذا النبأ الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فمنهم من آمن به وصدق، ومنهم من كفر به وكذب، فبين الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق، ولهذا قال سبحانه هنا: {كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون} والجملة الثانية توكيدٌ للأولى من حيث المعنى، وإن كانت ليست توكيداً باعتبار اصطلاح النحويين؛ لأنه فُصل بينها وبين التي قبلها بحرف العطف، والتوكيد لا يُفصل بينه وبين مؤكدة بشيء من الحروف. والمراد بالعلم الذي توعدهم الله به هو علم اليقين الذي يشاهدونه على حسب ما أخبروا به.
ثم بين الله تعالى نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها فقال: {ألم نجعل الأرض مهاداً} أي جعل الله الأرض مهاداً ممهدة للخلق ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها، ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به. {والجبال أوتاداً} أي جعلها الله تعالى أوتاداً بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به، وهو أيضاً ثابت كما قال تعالى: {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها} [فصلت: 10]. وهذه الأوتاد قال علماء الأرض: إن هذه الجبال لها جذور راسخة في الأرض كما يرسخ جذر الوتد بالجدار، ولذلك تجدها صلبة قوية لا تزعزعها الرياح وهذا من تمام قدرته ونعمته. {وخلقناكم أزواجاً} أي أصنافاً ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراده الله عز وجل واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة. {وجعلنا نومكم سباتاً} أي قاطعاً للتعب، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، ويستجد به الإنسان نشاطاً للمستقبل، ولذلك تجد الرجل إذا تعب ثم نام استراح وتجدد نشاطه، وهذا من النعمة وهو أيضاً من آيات الله كما قال الله تعالى: {ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله}. [الروم: 23]. {وجعلنا الليل لباساً} أي جعل الله هذا الليل على الأرض بمنزلة اللباس كأن الأرض تلبسه ويكون جلباباً لها، وهذا لا يعرفه تمام المعرفة إلا إذا صعد فوق ظل الأرض، وقد رأينا ذلك من الايات العجيبة إذا صعدت في الطائرة وارتفعت وقد غابت الشمس عن سطح الأرض ثم تبينت لك الشمس بعد أن ترتفع تجد الأرض وكأنما كسيت بلباس أسود. {وجعلنا النهار معاشاً} أي معاشاً يعيش الناس فيه في طلب الرزق على حسب درجاتهم وعلى حسب أحوالهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على العباد. {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها قوية كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} [الذاريات: 47]. أي بنيناها بقوة. {وجعلنا سراجاً وهَّاجاً} يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضاً ذات حرارة عظيمة. {وهاجاً} أي وقَّادة، وحرارتها في أيام الصيف حرارة شديدة مع بعدها الساحق عن الأرض، فما ظنك بما يقرب منها، ثم إنها تكون في أيام الحر في شدة حرها من فيح جهنم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم». وقال عليه الصلاة والسلام: «اشتكت النار إلى الله فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم، وأشد ما يكون من الحر من فيح جهنم». ومع ذلك فإن فيها مصلحة عظيمة للخلق فهي توفر على الخلق أموالاً عظيمة في أيام النهار حيث يستغني الناس بها عن إيقاد الأنوار، وكذلك الطاقة التي تستخرج منها تكون فيها فوائد كثيرة، وكذلك إنضاج الثمار وغير هذا من الفوائد العديدة من هذا السراج الذي جعله الله عز وجل لعباده.
ولما ذكر السراج الوهاج الذي به الحرارة واليبوسة ذكر ما يقابل ذلك فقال: {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً} والماء فيه رطوبة وفيه برودة، وهذا الماء أيضاً تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف إلى هذا ماء السماء وحرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون. {وأنزلنا من المعصرات} يعني من السحاب، ووصفها الله بأنها معصرات كأنما تعصر هذا الماء عند نزوله عصراً، كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور، وقوله: {ماء ثجَّاجاً} أي كثير التدفق واسعاً. {لنخرج به حبًّا ونباتاً} أي لنخرج بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض فتنبت الأرض ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه البر والشعير والذرة وغيرها. {وجنات ألفافا} أي بساتين ملتفاً بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها، والتفاف بعضها إلى بعض، وهي الأشجار التي لها ساق، فيخرج من هذا الماء الثجاج الزروع والنخيل والأعناب وغيرها سواء خرج منه مباشرة أو خرج منه بواسطة استخراج الماء من باطن الأرض؛ لأن الماء الذي في باطن الأرض هو من المطر كما قال تعالى: {فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} [الحجر: 22]. وقال تعالى في آية أخرى: {فسلكه ينابيع في الأرض}. [الزمر: 21].
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على العباد ذكر حال اليوم الاخر وأنه ميقات يجمع الله به الأولين والاخرين فقال تعالى:
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَـتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً * وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِّلطَّـغِينَ مَـَاباً * لَّـبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَآءً وِفَـقاً * إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِـَايَـتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـهُ كِتَـباً * فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}.
قال تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه، فيفصل بين أهل الحق وأهل الباطل، وأهل الكفر وأهل الإيمان، وأهل العدوان وأهل الاعتدال، ويفصل فيه أيضاً بين أهل الجنة والنار، فريق في الجنة وفريق في السعير. {كان ميقاتاً} يعني موقوتاً لأجل معدود كما قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} [هود: 104]. وما ظنك بشيء له أجل معدود وأنت ترى الأجل كيف يذهب سريعاً يوماً بعد يوم حتى ينتهي الإنسان إلى آخر مرحلة، فكذلك الدنيا كلها تسير يوماً بعد يوم حتى تنتهي إلى آخر مرحلة، ولهذا قال تعالى: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} كل شيء معدود فإنه ينتهي. {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} والنافخ الموكل فيها إسرافيل، ينفخ فيها نفختين: الأولى: يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم تعود إليهم أرواحهم، ولهذا قال هنا: {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} وفي الاية إيجاز بالحذف أي فتحيون فتأتون أفواجاً؛ فوجاً مع فوج أو يتلو فوجاً، وهذه الأفواج ـ والله أعلم ـ بحسب الأمم كل أمة تدعى إلى كتابها لتحاسب عليه، فيأتي الناس أفواجاً في هذا الموقف العظيم الذي تسوى فيه الأرض فيذرها الله عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وفي هذا اليوم يقول الله عز وجل: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} فتحت وانفرجت فتكون أبواباً يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفاً محفوظاً تكون في ذلك اليوم أبواباً مفتوحة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذه السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبواباً {يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن. ولا يسأل حميم حميماً. يبصرونهم} [المعارج: 8 ـ 11]. {وسيرت الجبال فكانت سراباً} أي أن الجبال العظيمة الصماء تُدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير {وسيرت الجبال فكانت سراباً}. قوله تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مئاباً. لابثين فيها أحقاباً} الطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. [الذاريات: 56]. فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهو الطاغي، فجهنم كانت للطاغين مآبهم ومرجعهم وأنهم لابثون فيها أحقاباً. {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} نفى الله سبحانه وتعالى عنهم البرد الذي تبرد به ظواهر أبدانهم، والشراب الذي تبرد به أجوافهم. {إلا حميماً وغساقاً} الاستثناء هنا منقطع عند النحويين لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والمعنى ليس لهم إلا هذا الحميم وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة. {يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29]. {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم}. [محمد: 15]. {وغساقاً} قال المفسرون: إن الغساق هو شراب منتن الرائحة شديد البرودة، فيجمع لهم ـ والعياذ بالله ـ بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين: من ناحية الحرارة، ومن ناحية البرودة، بل إن بعض أهل التفسير قالوا: إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك. وعلى كل حال فالاية الكريمة تدل على أنهم لا يذوقون إلا هذا الشراب الذي يقطع أمعاءهم من حرارته، ويفطّر أكبادهم من برودته، نسأل الله العافية. وإذا اجتمعت هذه الأنواع من العذاب كان ذلك زيادة في مضاعفة العذاب عليهم. {جزاء وفاقاً} أي يجزون بذلك جزاء موافقاً لأعمالهم من غير أن يظلموا، قال الله تبارك وتعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون} [يونس: 44]. فهذا الجزاء موافق مطابق لأعمالهم. ثم بين وجه الموافقة أي موافقة هذا العذاب للأعمال فقال: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كِذَّاباً} فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول، {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} أي لا يؤملون أن يحاسبوا بل ينكرون الحساب، ينكرون البعث يقولون: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} فلا يرجون حساباً يحاسبون به لأنهم ينكرون ذلك، هذه عقيدة قلوبهم، أما ألسنتهم فيكذبون يقولون هذا كذب، هذا سحر، هذا جنون، وما أشبه ذلك كما جاء في كتاب الله ما يصف به هؤلاء المكذبون رسل الله، كما قال عز وجل: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52]. وقال الله تعالى عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} [ص: 4]. وقالوا إنه شاعر {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} [الطور: 30]. {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} [الحجر: 7]. ولولا أن الله ثبت أقدام الرسل وصبرهم على قومهم ما صبروا على هذا الأمر، ثم إن قومهم المكذبين لهم لم يقتصروا على هذا بل آذوهم بالفعل كما فعلوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام من الأذية العظيمة بل آذوهم بحمل السلاح عليهم، فمن كانت هذه حاله فجزاؤه جهنم جزاءً موافقاً مطابقاً لعمله كما في هذه الاية الكريمة: {جزاء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً. وكذبوا بآياتنا كذاباً}. قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه كتاباً} {كل شيء} يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعمله العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير {أحصيناه} أي ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف. {كتاباً} يعني كتباً، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى كتب مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، ومن جملة ذلك أعمال بني آدم فإنها مكتوبة، بل كل قول يكتب، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. رقيب يعني مراقب، والعتيد يعني الحاضر. ودخل رجل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض يئن من مرضه فقال له: يا أبا عبدالله إن طاووساً وهو أحد التابعين المشهورين يقول: إن أنين المريض يكتب، فتوقف رحمه الله عن الأنين خوفاً من أن يكتب عليه أنين مرضه. فكيف بأقوال لا حدّ لها ولا ممسك لها، ألفاظ تترى طوال الليل والنهار ولا يحسب لها الحساب، فكل شيء يكتب حتى الهم يكتب إما لك وإما عليك، من همّ بالسيئة فلم يعملها عاجزاً عنها فإنها تكتب عليه، وإن هم بها وتركها لله فإنها تكتب له، فلا يضيع شيء كل شيء أحصيناه كتاباً. {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} هذا الأمر للإهانة والتوبيخ، يعني يقال لأهل النار: ذوقوا العذاب إهانة وتوبيخاً فلن نزيدكم إلا عذاباً ولن نخفف عنكم بل ولا نبقيكم على ما أنتم عليه لا نزيدكم إلا عذاباً في قوته ومدته ونوعه، وفي آية أخرى أنهم يقولون لخزنة جهنم: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [غافر: 49]. تأمل هذه الكلمة من عدة أوجه:
أولاً: أنهم لم يسألوا الله سبحانه وتعالى وإنما طلبوا من خزنة جهنم أن يدعوا لهم. لأن الله قال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}. [المؤمنون: 108]. فرأوا أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يسألوا الله ويدعوه إلا بواسطة.
ثانياً: أنهم قالوا: {ادعوا ربكم} ولم يقولوا: ادعوا ربنا، لأن وجوههم وقلوبهم لا تستطيع أن تتحدث أو أن تتكلم بإضافة ربوبية الله لهم أي بأن يقولوا ربنا، عندهم من العار والخزي ما يرون أنهم ليسوا أهلاً لأن تضاف ربوبية الله إليهم بل قالوا {ربكم}.
ثالثاً: لم يقولوا يرفع عنا العذاب بل قالوا: {يخفف} لأنهم آيسون نعوذ بالله، آيسون من أن يرفع عنهم.
رابعاً: أنهم لم يقولوا يخفف عنا العذاب دائماً، بل قالوا {يوماً من العذاب} يوماً واحداً، بهذا يتبين ما هم عليه من العذاب والهوان والذل {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45]. أعاذنا الله منها.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَـباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّيَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}.
ذكر الله عز وجل ما للمتقين من النعيم بعد قوله: {إن جهنم كانت مرصاداً. للطاغين مآباً}. لأن القرآن مثاني إذا ذكر فيه العقاب ذكر فيه الثواب، وإذا ذكر الثواب ذكر العقاب، وإذا ذكر أهل الخير ذكر أهل الشر، وإذا ذكر الحق ذكر الباطل، مثاني حتى يكون سير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء؛ لأنه إن غلب عليه الرجاء وقع في الأمن من مكر الله، وإن غلب عليه الخوف وقع في القنوط من رحمة الله، وكلاهما من كبائر الذنوب، كلاهما شر، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «ينبغي أن يكون الإنسان في عبادته لربه بين الخوف والرجاء، فأيهما غلب هلك صاحبه». لذلك تجد القرآن الكريم يأتي بهذا وبهذا، ولئلا تمل النفوس من ذكر حال واحدة والإسهاب فيها دون ما يقابلها. وهكذا، لأجل أن يكون الإنسان حين يقرأ القرآن راغباً راهباً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.
{إن للمتقين مفازاً} المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامر الله واجتناب نواهيه، وأحياناً يأمر الله بتقواه، وأحياناً يأمر بتقوى يوم الحساب، وأحياناً يأمر بتقوى النار، قال الله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار} [آل عمران: 130]. فجمع بين الأمر بتقواه والأمر بتقوى النار، وقال تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281]. فأمر بتقوى يوم الحساب، وكل هذا يدور على معنى واحد وهو: أن يتقي الإنسان محارم ربه فيقوم بطاعته وينتهي عن معصيته، فالمتقون هم الذين قاموا بأوامر الله واجتنبوا نواهي الله، هؤلاء لهم {مفازاً}، والمفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضاً، فهم فائزون في أمكنتهم، وفائزون في أيامهم. {حدائق وأعنابا} هذا نوع المفاز، {حدائق} أي بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة الأشجار. {وأعناباً} الأعناب جمع عنب وهي من جملة الحدائق لكنه خصها بالذكر. {وكواعب أترابا} الكواعب جمع كاعب وهي التي تبين ثديها ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر. {وأتراباً} أي على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبراً كما في نساء الدنيا، لأنها لو اختلفت إحداهن عن الأخرى كبراً فربما تختل الموازنة بينهما، وربما تكون إحداهما محزونة إذا لم تساوي الأخرى، لكنهن أتراب. {وكأساً دهاقاً} أي كأساً ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر. وربما يكون للخمر وغيره، لأن الجنة فيها {أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {لا يسمعون فيها لغواً} لا يسمعون في الجنة لغواً أي كلاماً باطلاً لا خير فيه. {ولا كذاباً} أي ولا كذباً فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضاً، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخواناً. {جزاء من ربك عطاء} أي أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله. {حساباً} أي كافياً، مأخوذة من الحسب وهو الكفاية أي أن هذا الكأس كأس كافٍ لا يحتاجون معه إلى غيره لكمال لذته وتمام منفعته.
{رَّبِّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً * يَوْمَ يَقُومُالرُّوحُ وَالْمَلَـئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَقَالَ صَوَاباً * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَـَاباً * إِنَّآ أَنذَرْنَـكُمْ عَذَاباًقَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَـلَيْتَنِى كُنتُ تُرَباً }.
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} فالله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء، قال الله تعالى: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} [النمل: 91]. فهو رب السماوات السبع الطباق، ورب الأرض وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وما بينهما} أي ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وقوله: {لا يملكون منه خطاباً} يعني أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك {يوم يقوم الروح} وهو جبريل {والملائكة صفًّا} أي صفوفاً. صفًّا بعد صف، لأنه كما جاء في الحديث: «تنزل ملائكة السماء الدنيا فتحيط بالخلق، ثم ملائكة السماء الثانية من وراءهم، ثم الثالثة والرابعة والخامسة» وهكذا.. صفوفاً لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم سبحانه وتعالى. {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً} أي لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم كما قال تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} [طه: 108]. {إلا من أذن له الرحمن} بالكلام فإنه يتكلم كما أُذن له. {وقال صواباً} أي قال قولاً صواباً موافقاً لمرضات الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة إذا أذن الله لأحد أن يشفع شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أُذن له. {ذلك اليوم الحق} أي ذلك الذي أخبرناكم عنه هو اليوم الحق، والحق ضد الباطل أي الثابت الذي يقوم فيه الحق، ويقوم فيه العدل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} أي من شاء عمل عملاً يؤوب به إلى الله ويرجع به إلى الله، وذلك العمل الصالح الموافق لمرضاة الله تعالى. وقوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً} قيدتها آية أخرى وهي قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} [التكوير: 28، 29]. يعني أننا لنا الخيار فيما نذهب إليه لا أحد يكرهنا على شيء؛ لكن مع ذلك خيارنا وإرادتنا ومشيئتنا راجعة إلى الله {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} وإنما بين الله ذلك في كتابه من أجل أن لا يعتمد الإنسان على نفسه وعلى مشيئته بل يعلم أنها مرتبطة بمشيئة الله، حتى يلجأ إلى الله في سؤال الهداية لما يحب ويرضى. لا يقول الإنسان أنا حر أريد ما شئت وأتصرف كما شئت، نقول الأمر كذلك لكنك مربوط بإرادة الله عز وجل. {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} أي خوفناكم من عذاب قريب وهو يوم القيامة. ويوم القيامة قريب، ولو بقيت الدنيا ملايين السنين فإنه قريب {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} [النازعات: 46]. فهذا العذاب الذي أنذرنا الله قريب، ليس بين الإنسان وبينه إلا أن يموت، والإنسان لا يدري متى يموت قد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، ولهذا كان علينا أن نحزم في أعمالنا، وأن نستغل الفرصة قبل فوات الأوان. {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} المرء: أي كل امرىء ينظر ما قدمت يداه ويكون بين يديه ويعطى كتابه، ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. ويقول الكافر من شدة ما يرى من الهول وما يشاهده من العذاب: {يا ليتني كنت تراباً} أي ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، أو إذا رأى البهائم التي يقضي الله بينها ثم يقول كوني تراباً فتكون تراباً يتمنى أن يكون مثل البهائم فقوله: {كنت تراباً} تحتمل ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: يا ليتني كنت تراباً فلم أُخلق، لأن الإنسان خُلق من تراب.
المعنى الثاني: ياليتني كنت ترابًا فلم أُبعث، يعني كنت ترابًا في أجواف القبور.
المعنى الثالث: أنه إذا رأى البهائم التي قضى الله بينها وقال لها كوني تراباً فكانت تراباً قال: ليتني كنت تراباً أي كما كانت هذه البهائم ـ والله أعلم ـ وإلى هنا تنتهي سورة النبأ، وفيها من المواعظ والحكم وآيات الله عز وجل ما يكون موجباً للإيقان والإيمان، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكتابه، وأن يجعله موعظة لقلوبنا، وشفاء لما في صدورنا، إنه جواد كريم.

صقر قريش 09-01-2009 06:01 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم النازعات محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالنَّـزِعَـتِ غَرْقاً * وَالنَّـشِطَـتِ نَشْطاً * وَالسَّـبِحَـتِ سَبْحاً * فَالسَّـبِقَـتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـرُهَا خَـشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَـفِرَةِ * أَءِذَا كُنَّا عِظَـماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَـسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والنازعات غرقا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها {غرقا} أي نزعاً بشدة. {والناشطات نشطا} يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطاً: أي تسلها برفق كالأنشوطة، والأنشوطة: الربط الذي يسمونه عندنا (التكة) أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله، فتنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعاً يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع. أما أرواح المؤمنين ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: أخرجي يا أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب أخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قالت عائشة: يا رسول الله: إنَّا لنكره الموت، فقال: «ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه»، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر ـ والعياذ بالله ـ بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، يكره لقاء الله فيكره الله لقاءه. {والسابحات سبحا} هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار {كل في فلك يسبحون} فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 38 ـ 40]. يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به {فلما رآه مستقرّاً عنده} في الحال رآه {قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءَأَشكر أم أكفر} قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى جاءت به إلى سليمان من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به. {فالسابقات سبقاً} أيضاً هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}. [التحريم: 6]. وقال عز وجل: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19، 20]. فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل. {فالمدبرات أمراً} أيضاً وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، فجبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، وإسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضاً من حملة العرش، وميكائيل موكل بالقطر وبالمطر والنبات، وملك الموت موكل بالأرواح، ومالك موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة، وعن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال، كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به. فهذه الأوصاف كلها أوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل. ثم قال تعالى: {يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة} هذه {يوم ترجف} متعلقة بمحذوف والتقدير أذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة}، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاءالله، والنفخة الثانية يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات:: 13، 14]. إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرافدة انقسم الناس إلى قسمين: {قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة. يقولون إنا لمردودون في الحافرة. أإذا كنا عظاماً نخرة قالوا تلك إذاً كرة خاسرة} وهذه قلوب الكفار {واجفة} أي: خائفة خوفاً شديداً. {أبصارها خاشعة} يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غضت أبصارهم ـ والعياذ بالله ـ لذلهم قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي}[الشورى: 45]. {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال: {فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة} وهذا كقوله تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} [القمر: 50]. يعني أنَّ الله إذا أراد شيئاً إنما يقول له: (كن) مرة واحدة فقط فيكون ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة {إلا واحدة كلمح بالبصر} والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدل دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة}.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الاَْيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاَْخِرَةِ وَالاُْوْلَى * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى}.
ثم قال تعالى مبيناً ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} والخطاب في .........................................قوله: {هل أتاك} للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (هل أتاك يا محمد)، وعلى المعنى الثاني: (هل أتاك أيها الإنسان) {حديث موسى} وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكر هؤلاء الخمسة في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} [الأحزاب: 7]. والثاني في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13]. وحديث موسى عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله: {هل أتاك حديث موسى} تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة. {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا}[مريم: 52]. وقوله: {بالواد المقدس} هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدساً لأنه كان فيه الوحي إلى موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله: {طوى} اسم للوادي. {اذهب إلى فرعون إنه طغى} فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره {قال يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري} فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وأمر الله نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى فرعون وهذه هي الرسالة، وبين سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل ـ أعني فرعون ـ وفي سورة طه قال: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} [طه: 43]. ولا منافاة بين الايتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولاً ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون عليه الصلاة والسلام مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون. وقوله تعالى: {إنه طغى} أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]. ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد. {فقل هل لك إلى أن تزكى} الاستفهام هنا للتشويق، تشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: {وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون} [فصلت: 6، 7]. ومنه قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 ـ 10]. {وأهديك إلى ربك} أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله. {فتخشى} أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف. الفرق بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:: 28]. وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحاً لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم. أي فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره الله به {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: {فأراه الاية الكبرى} يعني أرى موسى فرعون الاية الكبرى، فما هي هذه الاية؟ الاية أن معه عصاً من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئاً جماداً إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فوراً إلى حاله الأولى عصا من جملة العصي، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام بهذه الاية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضاً ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشراً شائعاً فأرسله الله عز وجل بشيء يغلب السحرة الذين تصدوا لموسى عليه الصلاة والسلام. قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشاراً عظيماً، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برىء بإذن الله {يبرىء الأكمه والأبرص} مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرىء الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرىء الأكمه الذي خلق بلا عيون، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وhشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تماماً لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} [الإسراء: 88]. يعني لو كان بعضهم يعاون بعضاً فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعون الاية الكبرى ولكن لم ينتفع بالايات {وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: {فكذب وعصى} كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولاً بل قال {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27]. وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه. {ثم أدبر يسعى} أي تولى مدبراً يسعى حثيثاً. {فحشر فنادى} حشر الناس أي جمعهم ونادى فيهم بصوت مرتفع ليكون ذلك أبلغ في نهيهم عما يريد منهم موسى عليه الصلاة والسلام. {فقال أنا ربكم الأعلى} يعني لا أحد فوقي لأن {الأعلى} اسم تفضيل من العلو، فانظر كيف استكبر هذا الرجل وادعى لنفسه ما ليس له في قوله: {أنا ربكم الأعلى} وكان يفتخر بالأنهار والُملك الواسع يقول لقومه في ما قال لهم {يا قومِ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} [الزخرف:: 51، 52]. فما الذي حصل؟ أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به، وأورث الله ملك مصر بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم. {فأخذه الله نكال الاخرة والأولى} أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، {نكال الاخرة والأولى} يعني أنه نكّل به في الاخرة وفي الأولى، فكان عبرة في زمنه، وعبرة فيما بعد زمنه إلى يوم القيامة، كل من قرأ كتاب الله وما صنع الله بفرعون فإنه يتخذ ذلك عبرة يعتبر به، وكيف أهلكه الله مع هذا الملك العظيم وهذا الجبروت وهذا الطغيان فصار أهون على الله تعالى من كل هين. {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {إن في ذلك} أي فيما جرى من إرسال موسى إلى فرعون ومحاورته إياه واستهتار فرعون به واستكباره عن الانقياد له عبرة، {لمن يخشى} أي يخشى الله عز وجل، فمن كان عنده خشية من الله وتدبر ما حصل لموسى مع فرعون والنتيجة التي كانت لهذا ولهذا فإنه يعتبر ويأخذ من ذلك عبرة، والعبر في قصة موسى كثيرة ولو أن أحداً انتدب لجمع القصة من الايات في كل سورة ثم يستنتج ما حصل في هذه القصة من العبر لكان جيداً، يعني يأتي بالقصة كلها في كل الايات، لأن السور في بعضها شيء ليس في البعض الاخر، فإذا جمعها وقال مثلاً يؤخذ من هذه القصة العظيمة العبر التالية ثم يسردها، كيف أرسله الله عز وجل إلى فرعون؟ كيف قال لهما {فقولا له قولاً ليناً} [طه: 44]. مع أنه مستكبر خبيث؟ وكيف كانت النتيجة؟ وكيف كان موسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب كما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة يترقب، وصارت العاقبة للرسول عليه الصلاة والسلام ولموسى عليه الصلاة والسلام، لكن العاقبة للرسول صلى الله عليه وسلّم بفعله وأصحابه، عذب الله أعداءهم بأيديهم، وعاقبة موسى بفعل الله عز وجل، فهي عبر يعتبر بها الإنسان يصلح بها نفسه وقلبه حتى يتبين الأمر.
{أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَـهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـهَا * وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَـهَا * مَتَـعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَـمِكُمْ}.
{ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} هذا الاستفهام لتقرير إمكان البعث؛ لأن المشركين كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبعث وقالوا: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78]. فيقول الله عز وجل: {ءأنتم أشد خلقاً أم السماء} الجواب معلوم لكل أحد أنه السماء كما قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [غافر: 57]. {بناها} هذه الجملة لا تتعلق بالتي قبلها، ولهذا ينبغي للقارىء إذا قرأ أن يقف على قوله {أم السماء} ثم يستأنف فيقول: {بناها} فالجملة استئنافية لبيان عظمة السماء، {بناها} أي بناها الله عز وجل وقد بين الله سبحانه وتعالى في آية أخرى في سورة الذاريات أنه بناها بقوة فقال: {والسماء بنيناها بأيد} أي بقوة {وإنا لموسعون}. {رفع سمكها فسواها} رفعه يعني عن الأرض ورفعه عز وجل بغير عمد كما قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2]. {فسواها} أي جعلها مستوية، وجعلها تامة كاملة كما قال تعالى في خلق الإنسان: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك} [الانفطار: 6، 7]. فسواك: أي جعلك سويًّا تام الخلقة، فالسماء كذلك سواها الله عز وجل. {وأغطش ليلها} أغطشه أي أظلمه، فالليل مظلم، قال الله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} [الإسراء: 12]. {وأخرج ضحاها} بينه بالشمس التي تخرج كل يوم من مطلعها وتغيب من مغربها. {والأرض بعد ذلك} أي بعد خلق السماوات والأرض {دحاها} بين سبحانه هذا الدحو بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} وكانت الأرض مخلوقة قبل السماء كما قال الله تعالى: {قل أئِنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين} [فصلت: 9 ـ 12]. فالأرض مخلوقة من قبل السماء لكن دحوها وإخراج الماء منها والمرعى كان بعد خلق السماوات. {والجبال أرساها} أي جعلها راسية في الأرض تمسك الأرض لئلا تضطرب بالخلق. {متاعاً لكم ولأنعامكم} أي جعل الله تعالى ذلك متاعاً لنا نتمتع به فيما نأكل ونشرب، ولأنعامنا أي مواشينا من الإبل والبقر والغنم وغيرها.
ولما ذكَّر الله عز وجل عباده بهذه النعم الدالة على كمال قدرته ذكرهم بمآلهم الحتمي الذي لابد منه، فقال عز وجل:
{فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَـنُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَءاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى}.
{فإذا جاءت الطامة الكبرى} وذلك قيام الساعة، وسماها طامة لأنها داهية عظيمة تطم كل شيء سبقها. {الكبرى} يعني أكبر من كل طامة. {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} لهذا اليوم الذي تكون فيه الطامة الكبرى وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان ما سعى، يتذكره مكتوباً، عنده يقرأه هو بنفسه قال الله تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13، 14]. إذا قرأه تذكر ما سعى أي ما عمل، أما اليوم فإننا قد نسينا ما عملنا، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح، ومنها اللغو، ومنها السيىء، لكن كل هذا ننساه، وفي يوم القيامة يعرض علينا هذا في كتاب ويقال اقرأ كتابك أنت بنفسك {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. فحينئذ يتذكر ما سعى {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} [النبأ: 40]. {وبُرِّزت الجحيم لمن يرى} {برزت} أظهرت تجيء تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام فيه سبعون ألف ملك يجرونها، إذا ألقي منها الظالمون مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً تأتي ـ والعياذ بالله ـ لمن يرى ويبصر فتنخلع القلوب ويشيب المولود ولهذا قال: {فأما من طغى. وآثر الحياة الدنيا} هذان وصفان هما وصفا أهل النار، الطغيان وهو مجاوزة الحد، وإيثار الدنيا على الاخرة بتقديمها على الاخرة وكونها أكبر هم الإنسان، والطغيان مجاوزة الحد، وحد الإنسان مذكور في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. فمن جاوز حده ولم يعبد الله فهذا هو الطاغي لأنه تجاوز الحد، أنت مخلوق لا لتأكل وتتنعم وتتمتع كما تتمتع الأنعام، أنت مخلوق لعبادة الله فاعبد الله عز وجل، فإن لم تفعل فقد طغيت هذا هو الطغيان ألا يقوم الإنسان بعبادة الله. {وآثر الحياة الدنيا} هما متلازمان فإن الطاغي عن عبادة الله مؤثر للحياة الدنيا لأنه يتعلل بها عن طاعة الله، ويتلهى بها عن طاعة الله، إذا أذن الفجر آثر النوم على الصلاة، إذا قيل له أذكر الله آثر اللغو على ذكر الله وهكذا... {فإن الجحيم هي المأوى} أي هي مأواه، والمأوى هو المرجع والمقر وبئس المقر مقر جهنم ـ أعاذنا الله منها ـ {وأما من خاف مقام ربه} يعني خاف القيام بين يديه؛ لأن الإنسان يوم القيامة سوف يقرره الله عز وجل بذنوبه ويقول عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا كما جاء في الصحيح، فإذا أقر قال الله له: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، هذا الذي خاف هذا المقام، {ونهى النفس عن الهوى} أي عن هواها، والنفس أمَّارة بالسوء لا تأمر إلا بالشر. ولكن هناك نفس أخرى تقابلها وهي النفس المطمئنة؛ وللإنسان ثلاث نفوس: مطمئنة، وأمارة، ولوامة، وكلها في القرآن، أما المطمئنة ففي قوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي} [الفجر:: 27 ـ 30]. وأما الأمَّارة بالسوء ففي قوله تعالى: {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي} [يوسف: 53]. وأما اللوامة ففي قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة} [القيامة: 1، 2]. والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس؛ يرى في نفسه أحياناً نزعة خير يحب الخير يفعله هذه هي النفس المطمئنة، يرى أحياناً في نفسه نزعة شر يفعله هذه نفس أمارة بالسوء، تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل فتجده يندم على ما فعل من المعصية، أو لوامة أخرى تلومه على ما فعل من الخير، فإن من الناس من قد يلوم نفسه على فعل الخير وعلى مصاحبة أهل الخير ويقول: كيف أصاحب هؤلاء الذين صدوني عن حياتي.. عن شهواتي.. عن لهوي، وما أشبه ذلك. فاللوامة نفس تلوم الأمارة بالسوء مرة، وتلوم المطمئنة مرة أخرى، فهي في الحقيقة نفس بين نفسين تلوم النفس الأمارة بالسوء إذا فعلت السوء، وتندم الإنسان، وقد تلوم النفس المطمئنة إذا فعلت الخير. {فإن الجنة هي المأوى} الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. هكذا جاء في القرآن، وجاء في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، هذه الجنة يدركها الإنسان قبل أن يموت، إذا حضر الأجل ودعت الملائكة النفس للخروج قالت: أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله، وتبشر النفس بالجنة، قال الله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم} [النحل: 32]. يقولونه حين التوفي {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} فيبشر بالجنة فتخرج روحه راضية متيسرة سهلة، ولهذا لما حدث النبي عليه الصلاة والسلام فقال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قالت عائشة: يا رسول الله: كلنا يكره الموت، قال: ليس الأمر ذلك ـ كلنا يكره الموت بمقتضى الطبيعة ـ ولكن المؤمن إذا بشر بما يبشر به عند الموت أحب لقاء الله أحب الموت وسهل عليه»، وإن الكافر إذا بشر ـ والعياذ بالله ـ بما يسوؤه عند الموت كره لقاء الله وهربت نفسه تفرقت في جسده حتى ينتزعوها منه كما ينتزع السفود من الشعر المبلول، والشعر المبلول إذا جر عليه السفود وهو معروف عند الغزالين يكاد يمزقه من شدة سحبه عليه هكذا روح الكافر والعياذ بالله ـ تتفرق في جسده لأنها تبشر بالعذاب فتخاف، فالجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والإنسان قد يدركها قبل أن يموت بما يبشر به، وقد قال أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ: «يا رسول الله، والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد»، وهذا ليس معناه الوجدان الذوقي، وجدان حقيقي، قال ابن القيم رحمه الله: (إن بعض الناس قد يدرك الاخرة وهو في الدينا)، ثم انطلق فقاتل وقُتل رضي الله عنه، فالحاصل أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَـهَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـهَا
{يسألونك عن الساعة إيَّان مرسها} {يسألونك} يعني يسألك الناس كما قال تعالى في آية أخرى: {يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله} [الأحزاب: 63]. سؤال الناس عن الساعة ينقسم إلى قسمين: سؤال استبعاد وإنكار وهذا كفر كما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلّم عن الساعة واستعجلوها، وقد قال الله عن هؤلاء: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق}. وسؤال عن الساعة يسأل متى الساعة ليستعد لها وهذا لا بأس به، وقد قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله متى الساعة؟ قال له: «ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله. قال: «المرء مع من أحب»، فالناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ولكن تختلف نياتهم في هذا السؤال، ومهما كانت نياتهم ومهما كانت أسئلتهم فعلم الساعة عند الله ولهذا قال: {فيمَ أنت من ذكراها} يعني أنه لا يمكن أن تذكر لهم الساعة، لأن علمها عند الله كما قال تعالى في آية أخرى: {قل إنما علمها عند الله} [الأحزاب: 63]. وقد سأل جبريل عليه السلام وهو أعلم الملائكة، سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعلم الخلق من البشر قال: أخبرني عن الساعة. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، يعني أنت إذا كانت خافية عليك فأنا خافية علي، وإذا كان أعلم الملائكة وأعلم البشر لا يعلمان متى الساعة فما بالك بمن دونهما، وبهذا نعرف أن ما يشيعه بعض الناس من أن الساعة تكون في كذا وفي كذا وفي زمن معين كله كذب، نعلم أنه كذب؛ لأنه لا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل. {إنما أنت منذر من يخشاها} يعني ليس عندك علم منها ولكنك منذر {من يخشاها} أي يخافها وهم المؤمنون، أما من أنكرها واستبعدها وكذبها فإن الإنذار لا ينفع فيه {وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. ولهذا نقول أنت لا تسأل متى تموت ولا أين تموت لأن هذا أمر لا يحتاج إلى سؤال أمر مفروغ منه ولابد أن يكون ومهما طالت بك الدنيا فكأنما بقيت يوماً واحداً بل كما قال تعالى هنا: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} ولكن السؤال الذي يجب أن يرد على النفس ويجب أن يكون لديك جواب عليه هو على أي حال تموت؟! ولست أريد على أي حال تموت هل أنت غني أو فقير، أو قوي أو ضعيف، أو ذو عيال أو عقيم، بل على أي حال تموت في العمل، فإذا كنت تساءل نفسك هذا السؤال فلابد أن تستعد؛ لأنك لا تدري متى يفجَؤُك الموت، كم من إنسان خرج يقود سيارته ورجع به محمولاً على الأكتاف، وكم من إنسان خرج من أهله يقول هيئوا لي طعام الغداء أو العشاء ولكن لم يأكله، وكم من إنسان لبس قيمصه وزر أزرته ولم يفكها إلا الغاسل يغسله، هذا أمر مشاهد بحوادث بغتة. فانظر الان وفكر على أي حال تموت، ولهذا ينبغي لك أن تكثر من الاستغفار ما استطعت، فإن الاستغفار فيه من كل هم فرج، ومن كل ضيق مخرج، حتى إن بعض العلماء يقول إذا استفتاك شخص فاستغفر الله قبل أن تفتيه، لأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين الهدى واستنبط ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 105، 106]. وهذا استنباط جيد، ويمكن أيضاً أن يستنبط من قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]. والاستغفار هو الهدى، لذلك أوصيكم بالمراقبة، وكثرة الاستغفار، ومحاسبة النفس حتى نكون على أهبة الاستعداد خشية أن يفجؤُنا الموت ـ نسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة ـ. {كأنهم يوم يرونها} أي يرون القيامة {لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} العشية من الزوال إلى غروب الشمس، والضحى من طلوع الشمس إلى زوالها، يعني كأنهم لم يلبثوا إلا نصف يوم، وهذا هو الواقع لو سألنا الان كم مضى من السنوات علينا؟ هل نشعر الان بأنه سنوات أو كأنه يوم واحد؟ لا شك أنه كأنه يوم واحد. والإنسان الان بين ثلاثة أشياء: يوم مضى فهذا قد فاته، ويوم مستقبل لا يدري أيدركه أو لا يدركه، ووقت حاضر هو المسؤول عنه، وأما ما مضى فقد فات وما فات فقد مات، هلك عنك الذي مضى، والمستقبل لا تدري أتدركه أم لا، والحاضر هو الذي أنت مسؤول عنه. نسأل الله تعالى أن يحسن لنا العاقبة، وأن يجعل عاقبتنا حميدة، وخاتمتنا سعيدة إنه جواد كريم.

صقر قريش 09-01-2009 06:02 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم
عبس
محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الاَْعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{عبس وتولى} هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى {عبس} أي كلح في وجهه يعني استنكر الشيء بوجهه. ومعنى {تولى} أعرض. {أن جاءه الأعمى} الأعمى هو عبدالله بن عمرو ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة، وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، ـ ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سبباً لإسلام من تحتهم وكان طمع النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم شديداً ـ فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكروا أنه كان يقول: علمني مما علمك الله ويستقرىء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه وعبس في وجهه رجاءً وطمعاً في إسلام هؤلاء العظماء وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء يزدرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين. الأمر الأول: الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء. والأمر الثاني: ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقر عندهم، ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس احتقاراً لابن أم مكتوم؛ لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوته الحق بين عباد الله، وأن الناس عنده سواء بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه. {وما يدريك} أي: أي شيء يريبك أن يتزكى هذا الرجل ويقوي إيمانه. {لعله} أي لعل ابن أم مكتوم {يزكى} أي يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجو منه فإنه أحق أن يلتفت إليه. {أو يذكر فتنفعه الذكرى} يعني وما يدريك لعله يذكر أي يتعظ فتنفعه الموعظة فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر. {أما من استغنى} يعني استغنى بماله لكثرته، واستغنى بجاهه لقوته فهذا {فأنت له تصدى} أي تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه. {وما عليك ألا يزكى} يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى هذا المستغني؛ لأنه ليس عليك إلا البلاغ، فبيّـن الله سبحانه وتعالى أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أقرب إلى التزكي من هؤلاء العظماء، وأن هؤلاء إذا لم يتزكوا مع إقبال الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم فإنه ليس عليه منهم شيء. {وما عليك ألا يزكى} يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى لأن إثمه عليه وليس عليك إلا البلاغ. ثم قال تعالى: {وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى} هذا مقابل قوله: {أما من استغنى. فأنت له تصدى}. {وأما من جاءك يسعى} أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وهو يخشى} أي يخاف الله عز وجل بقلبه. {فأنت عنه تلهى} أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون. {كلا} يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول: إن {كلا} هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت. {إنها تذكرة} {إنها} أي الايات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {تذكرة} تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب. {فمن شاء ذكره} أي فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ، ومن شاء لم يتعظ لقول الله تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. فالله جعل للإنسان الخيار قدراً بين أن يؤمن ويكفر، أما شرعاً فإنه لا يرضى لعباده الكفر، وليس الإنسان lخير شرعاً بين الكفر والإيمان بل هو مأمور بالإيمان ومفروض عليه الإيمان، لكن من حيث القدر هو مخير وليس كما يزعم بعض الناس مسير مجبر على عمله، بل هذا قول مبتدع ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم. {فمن شاء ذكره} أي ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به، ومن شاء لم يذكره، والموفق من وفقه الله عز وجل. {في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة} أي أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الايات {في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة} معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه القول. {بأيدي سفرة} السفرة الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة مأخوذة من السَّفَر أو من السَّفْرِ وهو الكتاب كقوله تعالى: {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [الجمعة: 5]. وقيل: السفرة الوسطاء بين الله وبين خلقه، من السفير وهو الواسطة بين الناس، ومنه حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة قبل أن يحرم قال: «وكنت السفير بينهما» أي الواسطة. المهم أن السفرة هم الملائكة وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون، وسموا سفرة لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي، والكتبة الذين يكتبون ما يعمل الإنسان أيضاً يكتبونه ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته. {كرام بررة} كرام في أخلاقهم.. كرام في خلقتهم لأنهم على أحسن خلقة، وعلى أحسن خُلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، وأنهم عليهم الصلاة والسلام لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وهذه الايات فيها تأديب من الله عز وجل للخلق ألا يكون همهم هًّما شخصيًّا بل يكون همهم هًّما معنويًّا وألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفاً لشرفه، ولا عظيماً لعظمته، ولا قريباً لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد، وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في أولها: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى} ثلاث جمل لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها عتاب فلو وجهت إلى الرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه لكن جاءت بالغيبة {عبس} فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة، ولأجل ألا يقع بمثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسان عربي مبين، وهذا من بيانه، وفي الايات أيضاً دليل على جواز لقب الإنسان بوصفه مثل الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، الأعرج عن أبي هريرة، الأعمش عن ابن مسعود... وهكذا، قال أهل العلم واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود به تعيير الشخص فإنه حرام؛ لأن الأول ـ إذا كان المقصود به تبيين الشخص ـ تدعو الحاجة إليه، والثانية ـ إذا كان المقصود به التعيير ـ فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة وقد جاء في الأثر «لا تظهر الشماتة في أخيك فيرحمه الله ويبتليك».
{قُتِلَ الإِنسَـنُ مَآ أَكْفَرَهُ * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَـنُ إِلَى طَعَامِهِ * ط{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَـكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَـعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَـمِكُمْ}.
{قتل الإنسان} {قتل} تأتي في القرآن كثيراً فمن العلماء من يقول: إن معناها لعن، والذي يظهر أن معناها أُهلك؛ لأن القتل يكون به الهلاك وهو أسلوب تستعمله العرب في تقبيح ما كان عليه صاحبه فيقولون مثلاً: قتل فلان ما أسوأ خلقه، قتل فلان ما أخبثه وما أشبه ذلك. وقوله تعالى: {قتل الإنسان} قال بعض العلماء: المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة، وليس كل إنسان لقوله فيما بعد {ما أكفره} ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس، لأن أكثر بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح: أن الله يقول يقوم القيامة: «يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول له الله عز وجل: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين»، فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص الأخرى. {ما أكفره} قال بعض العلماء إن {ما} هنا استفهامية أي: أي شيء أكفره؟ ما الذي حمله على الكفر؟ وقال بعض العلماء: إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره! وإنما كان كفر الإنسان عظيماً لأن الله أعطاه عقلاً، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب وأمده بكل ما يحتاج إلى التصديق، ومع ذلك كفر فيكون كفره عظيماً. والفرق بين القولين أنه على القول الأول تكون {ما} استفهامية أي: ما الذي أكفره؟ وعلى القول الثاني تكون تعجبية يعني عجباً له كيف كفر مع أن كل شيء متوفر لديه في بيان الحق والهدى!! والكفر هنا يشمل كل أنواع الكفر، ومنه إنكار البعث فإن كثيراً من الكفار كذبوا بالبعث، وقالوا: لا يمكن أن يُبعث الناس بعد أن كانت عظامهم رميماً كما قال تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78]. ولهذا قال: {من أي شيء خلقه} استفهام تقرير لما يأتي بعده في قوله: {من نطفة خلقه} يعني أنت أيها الإنسان كيف تكفر بالبعث؟ من أي شيء خلقت؟ ألم تخلق من العدم لم تكن شيئاً مذكوراً من قبل فوجدت وصرت إنساناً فكيف تكفر بالبعث؟ ولهذا قال: {من نطفة خلقه} والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم المرأة فتحمل {فقدره} أي جعله مقدراً أطواراً: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فالإنسان مقدر في بطن أمه من الذي يقدره هذا التقدير؟ من الذي يوصل إليه ما ينمو به من الدم الذي يتصل به بواسطة السرة من دم أمه؟ إلا الله عز وجل، ولهذا قال: {ثم السبيل يسره} السبيل هنا بمعنى الطريق يعني يسر له الطريق ليخرج من بطن أمه إلى عالم المشاهدة، ويسر له أيضاً بعد ذلك ما ذكره تعالى في قوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10]. يسر له ثديي أمه يتغذى بهما، ويسر له بعد ذلك ما فتح له من خزائن الرزق، ويسر له فوق هذا كله وما هو أهم وهو طريق الهدى والفلاح وذلك بما أرسل إليه من الرسالات، وأنزل عليه من الكتب، ثم بعد هذا {أماته} الموت مفارقة الروح للبدن. {فأقبره} أي جعله في قبر، أي مدفوناً ستراً عليه وإكراماً واحتراماً؛ لأن البشر لو كانوا إذا ماتوا كسائر الميتات جثثاً ترمى في الزبال لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت ولأهل الميت، ولكن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده هذا الدفن، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فأقبره} قال: أكرمه بدفنه. {ثم إذا شاء أنشره} أي إذا شاء الله عز وجل {أنشره} أي بعثه يوم النشور ليجازيه على عمله. وقوله: {ثم إذا شاء أنشره} يعني أنه لا يعجزه عز وجل أن ينشره لكن لم يأتِ أمر الله بعد ولهذا قال: {كلا لما يقضي ما أمره} {لما} هنا بمعنى (لم) لكنها تفارقها في بعض الأشياء، والمعنى أن الله تعالى لم يقضِ ما أمره، أي ما أمر به كوناً وقدراً، أي أن الأمر لم يتم لنشر أو لانشار هذا الميت بل له موعد منتظر، وفي هذا رد على المكذبين بالبعث الذين يقولون لو كان البعث حقًّا لوجدنا آباءنا الان، وهذا القول منهم تحدي مكذوب؛ لأن الرسل لم تقل لهم إنكم تبعثون الان، ولكنهم قالوا لهم إنكم تبعثون جميعاً بعد أن تموتوا جميعاً. ثم قال عز وجل مذكراً للإنسان بما أنعم الله عليه {فلينظر الإنسان إلى طعامه}. أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء؟ ومن جاء به؟ وهل أحدٌ خلقه؟ وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الاية قول الله تبارك وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون. إنا لمغرمون بل نحن محرومون} [الواقعة: 65، 67]. من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعاماً لنا؟ هو الله عز وجل، ولهذا قال {لو نشاء لجعلناه حطاماً} أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى لا تنتفعوا به. {أنا صببنا الماء صبًّا} يعني من السحاب {ثم شققنا الأرض شقًّا} بعد نزول المطر عليها تتشقق بالنبات. {فأنبتنا فيها} أي في الأرض {حبًّا} كالبر والرز والذرة والشعير وغير ذلك من الحبوب الكثيرة {وعنباً} معروف {وقضباً} قيل: إنه القت المعروف {وزيتوناً} معروف {ونخلاً} معروف {وحدائق غلباً} حدائق جمع حديقة، والغلب كثير الأشجار {وفاكهة} يعني ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه {وأبًّا} الأب نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل {متاعاً لكم ولأنعامكم} يعني أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها أودكم، وتتمتعون بها أيضاً بالتفكه بهذه النعم.
ثم لما ذكر الله عز وجل الإنسان بحاله منذ خلق من نطفة حتى بقي في الدنيا وعاش، ذكر حاله الاخرة في قوله:
{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَـحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.
{فإذا جاءت الصاخة} يعني الصيحة العظيمة التي تصخ الاذان، وهذا هو يوم القيامة {يوم يفر المرء من أخيه} من أخيه شقيقه أو لأبيه أو لأمه {وأمه وأبيه} الأم والأب المباشر، والأجداد أيضاً، والجدات يفر من هؤلاء كلهم {وصاحبته} زوجته {وبنيه} وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه. ويفر من هؤلاء كلهم. قال أهل العلم: يفر منهم لئلا يطالبوه بما فرط به في حقهم من أدب وغيره، لأن كل واحد في ذلك اليوم لا يحب أبداً أن يكون له أحد يطالبه بشيء {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} كل إنسان مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلاً» قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض»؟ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض»، ثم قسّم الله الناس في ذلك اليوم إلى قسمين فقال: {وجوه يومئذ مسفرة} مسفرة من الإسفار وهو الوضوح لأنها وجوه المؤمنين تُسفر عما في قلوبهم من السرور والانشراح {ضاحكة} يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم {مستبشرة} أي قد بشرت بالخير لأنها تتلقاهم الملائكة بالبشرى يقولون {سلام عليكم} {ووجوه يومئذ} يعني يوم القيامة {عليها غبرة} أي شيء كالغبار؛ لأنها ذميمة قبيحة {ترهقها قترة} أي ظلمة {أولئك هم الكفرة الفجرة} الذين جمعوا بين الكفر والفجور، نسأل الله العافية، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة إنه جواد كريم.

صقر قريش 09-01-2009 06:03 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
سورة التكوير

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}.
البسملة: تقدم الكلام عليها.
{إذا الشمس كورت} هذا يكون يوم القيامة، والتكوير: جمع الشيء بعضه إلى بعض ولفّه كما تكوّر العمامة على الرأس، والشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة في يوم القيامة يكورها الله عز وجل فيلفها جميعاً ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها، ويلقيها في النار عز وجل إغاظة للذين يعبدونها من دون الله، قال الله تبارك وتعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي تحصبون في جهنم {أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]. ويستثني من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله فإنه لا يلقى في النار كما قال الله تعالى بعد هذه الاية {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} [الأنبياء: 101، 102]. {وإذا النجوم انكدرت} انكدرت يعني تساقطت كما تفسره الاية الثانية. {وإذا الكواكب انتثرت} [الانفطار: 2]. فالنجوم يوم القيامة تتناثر وتزول عن أماكنها {وإذا الجبال سُيرت} هذه الجبال العظيمة الصلبة العالية الرفيعة تكون هباءً يوم القيامة وتسيّر كما قال الله تعالى: {وسيّرت الجبال فكانت سراباً} [النبأ: 20]. {وإذا العشار عُطلت} العشار جمع عشراء، وهي الناقة الحامل التي تم لحملها عشرة أشهر وهي من أنفس الأموال عند العرب، وتجد صاحبها يرقبها ويلاحظها، ويعتني بها ويأوي إليها ويحف بها في الدنيا، لكن في الاخرة تعطل ولا يلتفت إليها؛ لأن الإنسان في شأن عظيم مزعج ينسيه كل شيء كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه. وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 34 ـ 37]. {وإذا الوحوش حشرت} الوحوش جمع وحش، والمراد بها جميع الدواب، لقول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} [الأنعام: 38]. تحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس ويُقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت تراباً، وإنما يفعل ذلك سبحانه وتعالى لإظهار عدله بين خلقه {وإذا البحار سُجّرت} البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريباً أو أكثر. هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تُسجر، أي توقد ناراً، تشتعل ناراً عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبق فيها ماء؛ لأن بحارها المياه العظيمة تسجّر حتى تكون ناراً {وإذا النفوس زوجت} النفوس جمع نفس، والمراد بها الإنسان كله، فتزوّج النفوس يعني يُضم كل صنف إلى صنفه؛ لأن الزوج يراد به الصنف كما قال الله تعالى: {وكنتم أزواجاً ثلاثة} [الواقعة: 7]. أي أصنافاً ثلاثة وقال تعالى: {وآخر من شكله أزواج} [ص: 58]. أي أصناف، وقال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} [الصافات: 22]. أي أصنافهم وأشكالهم فيوم القيامة يضم كل شكل إلى مثله، أهل الخير إلى أهل الخير، وأهل الشر إلى أهل الشر، وهذه الأمة يضم بعضها إلى بعض {وترى كل أمة جاثية} لوحدها {كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} [الجاثية 28]. إذاً {وإذا النفوس زوجت} يعني شكّلت وضُم بعضها إلى بعض كل صنف إلى صنفه، كل أمة إلى أمتها {وإذا المؤؤدة سُئلت بأي ذنب قُتلت} الموؤدة هي الأنثى تدفن حية، وذلك أنه في الجاهلية لجهلهم وسوء ظنهم بالله، وعدم تحملهم يعيّر بعضهم بعضاً إذا أتته الأنثى، فإذا بُشِّر أحدهم بالأثنى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، ممتلىء هًّما وغمًّا {يتوارى من القوم} يعني يختفي منهم {من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} [النحل 59]. يعني إذا قيل لأحدهم نبشرك أن الله جاء لك بأنثى ـ ببنت ـ اغتم واهتم، وامتلأ من الغم والهم، وصار يفكر هل يبقي هذه الأنثى على هون وذل؟ أو يدسها في التراب ويستريح منها؟ فكان بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا. فمنهم من يدفن البنت وهي حية، إما قبل أن تميز أو بعد أن تميز، حتى إن بعضهم كان يحفر الحفرة لبنته فإذا أصاب لحيته شيء من التراب نفضتـه عن لحيته وهو يحفر لها ليدفنها ولا يكون في قلبه لها رحمة، وهذا يدلك على أن الجاهلية أمرها سفال، فإن الوحوش تحنو على أولادها وهي وحوش، وهؤلاء لا يحنون على أولادهم، يقول عز وجل: {وإذا المؤودة سئلت} تسأل يوم القيامة {بأي ذنب قتلت} هل أذنبت؟ فإذا قال قائل: كيف تُسأل وهي المظلومة... هي المدفونة، ثم هي قد تدفن وهي لا تميز، ولم يجر عليها قلم التكليف، فكيف تسأل؟ قيل: إنها تُسأل توبيخاً للذي وأدها، لأنها تُسأل أمامه فيقال: بأي ذنب قُتِلْتِ أو قُتِلَتْ؟ نظير ذلك لو أن شخصاً اعتدى على آخر في الدنيا فأتوا إلى السلطان إلى الأمير فقال للمظلوم: بأي ذنب ضربك هذا الرجل؟ وهو يعرف أنه معتداً عليه ليس له ذنب. لكن من أجل التوبيخ للظالم، فالموؤدة تُسأل بأي ذنب قتلت توبيخاً لظالمها وقاتلها ودافنها نسأل الله العافية. {وإذا الصحف نشرت} الصحف جمع صحيفة، وهي ما يكتب فيها الأعمال. واعلم أيها الإنسان أن كل عمل تعمله من قول أو فعل فإنه يكتب ويسجل بصحائف على يد أمناء كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، يسجل كل شيء تعمله فإذا كان يوم القيامة فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يعني عمله في عنقه {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} مفتوحاً {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء 14]، كلامنا الان ونحن نتكلم يكتب، كلام بعضكم مع بعض يكتب، كل كلام يكتب {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيراً أو ليصمت»، لأن كل شيء سيكتب عليه، ومن كثُر كلمُه كثُر سقطه، يعني الذي يُكثر الكلام يكثر منه السقط والزلات، فاحفظ لسانك فإن الصحف سوف يكتب فيها كل ما تقول وسوف تنشر لك يوم القيامة. {وإذا السماء كشطت} السماء فوقنا الان سقف محفوظ قوي شديد. قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات:: 47]. أي بقوة. وقال تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} [النبأ: 12]. أي قوية. في يوم القيامة تكشط يعني تُزال عن مكانها كما يكشط الجلد عند سلخ البعير عن اللحم يكشطها الله عز وجل ثم يطويها جل وعلا بيمينه كما قال تعالى: {والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67]. {كطي السجل للكتب} [الأنبياء: 104]. يعني كما يطوي السجل الكتب، يعني الكاتب إذا فرغ من كتابته طوى الورقة حفظاً لها عن التمزق وعن المحي، فالسماء تكشط يوم القيامة ويبقى الأمر فضاء إلا أن الله تعالى يقول: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17]. يكون بدل السماء التي فوقنا الان يكون الذي فوقنا هو العرش؛ لأن السماء تطوى بيمين الله عز وجل يطويها بيمينه ويهزها وكذلك يقبض الأرض ويقول: «أنا الملك، أين ملوك الأرض»، {وإذا الجحيم سعرت} الجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها. تُسعر أي توقد. وما وقودها الذي توقد به؟ وقودها الذي وقد به قال الله عنه: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [التحريم: 6]. بدل ما توقد بالحطب والورق يكون الوقود الناس يعني الكفار. والحجارة حجارة من نارٍ عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم {وإذا الجنة أزلفت} الجنة دار المتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {أزلفت} يعني قُرِّبت وزُيِّنت للمؤمنين، وانظر الفرق بين هذا وذاك. دار الكفار تسعّر، توقد، ودار المؤمنين تزيّن وتقرّب {وإذا الجنة أزلفت} كل هذا يكون يوم القيامة، إذا قرأنا هذه الايات: {إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت. وإذا النفوس زوجت. وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت. وإذا الصحف نشرت. وإذا الشماء كشطت. وإذا الجحيم سعرت. وإذا الجنة أزلفت} هذه اثنتا عشرة جملة إلى الان لم يأت بالجواب. لأن كلها في ضمن الشرط {إذا الشمس كورت} فالجواب لم يأت بعد ماذا يكون إذا كانت هذه الأشياء؟ قال الله تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} أي ما قدمته من خير وشر {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء} [آل عمران: 30]. يعني يكون محضراً أيضاً {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30]. فتعلم في ذلك اليوم كل نفس ما أحضرت من خير أو شر، في الدنيا نعلم ما نعمل من خير وشر لكن سرعان ما ننسى. نسينا الشيء الكثير لا من الطاعات ولا من المعاصي، ولكن هذا لن يذهب سدى كما نسيناه؟ بل والله هو باق، فإذا كان يوم القيامة أحضرته أنت بإقرارك على نفسك بأنك عملته، ولهذا قال تعالى: {علمت نفس ما أحضرت} فينبغي بل يجب على الإنسان أن يتأمل في هذه الايات العظيمة وأن يتعظ بما فيها من المواعظ، وأن يؤمن بها كأنه يراها رأي عين؛ لأن ما أخبر الله به وعلمنا مدلوله فإنه أشد يقيناً عندنا مما شاهدناه بأعيننا أو سمعناه بأذاننا؛ لأن خبر الله لا يكذب، صدق، لكن ما نراه أو نسمعه كثيراً ما يقع فيه الوهم. قد ترى
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَـعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَـحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاُْفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَـنٍ رَّجِيمٍ * فَأيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـلَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـلَمِينَ}.
{فلا أقسم بالخنس} قوله تعالى: {فلا أقسم} قد يظن بعض الناس أن {لا} نافية وليس كذلك، بل هي مثبتة للقسم ويؤتى بها بمثل هذا التركيب للتأكيد. فالمعنى {أقسم بالخنس} والخنس جمع خانسة، وهي النجوم التي تخنس، أي ترجع فبينما تراها في أعلى الأفق إذا بها راجعة إلى آخر الأفق، وذلك والله أعلم لارتفاعها وبُعدها فيكون ما تحتها من النجوم أسرع منها في الجري بحسب رؤية العين، {الجوار} أصلها (الجواري) بالياء لكن حذفت الياء للتخفيف و{الكنس} هي التي تكنس أي تدخل في مغيبها. فأقسم الله بهذه النجوم ثم أقسم بالليل والنهار فقال: {والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} معنى قوله: {عسعس} يعني أقبل، وقيل: معناه أدبر، وذلك أن الكلمة {عسعس} في اللغة العربية تصلح لهذا وهذا. لكن الذي يظهر أن معناها «أقبل» ليوافق أو ليطابق ما بعده من القسم. وهو قوله: {والصبح إذا تنفس} فيكون الله أقسم بالليل حال إقباله، وبالنهار حال إقباله. وإنما أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لعظمها وكونها من آياته الكبرى، فمن يستطيع أن يأتي بالنهار إذا كان الليل، ومن يستطيع أن يأتي بالليل إذا كان النهار، قال الله عز وجل: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}. [القصص: 71]. {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [القصص: 73]. فهذه المخلوقات العظيمة يقسم الله بها لعظم المقسم عليه وهو قوله: {إنه لقول رسول كريم} {إنه} أي القرآن {لقول رسول كريم} هو جبريل عليه الصلاة والسلام، فإنه رسول الله إلى الرسل بالوحي الذي ينزله عليهم. ووصفه الله بالكرم لحسن منظره كما قال تعالى في آية أخرى: {ذو مرة فاستوى} [النجم: 6]. {ذو مرة} قال العلماء: المرة: الخلق الحسن والهيئة الجميلة، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بهذا الوصف: {كريم} {ذي قوة عند ذي العرش مكين} {ذي قوة} وصفه الله تعالى بالقوة العظيمة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم رآه على صورته التي خلقه الله عليها له ست مئة جناح قد سدّ الأفق كله من عظمته عليه الصلاة والسلام، وقوله: {عند ذي العرش} أي عند صاحب العرش وهو الله جل وعلا، والعرش فوق كل شيء، وفوق العرش رب العالمين عز وجل. قال الله تعالى: {رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} [غافر: 15]. فذو العرش هو الله. وقوله: {مكين} أي ذو مكانة، أي أن جبريل عند الله ذو مكانة وشرف، ولهذا خصه الله بأكبر النعم التي أنزلها الله على عباده، وهو الوحي فإن النعم لو نظرنا إليها لوجدنا أنها قسمان: نِعَم يستوي فيها البهائم والإنسان، وهي متعة البدن الأكل والشرب، والنكاح والسكن، هذه النعم يستوي فيها الإنسان والحيوان، فالإنسان يتمتع بما يأكل، وبما يشرب، وبما ينكح، وبما يسكن، والبهائم كذلك. ونِعمٌ أخرى يختص بها الإنسان، وهي الشرائع التي أنزلها الله على الرسل لتستقيم حياة الخلق، لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الخلق أو تطيب حياة الخلق إلا بالشرائع {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. المؤمن العامل بالصالحات هو الذي له الحياة الطيبة في الدنيا والثواب الجزيل في الاخرة. والله لو فتشت الملوك وأبناء الملوك، والوزراء وأبناء الوزراء، والأمراء وأبناء الأمراء، والأغنياء وأبناء الأغنياء، لو فتشتهم وفتشت من آمن وعمل صالحاً لوجدت الثاني أطيب عيشة، وأنعم بالاً، وأشرح صدراً، لأن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السموات والأرض تكفل. قال: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} تجد المؤمن العامل للصالحات مسرور القلب، منشرح الصدر، راضياً بقضاء الله وقدره، إن أصابه خير شكر الله على ذلك، وإن أصابه ضده صبر على ذلك واعتذر إلى الله مما صنع، وعلم أنه إنما أصابه بذنوبه فرجع إلى الله عز وجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَّراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له»، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام، إذن أكبر نعمة أنزلها الله على الخلق هي نعمة الدين الذي به قوام حياة الإنسان في الدنيا والاخرة، والحياة الحقيقية هي حياة الاخرة، والدليل قوله تعالى في سورة الفجر: {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24]. فالدنيا ليست بشيء. الحياة حقيقة حياة الاخرة، والذي يعمل للاخرة يحيا حياة طيبة في الدنيا، فالمؤمن العامل للصالحات هو الذي كسب الحياتين: حياة الدنيا، وحياة الاخرة. والكافر هو الذي خسر الدنيا والاخرة {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} [الزمر: 15]. {مطاع ثمَّ} أي هناك {أمين} على ما كُلف به. جبريل هو المطاع فمن الذي يطيعه؟ قال العلماء: تطيعه الملائكة لأنه ينزل بالأمر من الله فيأمر الملائكة فتطيع، فله إمرة وله طاعة على الملائكة. ثم الرسل عليهم الصلاة والسلام الذين ينزل جبريل عليهم بالوحي لهم إمرة وطاعة على المكلفين {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}. [المائدة: 92].
في هذه الايات {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين} أقسم الله عز وجل على أن هذا القرآن قول هذا الرسول الكريم الملكي جبريل عليه الصلاة والسلام، وفي آية أخرى بين الله سبحانه وتعالى وأقسم أن هذا القرآن قول رسول كريم بشري في قوله تعالى: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر} [الحاقة: 38 ـ 41]. فالرسول هنا في سورة التكوير رسول ملكي أي من الملائكة وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، والرسول هناك رسول بشري وهو محمد عليه الصلاة والسلام، والدليل على هذا واضح. هنا قال: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين} وهذا الوصف لجبريل، لأنه هو الذي عند الله، أما محمد عليه الصلاة والسلام فهو في الأرض. هناك قال: {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر} ردًّا لقول الكفار الذين قالوا إن محمداً شاعر {ولا بقول كاهن} فأيهما أعظم قسماً {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة} أو {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}، الثاني أعظم، ليس فيه شيء أعمّ منه {بما تبصرون وما لا تبصرون} كل الأشياء إما نبصرها أو لا نبصرها. إذن أقسم الله بكل شيء. وهنا أقسم بالايات العلوية {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} هذه آيات علوية أفقية تناسب الرسول الذي أُقسم على أنه قوله وهو جبريل؛ لأن جبريل عند الله.
فإذا قال قائل: كيف يصف الله القرآن بأنه قول الرسول البشري، والرسول الملكي؟
فنقول: نعم الرسول الملكي بلّغه إلى الرسول البشري، والرسول البشري بلغه إلى الأمة، فصار قول هذا بالنيابة، قول جبريل بالنيابة وقول محمد بالنيابة، والقائل الأول هو الله عز وجل، فالقرآن قول الله حقيقة، وقول جبريل باعتبار أنه بلغه لمحمد، وقول محمد باعتبار أنه بلغه إلى الأمة.
{وما صاحبكم بمجنون} أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتأمل أنه قال: {وما صاحبكم} كأنه قال: ما صاحبكم الذي تعرفونه وأنتم وإياه دائماً، بقي فيهم أربعين سنة في مكة قبل النبوة يعرفونه، ويعرفون صدقه وأمانته، حتى كانوا يطلقون عليه اسم الأمين {وما صاحبكم بمجنون} يعني ليس مجنوناً، بل هو أعقل العقلاء عليه الصلاة والسلام، أكمل الناس عقلاً بلا شك وأسدّهم رأياً. {ولقد رآه} أي رأى جبريل {بالأفق المبين} أي البين الظاهر العالي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى جبريل على صورته التي خُلق عليها مرتين: مرة في غار حراء، ومرة في السماء السابعة لما عُرج به عليه الصلاة والسلام، وهذه الرؤية هي التي في غار حراء، لأنه يقول {رآه بالأفق} إذن محمد في الأرض {وما هو} يعني ما محمد صلى الله عليه وسلّم {على الغيب} يعني على الوحي الذي جاءه من عند الله {بضنين} بالضاد أي ببخيل، فهو عليه الصلاة والسلام ليس بمتهم في الوحي ولا باخل به، بل هو أشد الناس بذلاً لما أوحي إليه، يعلم الناس في كل مناسبة، وهو أبعد الناس عن التهمة لكمال صدقه عليه الصلاة والسلام، وفي قراءة {بظنين} بالظاء المشالة، أي: بمتهم، من الظن وهو التهمة. {وما هو بقول شيطان رجيم} أي ليس بقول أحد من الشياطين، وهم الكهنة الذين توحي إليهم الشياطين الوحي ويكذبون معه ويخبرون الناس فيظنونهم صادقين. {فأين تذهبون. إن هو إلا ذكر للعالمين} {إن} هنا بمعنى (ما) وهذه قاعدة: «أنه إذا جاءت (إلا) بعد (إن) فهي بمعنى (ما)» أي أنها تكون نافية لأن «إن» تأتي نافية، وتأتي شرطية، وتأتي مخففة من الثقيلة، والذي يبين هذه المعاني هو السياق فإذا جاءت (إن وبعدها إلا) فهي نافية، أي ما هو أي القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم ونزل به جبريل على قلبه {إلا ذكر للعالمين}، ذكر يشمل التذكير والتذكّر، فهو تذكير للعالمين، وتذكر لهم، أي أنهم يتذكرون به ويتعظون به (والمراد بالعالمين) من بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: {تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1]. فالمراد بالعالمين هنا من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم {لمن شاء منكم أن يستقيم} {لمن شاء} هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهي (إلا) أي: «إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم» وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]. فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن، ولكن إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره؟
نقول: نعم مشيئة الإنسان باخيتاره. فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم تقم الحجة على الخلق الذين أرسلت إليه الرسل بإرسال الرسل، فما نفعله هو باختيارنا وإرادتنا، ولولا ذلك ما كان لإرسال الرسل حجة علينا إذ أننا نستطيع أن نقول نحن لا نقدر على الاختيار، فالإنسان لا شك فاعل باختياره، وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره، وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره، أو إلى أي شيء أراده فهو باختياره لا يرى أن أحداً أجبره عليه، ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك، كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره، فللإنسان مشيئة ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، ولهذا قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه، فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه، ولولا أن الله شاءه ما شئناه. كما قال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253]. فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا، ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل، ولو شاء الله ما فعلنا.
فإن قال قائل: إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله.
فالجواب: أنه لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها، وفعلنا إياها باختيارنا، ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا إلا بعد أن يقع، فإذا وقع فبأي شيء وقع؟ وقع بإرادتنا ومشيئتنا، لهذا لا يتجه أن يكون للعاصي حجة على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}. [الأنعام: 148]. فلولا أنه لا حجة لهم ما ذاقوا بأس الله، لسَلِموا من بأس الله، ولكنه لا حجة لهم فلهذا ذاقوا بأس الله، وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكر له أن بلداً آمناً مطمئناً، يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى، وأن بلداً آخر بلدٌ خائف غير مستقر، مضطرب في الاقتصاد، مضطرب في الخوف والأمن، فإلى أيهما يذهب؟ بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك، ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول، يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته، وهكذا الان طريق الخير وطريق الشر، فالله بيّـن لنا: هذه طريق جهنم وهذه طريق الجنة، وبيّن لنا ما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب. فأيهما نسلك؟ بالقياس الواضح الجلي أننا سنسلك طريق الجنة لا شك، كما أننا في المثال الذي قبل نسلك طريق البلد الامن الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان. لو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العتب والتوبيخ واللوم، ويُنادى علينا بالسفه، كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المخوف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار، فإن كل أحد يلومنا ويوبخنا، إذاً ففي قوله: {لمن شاء أن يستقيم} تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بمشيئته واختياره، ولكن بعد أن يفعل الشيء ويشاء الشيء نعلم أن الله قد شاءه من قبل ولو شاء الله ما فعله، وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء يتجه بعد العزيمة على هذا الشيء وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه، أو يجد نفسه مصروفاً عنه؛ لأن الله لم يشأه، كثيراً ما نريد أن نذهب مثلاً إلى المسجد لنستمع إلى محاضرة، وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب، أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاً فنرجع، وأحياناً نرجع بدون سبب لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا. ولهذا قيل لأعرابي بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم. (بنقض العزائم) يعني الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً وإذا به ينتقض!! من نقض عزيمته، لا يشعر، ما يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن العزيمة الأولى بل بمحض إرادة الله (صرف الهمم) يهم الإنسان بالشيء ويتجه إليه تماماً وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه سواء كان الصارف مانعاً حسيًّا أو كان الصارف مجرد اختيار.. اختار الإنسان أن ينصرف، كل هذا من الله عز وجل. فالحاصل أن الله يقول: {لمن شاء منكم أن يستقيم} والاستقامة هي الاعتدال، ولا عدل أقوم من عدل الله عز وجل في شريعته، في الشرائع السابقة كانت الشرائع تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، كانت شريعته تناسب الأمة التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليها من أول بعثته إلى نهاية الدنيا. ولهذا كان من العبارات المعروفة «أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال». لو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق. انظر مثلاً الإنسان يصلي أولاً قائماً، فإن عجز فقاعداً، فإن عجز فعلى جنب، إذن الشريعة تتطور بحسب حال الشخص؛ لأن الدين صالح لكل زمان ومكان. يجب على المحدث أن يتطهر بالماء، فإن تعذر استعمال الماء لعجز أو عدم. عدل إلى التيمم، فإن لم يوجد ولا تراب، أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء، لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم، كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل، ليس فيها جور، ليس فيها ظلم، ليس فيها حرج، ليس فيها مشقة، ولهذا قال: {أن يستقيم} وضد الاستقامة انحرافان: انحراف إلى جانب الإفراط والغلو، وانحراف إلى جانب التفريط والتقصير، ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أشكال: طرفان ووسط، طرف غالٍ مبالغ متنطع متعنت، وطرف آخر مفرّط مقصّر مهمل. الثالث: وسط بين الإفراط والتفريط، مستقيم على دين الله هذا هو الذي يُحمَد. أما الأول الغالي، والثاني الجافي فكلاهما هالك.. هالك بحسب ما عنده من الغلو، أو من التقصير، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع حتى إنه قال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون»، لأن التنطع فيه إشقاق على النفس وفيه خروج عن دين الله عز وجل، كما أنه ذمّ المفرطين المهملين وقال في وصف المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142]. فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ولهذا قال هنا: {لمن شاء منكم أن يستقيم} لا يميل يميناً ولا شمالاً، يكون سيره سير استقامة على دين الله عز وجل والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي العبادة تكون أيضاً في معاملة المخلوق، فكن مع الناس بين طرفين، بين طرفي الشدة والغلظة والعبوس، وطرف التراخي والتهاون وبذل النفس وانحطاط الرتبة، كن حازماً من وجه، ولين من وجه، ولهذا قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في القاضي: «ينبغي أن يكون ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف». فلا يكون لينه يشطح به إلى الضعف، ولا قوته إلى العنف، يكون بين ذلك، ليناً من غير ضعف، قويًّا من غير عنف حتى تستقيم الأمور، فبعض الناس مثلاً يعامل الناس دائماً بالعبوس والشدة وإشعار نفسه بأنه فوق الناس وأن الناس تحته، وهذا خطأ، ومن الناس من يحط قدر نفسه ويتواضع إلى حد التهاون وعدم المبالاة بحيث يبقى بين الناس ولا حرمة له، وهذا أيضاً خطأ، فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وبين هذا كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام يشتدّ في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين. فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم، واللين والعطف والرحمة {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} يعني لا يمكن أن تشاؤا شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل، فمشيئة الإنسان ما كانت إلا بعد مشيئة الله عز جل، لو شاء الله لم يشأ، ولو شاء الله أن لا يكون الشيء ما كان ولو شئته. حتى لو شئت والله تعالى لم يشأ فإنه لن يكون، بل يقيض الله تعالى أسباباً تحول بينك وبينه حتى لا يقع، وهذه مسألة يجب على الإنسان أن ينتبه لها، أن يعلم أن فعله بمشيئته مشيئة تامة بلا إكراه، لكن هذه المشيئة مقترنة بمشيئة الله. يعلم أنه ما شاء الشيء إلا بعد أن شاء الله، وأن الله لو شاء ألا يكون لم يشأه الإنسان، أو شاءه الإنسان ولكن يحول الله بينه وبينه بأسباب وموانع، {رب العالمين} قال: {رب العالمين} إشارة إلى عموم ربوبية الله، وأن ربوبية الله تعالى عامة ولكن يجب أن نعلم أن العالمين هنا ليست كالعالمين في قوله {إن هو إلا ذكر للعالمين} فالعالمين الأولى {ذكر للعالمين} من أُرسل إليهم الرسول، أما هنا {رب العالمين} فالمراد بالعالمين كل من سوى الله، فكل من سوى الله فهو عالم؛ لأنه ما ثمّ إلا رب ومربوب، فإذا قيل رب العالمين تعيّـن أن يكون المراد بالعالمين كل من سوى الله، كما قال الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ: «وكل ما سوى الله فهو عالم، وأنا واحد من ذلك العالم».
والحاصل أن هذه السورة سورة عظيمة، فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها، كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله وانتفع به، نسأل الله تعالى أن يعظنا وإياكم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآياته الكونية إنه على كل شيء قدير

صقر قريش 09-01-2009 06:04 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
سورة الانفطار

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يأَيُّهَا الإِنسَـنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِى أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ * كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـفِظِينَ * كِرَاماً كَـتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.
البسملة سبق الكلام عليها.
{إذا السماء انفطرت} يعني انشقت كما قال الله تبارك وتعالى: {إذا السماء انشقت. وأذنت لربهاوحقت} [الانشقاق: 1، 2]. {وإذا الكواكب انتثرت} يعني النجوم صغيرها وكبيرها تنتثر وتتفرق وتتساقط لأن العالم انتهى، {وإذا البحار فجِّرت} أي فُجر بعضها على بعض وملئت الأرض {وإذا القبور بعثرت} أي أخرج ما فيها من الأموات حتى قاموا لله عز وجل، فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت {علمت نفس ما قدمت وأخرت} {نفس} هنا نكرة لكنها بمعنى العموم إذ أن المعنى: علمت كل نفس ما قدمت وأخرت، وذلك بما يُعرض عليها من الكتاب، فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه ويخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً. وفي ذلك اليوم يقول المجرمون: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فيعلم الإنسان ما قدم وأخر، بينما هو في الدنيا قد نسي، لكن يوم القيامة يعرض العمل فتعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، والغرض من هذا التحذير تحذير العبد من أن يعمل مخالفة لله ورسوله؛ لأنه سوف يعلم بذلك ويحاسب عليه، {يا أيها الإنسان} المراد بالإنسان هنا قيل: هو الكافر، وقيل: الإنسان من حيث هو إنسان؛ لأن الإنسان من حيث هو إنسان ظلوم جهول، ظلوم كفار {إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34]. فيقول الله عز وجل: {يا أيها الإنسان} ويخاطب الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن ديانته {ما غرك بربك الكريم} يعني أي شيء غرك بالله حيث تكذبه في البعث، تعصيه في الأمر والنهي، بل ربما يوجد من ينكر الله عز وجل فما الذي غرك؟! قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {ما غرك بربك الكريم} إشارة إلى الجواب، وهو أن الذي غر الإنسان كرم الله عز وجل وإمهاله وحلمه، لكنه لا يجوز أن يغتر الإنسان بذلك فإن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، إذاً ما غرك بربك الكريم؟ الجواب: كرمه وحلمه هذا هو الذي غر الإنسان وصار يتمادى في المعصية في التكذيب، يتمادى في المخالفة {الذي خلقك} خلقك من العدم، وأوجدك من العدم، {فسواك} أي جعلك مستوي الخلقة ليست يد أطول من يد، ولا رجل أطول من رجل، ولا أصبع أطول من أصبع، بحسب اليدين والرجلين، فتجد الطويل في يد هو الطويل في اليد الأخرى، والقصير هو القصير، وهلم جرى، سوّى الله عز وجل الإنسان من كل ناحية من ناحية الخلقة {فعدَلك} وفي قراءة سبعية {فعدَّلك} أي جعلك معتدل القامة، مستوي الخلقة لست كالبهائم التي لم تكن معدّلة بل تسير على يديها ورجليها، أما الإنسان فإنه خصّه الله بهذه الخصيصة {في أي صورة ما شاء ركبك} يعني الله ركبك في أي صورة شاء، من الناس من هو جميل، ومنهم من هو قبيح، ومنهم المتوسط، ومنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم ما بين ذلك، أي صورة يركبك الله عز وجل على حسب مشيئته، ولكنه عز وجل شاء للإنسان أن تكون صورته أحسن الصور ثم قال: {كلا بل تكذبون بالدين} {كلا} للاضراب يعني مع هذا الخلق والإمداد والإعداد تكذبون بالدين أي بالجزاء، وتقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، فتكذبون بالدين أي بالجزاء، وربما نقول: وتكذبون أيضاً بالدين نفسه، فلا تقرّون بالدين الذي جاءت به الرسل والاية شاملة لهذا وهذا؛ لأن القاعدة في علم التفسير وعلم شرح الحديث: «أنه إذا كان النص يحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الاخر فإنه يُحمل عليهما». {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} تأكيد بمؤكدين «إن» و«اللام» {وإن عليكم لحافظين} الإنسان عليه حافظ يحفظه ويكتب كل ما عمل، قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18]. فعلى كل إنسان حفظة يكتبون كل ما قال وكل ما فعل، وهؤلاء الحفظة كرام ليسوا لئاماً، بل عندهم من الكرم ما ينافي أن يظلموا أحداً، فيكتبوا عليه ما لم يعمل، أو يهدروا ما عمل؛ لأنهم موصوفون بالكرم {يعلمون ما تفعلون} إما بالمشاهدة إن كان فعلاً، وإما بالسماع إن كان قولاً، بل إن عمل القلب يطلعهم الله عليه فيكتبونه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من هم بالحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، ومن همّ بالسيئة ولم يعملها كتبت حسنة كاملة»، لأنه تركها لله عز وجل والأول يثاب على مجرد الهم بالحسنة.
{إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
{إن الأبرار لفي نعيم} هذا بيان للنهاية والجزاء {إن الأبرار} جمع بر وهم كثيروا فعل الخير، المتباعدون عن الشر {لفي نعيم} أي نعيم في القلب، ونعيم في البدن ولهذا لا تجد أحداً أطيب قلباً، ولا أنعم بالاً من الأبرار أهل البر، حتى قال بعض السلف: «لو يعلم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف»، وهذا النعيم الحاصل يكون في الدنيا وفي الاخرة، أما في الاخرة فالجنة، وأما في الدنيا فنعيم القلب وطمأنينته ورضاه بقضاء الله وقدره، فإن هذا هو النعيم الحقيقي، ليس النعيم في الدنيا أن تترف بدنيًّا، النعيم نعيم القلب {وإن الفجار} الفجار هم الكفار ضد الأبرار {لفي جحيم} أي في نار حامية {يصلونها} يعني يحترقون بها {يوم الدين} أي يوم الجزاء وذلك يوم القيامة {وما هم عنها بغائبين} أي لن يغيبوا عنها فيخرجوا منها كما قال الله تبارك وتعالى: {وما هم بخارجين منها} [المائدة: 37]. لأنهم مخلدون بها أبداً ـ والعياذ بالله ـ {وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين} هذا الاستهفام للتفخيم والتعظيم يعني أي شيء أعلمك بيوم الدين؟ والمعنى أعلم هذا اليوم، وأقدره قدره {يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئاً} في يوم القيامة لا أحد يملك لأحد شيئاً لا بجلب خير ولا بدفع ضرر إلا بإذن الله عز وجل لقوله: {والأمر يومئذ لله} في الدنيا هناك أناس يأمرون من الأمراء، والوزراء، والرؤساء، والاباء، والأمهات، لكن في الاخرة الأمر لله عز وجل، ولا تملك نفس لنفس شيئاً إلا بإذن الله، ولهذا كان الناس في ذلك اليوم يلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، ثم يطلبون الشفاعة من آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إلى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيشفع بإذن الله فيريح الله العالم من الموقف، {والأمر يومئذ لله}.
فإن قال قائل: أليس الأمر لله في ذلك اليوم وفي غيره؟
قلنا: بلى الأمر لله تعالى في يوم الدين وفيما قبله، لكن ظهور أمره في ذلك اليوم أكثر بكثير من ظهور أمره في الدنيا؛ لأن في الدنيا يخالف الإنسان أوامر الله عز وجل ويطيع أمر سيده، فلا يكون الأمر لله بالنسبة لهذا، لكن في الاخرة ليس فيه إلا أمر لله عز وجل. وهذا كقوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. والملك لله في الدنيا وفي الاخرة، لكن في ذلك اليوم يظهر ملكوت الله عز وجل وأمره، ويتبين أنه ليس هناك آمر في ذلك اليوم إلا الله عز وجل، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد

صقر قريش 09-01-2009 06:05 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَـئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ويل} كلمة ويل تكررت في القرآن كثيراً، وهي على الأصح كلمة وعيد يتوعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف أمره، أو ارتكب نهيه على الوجه المفيد في الجملة التي بعدها فهنا يقول عز وجل {ويل للمطففين} فمن هؤلاء المطففون؟ هؤلاء المطففون فسرتهم الايات التي بعدها فقال: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. {إذا اكتالوا على الناس يستوفون} يعني اشتروا منهم ما يكال استوفوا منهم الحق كاملاً بدون نقص {وإذا كالوهم أو وزنوهم} يعني إذا كالوا لهم أي هم الذين باعوا الطعام كيلاً، فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئاً وزناً إذا وزنوا نقصوا {يخسرون} فهؤلاء يستوفون حقهم كاملاً، وينقصون حق غيرهم، فجمعوا بين الأمرين، بين الشح والبخل، الشح: في طلب حقهم كاملاً بدون مراعاة أو مسامحة، والبخل: بمنع ما يجب عليهم من إتمام الكيل والوزن، وهذا المثال الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن هو مثال، فيقاس عليه كل ما أشبه، كل من طلب حقه كاملاً ممن هو عليه ومنع الحق الذي عليه فإنه داخل في الاية الكريمة، فمثلاً الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقه كاملاً ولا يتهاون في شيء من حقه، لكنه عند أداء حقها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، وما أكثر ما تشكي النساء من هذا الطراز من الأزواج ـ والعياذ بالله ـ حيث إن كثيراً من النساء يريد منها الزوج أن تقوم بحقه كاملاً، لكنه هو لا يعطيها حقها كاملاً، ربما ينقص أكثر حقها من النفقة والعشرة بالمعروف وغير ذلك، إن ظلم الناس أشد من ظلم الإنسان نفسه في حق الله؛ لأن ظلم الإنسان نفسه في حق الله تحت المشيئة إذا كان دون الشرك، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الادميين ليس داخلاً تحت المشيئة لابد أن يوفى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من تعدون المفلس فيكم؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ـ كثيرة ـ فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»، فنصيحتي لهؤلاء الذين يفرطون في حق أزواجهم أن يتقوا الله عز وجل فإن النبي صلى الله عليه وسلّم أوصى بذلك في أكبر مجمع شهده العالم الإسلامي في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم عرفة في حجة الوداع، قال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله»، فأمرنـا أن نتقي الله تعالى في النساء وقال: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي بمنزلة الأسرى لأن الأسير إن شاء فكه الذي أسره وإن شاء أبقاه، والمرأة عند زوجها كذلك إن شاء طلقها وإن شاء أبقاها، فهي بمنزلة الأسير عنده فليتق الله فيها، كذلك أيضاً نجد بعض الناس يريد من أولاده أن يقوموا بحقه على التمام لكنه مفرط في حقهم، فيريد من أولاده أن يبروه ويقوموا بحقه، أن يبروه في المال، وفي البدن، وفي كل شيء يكون به البر، لكنه هو مضيع لهؤلاء الأولاد، غير قائم بما يجب عليه نحوهم، نقول هذا مطفف، كما نقول في المسألة الأولى في مسألة الزوج مع زوجته إنه إذا أراد منها أن تقوم بحقه كاملاً وهو يبخس حقها نقول إنه «مطفف» هذا الأب الذي أراد من أولاده أن يبروه تمام البر وهو مقصر في حقهم نقول إنك «مطفف» ونقول له تذكر قول الله تعالى: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} ثم قال تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} يعني ألا يتيقن هؤلاء ويعلموا علم اليقين؛ لأن الظن هنا بمعنى اليقين، والظن بمعنى اليقين يأتي كثيراً في القرآن مثل قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة:: 46]. فقال: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} وهم يتيقنون أنهم ملاقوا الله، لكن الظن يستعمل بمعنى اليقين كثيراً في اللغة العربية، وهنا يقول عز وجل: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} ألا يتيقن هؤلاء أنهم مبعوثون أي مخرجون من قبورهم لله رب العالمين {ليوم عظيم} هذا اليوم عظيم ولا شك أنه عظيم كما قال تعالى: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1]. عظيم في طوله، في أهواله، فيما يحدث فيه، في كل معنى تحمله كلمة عظيم، لكن هذا العظيم هو على قوم عسير، وعلى قوم يسير، قال تعالى: {على الكافرين غير يسير} [المدثر: 10]. وقال تعالى: {يقول الكافرون هذا يوم عسر} [القمر: 8]. لكنه بالنسبة للمؤمنين ـ جعلنا الله منهم ـ يسير كأنما يؤدي به صلاة فريضة من سهولته عليه ويسره عليه، لاسيما إذا كان ممن استحق هذه الوقاية العظيمة، وكان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فهذا اليوم عظيم لكنه بالنسبة للناس يكون يسيراً ويكون عسيراً {يوم يقوم الناس لرب العالمين} يعني هذا اليوم العظيم هو {يوم يقوم الناس لرب العالمين} يقومون من قبورهم حفاة ليس لهم نعال ولا خفاف، عراة ليس عليهم ثياب لا قُمص ولا سراويل ولا أزر ولا أردية، غرلاً أي غير مختونين بمعنى أن القلفة التي تقطع في الختان تعود يوم القيامة مع صاحبها كما قال الله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104]. ويعيده الله عز وجل لبيان كمال قدرته تعالى، وأنه يعيد الخلق كما بدأهم، والقلفة إنما قطعت في الدنيا من أجل النزاهة عن الأقذار؛ لأنها إن بقيت فإنه ينحبس فيها شيء من البول وتكون عرضة للتلويث، لكن هذا في الاخرة لا حاجة إليه؛ لأن الاخرة ليست دار تكليف بل هي دار جزاء إلا أن الله سبحانه وتعالى قد يكلف فيها امتحاناً كما قال تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم:: 43]. فالناس يقومون على هذا الوصف حفاة، عراة، غرلاً، وفي بعض الأحاديث بُهماً قال العلماء: البهم يعني الذين لا مال معهم، ففي يوم القيامة لا مال يفدي به الإنسان نفسه من العذاب في يوم القيامة، ليس هناك ابن يجزي عن أبيه شيئاً، ولا أب يجزي عن ابنه شيئاً، ولا صاحبة ولا قبيلة كلٌّ يقول نفسي نفسي. {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37]. نسأل الله تعالى أن يعيننا على أهواله وأن ييسره علينا.
قال تعالى: {لرب العالمين} وهو الله جل وعلا، وفي هذا اليوم تتلاشى جميع الأملاك إلا ملك رب العالمين جل وعلا، قال الله تعالى: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيئاً. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} [غافر: 16 ـ 17].
{كَلاَّ إِنَّ كِتَـبَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَـبٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا قَالَ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَـذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} {كلا} إذا وردت في القرآن لها معانٍ حسب السياق، قد تكون حرف ردع وزجر، وقد تكون بمعنى حقًّا، وقد يكون لها معانٍ أخرى يعينها السياق؛ لأن الكلمات في اللغة العربية ليس لها معنى ذاتي لا تتجاوزه، بل كثير من الكلمات العربية لها معانٍ تختلف بحسب سياق الكلام، في هذه الاية يقول الله عز وجل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} فتحتمل أن تكون بمعنى حقًّا إن كتاب الفجار لفي سجين، أو تكون بمعنى: الردع عن التكذيب بيوم الدين، وعلى كل حال فبين الله تعالى في هذه الاية الكريمة أن كتاب الفجار في سجين، والسجين قال العلماء: إنه مأخوذ من السجن وهو الضيق، أي في مكان ضيق، وهذا المكان الضيق هو نار جهنم ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تبارك وتعالى: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً} [الفرقان 13، 14]. وجاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في قصة المحتضر وما يكون بعد الموت أن الله سبحانه وتعالى يقول: «اكتبوا كتاب عبدي في السجين يعني ـ الكافر ـ في الأرض السابعة السفلى» فسجين هو أسفل ما يكون من الأرض الذي هو مقر النار نعوذ بالله منها فهذا الكتاب في سجين ثم عظم الله عز وجل هذا السجين بقوله: {وما أدراك ما سجين} فالاستفهام هنا للتعظيم أي ما الذي أعلمك بسجين؟ وهل بحثت عنه؟ وهل سألت عنه حتى يبين لك، والتعظيم قد يكون لعظمة الشيء رفعة، وقد يكون لعظمة الشيء نزولاً، وهذا التعظيم في سجين ليس لرفعته وعلوه ولكنه لسفوله ونزوله، ثم قال تعالى: {كتاب مرقوم} كتاب هذه لا تعود على سجين وإنما تعود على كتاب في قوله: {كلا إن كتاب الفجار} فما هذا الكتاب فقال: {كتاب مرقوم} يعني مكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص ولا يبدل ولا يغيّر، بل هذا مآلهم ومقرهم ـ والعياذ بالله ـ أبد الابدين {ويل يومئذ للمكذبين} ويل سبق الكلام عليها في أول هذه السورة {الذين يكذبون بيوم الدين} الكلام من أول السورة إلى آخرها كله في يوم الدين والجزاء، هؤلاء الذين يكذبون بيوم الدين توعدهم الله بالويل؛ لأن هؤلاء المكذبين بيوم الدين لا يمكن أن يستقيموا على شريعة الله. لا يستقيم على شريعة الله إلا من آمن بيوم الدين؛ لأن من لم يؤمن به وإنما آمن بالحياة فقط، فهو لا يهتم بما ورائها، ولا يعمل لذلك، وإنما يبقى كالأنعام يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم. والله يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الاخر دائماً؛ لأن الإيمان بالله ابتداء والإيمان باليوم الاخر انتهاء. فتؤمن بالله ثم تعمل لليوم الاخر الذي هو المقر، فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ كذبوا بيوم الدين، ومن كذب به لا يمكن أن يعمل له أبداً؛ لأن العمل مبني على عقيدة، فإذا لم يكن هناك عقيدة فكيف يعمل، ولهذا قال: {وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم} أي ما يكذب بيوم الدين وينكره {إلا كل معتد أثيم}: {معتد} في أفعاله {أثيم} في أقواله، وقيل: {معتد} في أفعاله {أثيم} في كسبه أي أن مآله إلى الإثم، والمعنيان متقاربان فلا يمكن أن يكذب بيوم الدين إلا رجل معتد أثيم، آثم كاسب للاثام التي تؤدي به إلى نار جهنم نعوذ بالله {إذا تتلى عليه آياتنا} يعني إذا تلاها عليه أحد، وهو يدل على أن هذا الرجل لا يفكر أن يتلو آيات الله ولكنها تتلى عليه فإذا تليت عليه {قال أساطير الأولين} أي هذه أساطير الأولين وأساطير: جمع أسطورة وهي الكلام الذي يذكر للتسلي ولا حقيقة له ولا أصل له، فيقول: هذا القرآن أساطير الأولين، ولم ينتفع بالقرآن وهو أبلغ الكلام وأشده تأثيراً على القلب حتى قال الله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37]. لأنه يكذب بيوم الدين، وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم، فلم يكن مؤمناً فلم يصل نور آيات الله عز وجل إلى قلبه، بل يراها مثل أساطير الأولين التي يتكلم بها العجائز وليس لها أي حقيقة وليس فيها أي جد. قال الله عز وجل {كلا بل} أي ليست أساطير الأولين ولكن هؤلاء {ران على قلوبهم} أي اجتمع عليها وحجبها عن الحق {ما كانوا يكسبون} أي من الأعمال السيئات؛ لأن الأعمال السيئات تحول بين المرء وبين الهدى كما قال الله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]. فمن اهتدى بهدي الله واتبع ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وصدق بما أخبر الله به، وفعل مثل ذلك فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أن قلبه يستنير وأنه يرى الحق حقًّا، ويرى الباطل باطلاً، ويعظم آيات الله عز وجل، ويرى أنها فوق كل كلام، وأن هدي محمد صلى الله عليه وسلّم فوق كل هدي، هذا من أنار الله قلبه بالإيمان، أما من تلطخ قلبه بأرجاس المعاصي وأنجاسها فإنه لا يرى هذه الايات حقًّا بل لا يراها إلا أساطير الأولين كما في هذه الاية. {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وفي {بل} سكتة لطيفة عند بعض القراء وعند آخرين لا سكتة فيجوز على هذا أن تقول {كلا بل. ران} ويجوز أن تقول: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وهذه لا تغير المعنى سواء سكتّ أم لم تسكت فالمعنى لا يتغير. {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} أي حقًّا إنهم عن ربهم لمحجوبون، وذلك في يوم القيامة فإنهم يحجبون عن رؤية الله عز وجل كما حُجبوا عن رؤية شريعته وآياته فرأوا أنها أساطير الأولين. وبهذه الاية استدل أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله عز وجل، ووجه الدلالة ظاهر فإنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا وقد مكن للأبرار من رؤيته تعالى في حال الرضا، فإذا كان هؤلاء محجوبون فإن الأبرار غير محجوبين، ولو كان الحجب لكل منهم لم يكن لتخصيصه بالفجار فائدة إطلاقاً. ورؤية الله عز وجل ثابتة بالكتاب، ومتواتر السنة، وإجماع الصحابة والأئمة، لا إشكال في هذا أنه تعالى يُرى حقًّا بالعين كما قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} [القيامة: 23]. وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]. وقد فسر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله تعالى، وكما في قوله تعالى: {لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} [ق: 35]. والمزيد هنا هو بمعنى الزيادة في قوله {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وكما قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. فإن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية، ولهذا كانت هذه الاية مما اسjدل به السلف على رؤية الله، واستدل به الخلف على عدم رؤية الله، ولا شك أن الاية دليل عليهم، لأن الله لم ينف بها الرؤية وإنما نفى الإدراك، ونفي الإدارك يدل على ثبوت أصل الرؤية. فالحاصل أن القرآن دل على ثبوت رؤية الله عز وجل حقًّا بالعين، وكذلك جاءت السنة الصحيحة بذلك حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام «إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب»، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته»، وقد آمن بذلك الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان من سلف هذه الأمة وأئمتها، وأنكر ذلك من حُجبت عقولهم وقلوبهم عن الحق فقالوا: إن الله لا يمكن أن يُرى بالعين، وإنما المراد بالرؤية في الايات هي رؤية القلب أي اليقين، ولا شك أن هذا قول باطل مخالف للقرآن والسنة وإجماع السلف، ثم إن اليقين ثابت لغيرهم أيضاً حتى الفجار يوم القيامة سوف يرون ما وُعدوا به حقًّا ويقينًا، وليس هذا موضع الإطالة في إثبات رؤية الله عز وجل والمناقشة في أدلة الفريقين؛ لأن الأمر ولله الحمد من الوضوح أوضح من أن يطال الكلام فيه، {ثم إنهم لصالوا الجحيم} أي هؤلاء الفجار {لصالوا الجحيم} أي يصلونها يصلون حرارتها أو عذابها نسأل الله العافية، ثم يقال تقريعاً لهم وتوبيخاً {هذا الذي كنتم به تكذبون} فيجتمع عليهم العذاب البدني والألم البدني بصلي النار وكذلك العذاب القلبي بالتوبيخ والتنديم حيث يقال: {هذا الذي كنتم به تكذبون} ولهذا يقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، قال الله تعالى: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}. [الأنعام: 28].
{كَلاَّ إِنَّ كِتَـبَ الاَْبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَـبٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَـمُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـفِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}.
{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} هذه الاية يذكر الله عز وجل خبراً مؤكدا «بإن» لأن {إن} في اللغة العربية من أدوات التوكيد. فإنك إذا قلت: الرجل قائم، هذا خبر غير مؤكد، فإذا قلت: إن الرجل قائم. صار خبراً مؤكداً فيقول الله عز وجل: {إن كتاب الأبرار لفي عليين} وهذا مقابل {إن كتاب الفجار لفي سجين} فكتاب الفجار في سجين في أسفل الأرض، وكتاب الأبرار في عليين في أعلى الجنة، أي أنهم في هذا المكان العالي قد كُتب ذلك عند الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {وما أدراك ما عليون} أي ما الذي أعلمك ما عليون؟ وهذا الاستفهام يراد به التفخيم والتعظيم. يعني أي شيء أدراك به فإنه عظيم قال الله تعالى: {كتاب مرقوم} هذا بيان لقوله: {إن كتاب الأبرار} أي أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم مكتوب لا يتغير ولا يتبدل {يشهده المقربون} يشهده أي يحضره، أو يشهد به المقربون، و{المقربون} عند الله هم الذين تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته. وكلما كان الإنسان أكثر طاعة لله كان أقرب إلى الله. وكلما كان الإنسان أشد تواضعاً لله كان أعز عند الله، وكان أرفع عند الله، قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11]. فالمقربون هم الذين تقربوا إلى الله تعالى بصالح الأعمال، فقربهم الله من عنده {إن الأبرار} الأبرار: جمع بر، والبر كثير الخير، كثير الطاعة، كثير الإحسـان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فهؤلاء الأبرار الذين منّ الله عليهم بفعل الخـيرات، وترك المنكرات {لفي نعيم} والنعيم هنا يشمـل نعيم البدن ونعيم القلـب، أمـا نعيم البدن فلا تسأل عنه فإن الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعـين وأنتـم فيهـا خـالـدون} [الزخرف: 71]. وقال تعالى: {فلا تعلم نفـسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وأمـا نعيم القلـب فـلا تسأل عنه أيضاً فإنهم يقال لهم وقد شاهدوا الموت قد ذبح يقال لهم: يا أهل الجنة خلود ولا موت ويقال لهم: ادخلوها بسلام، ويقال لهم: إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وكل هذا مما يدخل السرور على القلب فيحصل لهم بذلك نعيم القلب ونعيم البدن، والملائكة يدخون عليهم من كل باب يقولون لهم {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24]. جعلنا الله منهم، وقوله تعالى: {على الأرائك} الأرائك جمع أريكة وهي السرير المزخرف المزيّن الذي وَضع عليه مثل الظل، وهو من أفخر أنواع الأسرة فهم على الأرائك على هذه الأسرة الناعمة الحسنة البهية {ينظرون} يعني ينظرون ما أنعم الله به عليهم من النعيم الذي لا تدركه الأنفس الان {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. وقال بعض العلماء: إن هذا النظر يشمل حتى النظر إلى وجه الله، وجعلوا هذه الاية من الأدلة على ثبوت رؤية الله عز وجل في الجنة {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} أي تعرف أيها الناظر إليهم {في وجوههم نضرة النعيم} أي حسن النعيم وبهاءه، أي التنعم، وأنتم تشاهدون الان في الدنيا أن المنعمين المترفين وجوههم غير وجوه الكادحين العاملين. تجدها نضرة، تجدها حسنة، تجدها منعمة، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم أي التنعم والسرور؛ لأنهم أسّر ما يكون، وأنعم ما يكون، ثم قال الله تعالى في بيان ما لهم من النعيم {يسقون من رحيق مختوم} الضمير في قوله: {يسقون} يعني الأبرار، يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله: {يطوف عليهم ولدان مخلدون. بأكواب وأباريق وكأس من معين. لا يصدعون عنها ولا ينزفون} [الواقعة: 17، 19]. {يسقون من رحيق} أي من شراب خالص لا شوب فيه ولا ضرر فيه على العقل، ولا ألم فيه في الرأس، بخلاف شراب الدنيا فإنه يغتال العقل ويصدع الرأس. أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى {مختوم. ختامه مسك} أي بقيته وآخره مسك أي طيّب الريح. بخلاف خمر الدنيا فإنه خبيث الرائحة. فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أعطوها يوم القيامة. {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي وفي هذا الثواب والجزاء {فليتنافس المتنافسون} أي فليتسابق المتسابقون سباقاً يصل بهم إلى حد النفس، وهو كناية عن السرعة في المسابقة. يقال: نافسته أي سابقته سباقاً بلغ بي النفس، والمنافسة في الخير هي المسابقة إلى طاعة الله عز وجل وإلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والبعد عما يسخط الله ثم قال عز وجل: {ومزاجه من تسنيم. عيناً يشرب بها المقربون} أي مزاج هذا الشراب الذي يُسقاه هؤلاء الأبرار {من تسنيم}: أي من عين رفيعة معنى وحسًّا، وذلك لأن أنهار الجنة تفجّر من الفردوس، والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرب عز وجل كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم أي: من المكان المسنَّم الرفيع العالي، وهو جنة عدن {عيناً يشرب بها المقربون} أي أن هذه العين والمياه النابعة، والأنهار الجارية يشرب بها المقربون.
وهنا سيقول قائل: لماذا قال: {يشرب بها}؟ هل هي إناء يُحمل حتى يقال شرب بالإناء؟
فالجواب: لا. لأن العين والنهر لا يُحمل. إذن لماذا لم يقل يشرب منها المقربون؟ والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين: فمن العلماء من قال: (الباء) بمعنى (من) فمعنى {يشرب بها} أي يشرب منها. ومنهم من قال: إن يشرب بمعنى يروى ضمّنت معنى يروى فمعنى {يشرب بها} أي يروى بها المقربون. وهذا المعنى أو هذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله؛ لأن هذا الوجه يتضمن شيئين يرجحانه وهما: أولاً: إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي. والثاني: أن الفعل {يشرب} ضمَّن معنى أعلى من الشرب وهو الري، فكم من إنسان يشرب ولا يروى، لكن إذا روي فقد شرب، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يضمّن الفعل {يشرب} بمعنى يروى.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـفِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
{إن الذين أجرموا} أي قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة {كانوا} أي في الدنيا {من الذين آمنوا يضحكون} استهزاءاً وسخرية واستصغاراً لهم، {وإذا مروا} الفاعل يصح أن يكون إذا مر المؤمنون بالمجرمين، أو إذا مر المجرمون بالمؤمنين، والقاعدة التي ينبغي أن تفهم في التفسير: أن الاية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الاخر وجب حملها على المعنيين؛ لأن ذلك أعم، فإذا جعلناها للأمرين صار المعنى: أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنين وهم جلوس تغامزوا، وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضاً فتكون شاملة للحالين: حال مرور المجرمين بالمؤمنين، وحال مرور المؤمنين بالمجرمين. {يتغامزون} يعني يغمز بعضهم بعضاً، انظر إلى هؤلاء سخرة واستهزاء واستصغاراً. {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم {انقلبوا فكهين} يعني متفكهين بما نالوه من السخرية بهؤلاء المؤمنين، فهم يستهزؤن ويسخرون ويتفكهون بهذا، ظنًّا منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين، ولكن الأمر بالعكس. ثم قال تعالى: {وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} {إذا رأوهم} أي رأى المجرمون المؤمنين {قالوا إن هؤلاء لضالون}، ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون متشددون إلى غير ذلك من الألقاب، ولقد كان لهؤلاء السلف خلف في زماننا اليوم وما قبله وما بعده، من الناس من يقول عن أهل الخير: إنهم رجعيون، إنهم متخلفون ويقولون عن المستقيم: إنه متشدد متزمت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل عليهم الصلاة والسلام إنهم سحرة أو مجانين، قال الله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون}. [الذاريات: 52]. فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع أهل التعطيل للسلف أهل الإثبات بأنهم حشوية مجسمة مشبهة وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي {وما أرسلوا عليهم حافظين} أي أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم، بل الحكم لله عز وجل ثم قال تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} اليوم يعني يوم القيامة، الذين آمنوا يضحكون من الكفار فـ{فالذين} مبتدأ و{يضحكون} خبره و{من الكفار} متعلق بيضحكون، والمعنى: فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار، وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك المجرمين بالمؤمنين في الدنيا فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور {على الأرائك ينظرون} أي أن المؤمنين على الأرائك في الجنة، والأرائك هي السرر الفخمة الحسنة النضيرة {ينظرون} أي ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب، وينظرون أولئك الذين يسخرون بهم في الدنيا، ينظرون إليهم وهم في عذاب الله كما قال الله تعالى: {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمدينون. قال هل أنتم مطلعون} [الصافات: 51 ـ 54]. يقول لأصحابه في الجنة يعرض عليهم أن يطلعوا إلى قرينه الذي كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} في قعره وأصله قال له: {تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} فأنت ترى أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار والمؤمنون في الجنة. ثم قال تعالى: {هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} {ثوب} أي جوزي، و{هل} هنا للتقرير أي أن الله تعالى قد ثوب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى حكم عدل. فحكمه دائر بين العدل والفضل، بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل، وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل، فالحمد لله رب العالمين، وبهذا تم الكلام الذي يسره الله عز وجل على سورة المطففين نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين. إنه جواد كريم

صقر قريش 09-01-2009 06:05 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الانشقاق محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الاَْرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يأَيُّهَا الإِنسَـنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَـقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إذا السماء انشقت} انشقت: انفتحت وانفرجت كقوله تعالى: {وإذا السماء فُرجت} [المرسلات: 9]. وكقوله تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. فبأي ألاء ربكما تكذبان. فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39]. إذاً فانشقاقها يوم القيامة. {وأذنت لربها} أذنت: بمعنى استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق فانشقت بينما هي كانت كما وصفها الله تعالى {سبعاً شداداً} [النبأ: 12]. قوية كما قال تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47]. أي بقوة فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة تتشقق تتفرج بإذن الله سبحانه وتعالى {وحقت} أي حق لها أن تأذن، أي تسمع وتطيع؛ لأن الذي أمرها الله ربها خالقها عز وجل، فتسمع وتطيع، كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، ففي ابتداء خلقها قال الله تبارك وتعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. فتأمل أيها الادمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل، هذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق. في ابتداء الخلق قال: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} في انتهاء الخلق {إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت} حُق لها أن تأذن تسمع وتطيع. ثم أعاد قال: {وأذنت لربها وحقت} تأكيداً لاستماعها لربها وطاعتها لربها. {وإذا الأرض مدت} هذه الأرض التي نحن عليها الان هي غير ممدودة، أولاً: أنها كرة مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلاً ـ أي ممتدة قليلاً ـ فهي مدورة الان، ثانياً: ثم هي أيضاً معرجة فيها المرتفع جداً، وفيها المنخفض، فيها الأودية، فيها السهول، فيها الرمال، فهي غير مستوية لكن يوم القيامة {وإذا الأرض مدت} أي تمد مدًّا واحداً كمد الأديم يعني كمد الجلد، كأنما تفرش جلداً أو سماطاً، تُمد حتى إن الذين عليها ـ وهم الخلائق ـ يُسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، لكن الان لا ينفذهم البصر، لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث: «يجمع الله تعالى يوم القيامة الأولين والاخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفُذُهُم البصر». {وألقت ما فيها وتخلت} أي جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة، تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل، كما بدأهم أول خلق، أي كما خرجوا من بطون أمهاتهم يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافياً، عارياً، أغرل إلا أن بعض الناس قد يخلق مختوناً لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، عارياً ليس عليك كساء، أغرل لست مختوناً، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قالت عائشة: يا رسول الله: الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض»، الأمر شديد، كل إنسان لاهٍ عن نفسه {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37]. والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور فإنه يرتعب ويخاف، وإذا كان عاقلاً مؤمناً عمل لهذا اليوم، {وأذنت لربها وحقت} أذنت يعني استمعت وأطاعت لربها وحقت فبعد أن كانت مدورة فيها المرتفع والنازل صارت كأنها جلد ممتدة امتداداً واحداً. ثم قال عز وجل: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً} الكادح: هو الساعي بجد ونوع مشقة وقوله: {إلى ربك} يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، كدحاً يوصل إلى الله، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى هو الله عز وجل {وأن إلى ربك المنتهى} [النجم: 42]. ولهذا قال: {كادح إلى ربك كدحاً} حتى العاصي كادح كادحًا غايته الله عز وجل {إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26]. لكن الفرق بين المطيع والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله، لكن مع ذلك ينتهي إلى الله عز وجل إذاً قوله: {يا أيها الإنسان} يعم كل إنسان مؤمن وكافر {إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} الفاء يقول النحويون: إنها تدل على الترتيب والتعقيب، يعني، فأنت ملاقيه عن قرب {إن ما توعدون لات} [الأنعام: 134]. وكل آت قريب {وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى: 17]. وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة فانظر ما مضى من عمرك الان، لو مضى لك مئة سنة كأنما هذه السنوات ساعة واحدة. كل الذي مضى من أعمارنا كأنه ساعة واحدة. إذاً هو قريب، ثم إذا مات الإنسان، فالبرزخ الذي بين الحياة الدنيا والاخرة قريب قريب كاللحظة، والإنسان إذا نام نوماً هادئاً ولنقل نام أربعاً وعشرين ساعة، وقام فإنه يقدر النوم بدقيقة واحدة مع أنه نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كان هذا في مفارقة الروح في الحياة يمضي الوقت بهذه السرعـة، فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولـة إما بنعيم أو جحيم، ستمر السنوات على الإنسان كأنها لا شيء، لأن امتداد الزمن في حال يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حال نومنا، فالإنسان المستيقظ من طلوع الشمس إلى زوال الشمس مسافة يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً ما كأنها شيء، والذي أماته الله مئة عام ثم بعثه {قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم}. وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فلما بُعثوا قال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذا يدل على أن الإنسان يتعجب كيف تذهب السنوات على هؤلاء الأموات؟ نقول نعم، السنوات ما كأنها إلا دقيقة واحدة، لأن حال الإنسان بعد أن تفارق الروح بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن، فإذا كانت الروح في البدن يعاني من المشقة والمشاكل والهواجيس والوساوس أشياء تطيل عليه الزمن، لكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً، في الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا منذ سنين طويلة كأنهم لم يموتوا إلا اليوم لو بعثوا لقيل لهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع مهما طالت المدة بأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال: {فملاقيه} أي (بالفاء) الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل. ثم قسم الله عز وجل الناس عند ملاقاته تعالى إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه من وراء ظهره، {فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً} لما ذكر أن الإنسان كادح إلى ربه {كادحاً} أي عامل بجد ونشاط وأن عمله هذا ينتهي إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى: {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123]. لما ذكر هذا قال: {فأما من أوتي كتابه بيمينه}، إشارة إلى أن هؤلاء العاملين منهم من يؤتى كتابه بيمينه، ومنهم من يؤتى كتابه من وراء ظهره {فأما من أوتي كتابه بيمينه} و{أوتي} هنا فعل مبني لما لم يسم فاعله، فمن الذي يؤتيه؟ يحتمل أنه الملائكة، أو غير ذلك لا ندري، المهم أنه يعطى كتابه بيمينه أي يستلمه باليمنى. {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} أي يحاسبه الله تعالى بإحصاء عمله عليه، لكنه حساب يسير، ليس فيه أي عسر كما جاءت بذلك السنة: أن الله عز وجل يخلو بعبده المؤمن، ويقرره بذنوبه، فيقول: عملت كذا، عملت كذا، عملت كذا، ويقر بذلك ولا ينكر فيقول الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، ولا شك أن هذا حساب يسير يظهر فيه منّة الله على العبد، وفرحه بذلك واستبشاره. والمحاسب له هو الله عز وجل كما قال تعالى: {إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25، 26]. {وينقلب إلى أهله مسروراً} ينقلب من الحساب إلى أهله في الجنة مسروراً، أي مسرور القلب، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم هم بعد ذلك درجات، وهذا يدل على سرور القلب؛ لأن القلب إذا سُر استنار الوجه {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعو ثبورًا. ويصلى سعيًرا} هؤلاء هم الأشقياء والعياذ بالله، يؤتى كتابه وراء ظهره وليس عن يمينه، وفي الاية الأخرى في سورة الحاقة {وأما من أوتي كتابه بشماله} [الحاقة: 25]. فقيل: إن من لا يؤتى كتابه بيمينه ينقسم إلى قسمين: منهم من يؤتى كتابه بالشمال، ومنهم من يؤتى كتابه وراء ظهره، والأقرب والله أعلم أنه يؤتى كتابه بالشمال، ولكن تلوى يده حتى تكون من وراء ظهره، إشارة إلى أنه نبذ كتاب الله وراء ظهره، فيكون الأخذ بالشمال ثم تلوى يده إلى الخلف إشارة إلى أنه قد ولى ظهره كتاب الله عز وجل ولم يبال به، ولم يرفع به رأساً، ولم ير بمخالفته بأساً. {فسوف يدعو ثبوراً} أي يدعو على نفسه بالثبور، يقول: واثبوراه يا ويلاه، وما أشبه ذلك من كلمات الندم والحسرة، ولكن هذا لا ينفع في ذلك اليوم؛ لأنه انتهى وقت العمل فوقت العمل، هو في الدنيا، أما في الاخرة فلا عمل وإنما هو الجزاء {ويصلى سعيًرا} أي يصلى النار التي تسعر به ويكون مخلداً فيها أبداً، لأنه كافر {إنه كان في أهله مسروراً} إنه كان في الدينا في أهله مسروراً، ولكن هذا السرور أعقبه الندم والحزن الدائم المستمر، واربط بين قوله تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه {وينقلب إلى أهله مسروراً}، وهذا {كان في أهله مسروراً} تجد فرقاً بين السرورين، فسرور الأول سرور دائم ـ نسأل الله أن يجعلنا منهم ـ وسرور الثاني سرور زائل، ذهب {كان في أهله مسروراً} أما الان فلا سرور عنده {إنه ظن أن لن يحور} أي: ألا يرجع بعد الموت، ولهذا كانوا ينكرون البعث ويقولون لا بعث، ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم {إنه ظن أن لن يحور} قال تعالى: {بلى} أي سيحور ويرجع {إن ربه كان به بصيراً} يعني أنه سيرجع إلى الله عز وجل الذي هو بصير بأعماله، وسوف يحاسبه عليها على ما تقتضيه حكمته وعدله.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
{فلا أقسم بالشفق. والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق. لتركبن طبقاً عن طبق}. هذه الجملة مكونة من قسم، ومُقسم به، ومقسم عليه، ومُقسِم، فالقسم في قوله: {لا أقسم بالشفق} قد يظن الظان أن معنى {لا أقسم} نفي، وليس كذلك بل هو إثبات و{لا} هنا جيء بها للتنبيه، ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام ولها نظائر مثل {لا أقسم بهذا البلد}. {لا أقسم بيوم القيامة}. {فلا أقسم برب المشارق}. {فلا أقسم بما تبصرون}. وكلها يقول العلماء: إن (لا) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت، أما المقسِم فهو الله عز وجل فهو مُقْسِم ومُقْسَم به، فهو سبحانه مقسم، أما المقسَم به في هذه الاية فهو الشفق وما عطف عليه.
فإن قال قائل: لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم؟
قلنا: إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن الكريم نزل باللسان العربي وإذا كان من عادتهم أنهم يؤكدون الكلام بالقسم صار هذا الأسلوب جارياً على اللسان العربي الذي نزل به القرآن.
وقوله: {بالشفق} الشفق هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس. وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء وبعضهم قال إذا غاب البياض وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة، لكن الذي عليه الجمهور، ويقال: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه: هو أن الشفق هو الحمرة وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب {والليل وما وسق} هذا أيضاً مقسم به معطوف على الشفق، يعني وأقسم بالليل وما وسق وهذان قسمان {والليل وما وسق} الليل معروف {وما وسق} أي ما جمع، لأن الليل يجمع الوحوش والهوام وما أشبه ذلك، تجتمع وتخرج وتبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض. {والقمر إذا اتسق} القمر معروف. ومعنى {إذا اتسق} يعني إذا جتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار. فأقسم الله عز وجل {بالليل وما وسق} أي ما جمع. وبالقمر لأنه آية الليل، ثم قال بعد ذلك: {لتركبن طبقاً عن طبق} والخطاب هنا لجميع الناس، أي لتركبن حالاً عن حال، وهو يعني أن الأحوال تتغير فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب:
الأول: أحوال الزمان تتنقل {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140]. فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس، حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم، وفي هذا يقول الشاعر:
ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
وهذا شيء يعرفه كل واحد بنفسه تصبح اليوم فرحاً مسروراً وفي اليوم الثاني بالعكس بدون سبب لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً عن طبق.
الثاني: الأمكنة ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم التالي منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الاخرة، وما قبل الاخرة وهي القبور هي منازل مؤقتة. القبور ليست هي آخر المنازل بل هي مرحلة. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال الأعرابي: «والله ما الزائر بمقيم» فالأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه، لأنه كما هو معلوم الزائر يزور ويمشي، وبه نعرف أن ما نقرؤه في الجرائد «فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير» أن هذه الكلمة غلط كبير ومدلولها كفر بالله عز وجل كفر باليوم الاخر، لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، والذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى، كافر، فالمثوى الأخير إما جنة وإما نار.
الثالث: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق واستمع إلى قول الله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} [الروم: 54]. أول ما يخلق الإنسان طفلاً صغيراً يمكن أن تجمع يديه ورجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد ضعيفًا، ثم لايزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلىء نوراً، ثم يعود ينقـص شيئـاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
الرابع: حال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب؟! أحوال القلوب هي النعمة وهي النقمة، القلوب كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فإن شاء أزاغه وإن شاء هداه، ولما حدّث النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث قال: «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، فالقلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا، تارة يتعلق بالمال ويكون المال أكبر همه، تارة يتعلق بالنساء وتكون النساء أكبر همه، تارة يتعلق بالقصور والمنازل ويكون ذلك أكبر همه، تارة يتعلق بالمركوبات والسيارات ويكون ذلك أكبر همه، تارة يكون مع الله عز وجل دائماً مع الله يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله، فيستخدم الدنيا؛ لأنها خلقت له ولا تستخدمه الدنيا. وأصحاب الدنيا هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها. لكن أصحاب الاخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا يصرفونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، يراجعون الشيكات، يراجعون المصروفات، يراجعون المدفوعات، يراجعون ما أخذوا وما صرفوا، هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا، هذه أحوال القلوب، وأحوال القلوب هي أعظم الأحوال الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً أن نراجع قلوبنا كل ساعة كل لحظة أين صرفت أيها القلب؟ أين ذهبت؟ لماذا تنصرف عن الله؟ لماذا تلتفت يميناً وشمالاً؟ ولكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وغلب على كثير من الناس، حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته التي هي رأس ماله بعـد الشهادتين فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أين وعد الله؟ فيقال: يا أخي هل صلاتك صلاة إذا كنت من حين تكبر تفتح لك باب الهواجيس التي لا نهاية لها، فهل أنت مصل؟ صليت بجسمك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها نصفها، ربعها، ثلثها، عشرها، خمسها» حسب ما تعقل منها، إذاً فالقلوب تركب طبقاً عن طبق ثم قال تعالى: {فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} {ما لهم} أي شيء يمنعهم من الإيمان، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاخر وأنفقوا مما رزقهم الله، أي شيء يمنعهم من الإيمان، وأي شيء يضرهم إذا آمنوا، قال مؤمن آل فرعون: {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم فإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم} [غافر: 28]. فأي شيء على الإنسان إذا آمن؟ ولهذا قال موبخاً لهم: {فما لهم لا يؤمنون. وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون} أي لا يخضعون لله عز وجل فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض لكن يسجد القلب ويلين ويذل إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين {إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} [الأنفال: 2]. وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبهٌ من المشركين الذين إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون، ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن أن الإنسان إذا قرأ آية سجدة سجد لله ذلاً له وخضوعاً، وقد استدل بعض العلماء بهذه الاية على وجوب سجود التلاوة. وقال: إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثماً. والصحيح: أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول أعني القول بالوجوب هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح، وذلك أنه ثبت في الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه خطب الناس يوماً فقرأ سورة النحل فلما وصل آية السجدة نزل من المنبر فسجد، ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد فقال رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولم يُنكر عليه أحد. وسنته رضي الله عنه من السنن التي أُمرنا باتباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب، لكنه سنة مؤكدة، فإذا مررت بآية سجدة فاسجد في أي وقت كنت في الصباح، أو في المساء، في الليل، أو في النهار، تكبر عند السجود، وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إن سجدت في الصلاة فلابد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت؛ لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم السجود في الصلاة. قال الله تعالى: {بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون} لما ذكر سبحانه وتعالى أنهم إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون بيّـن سبحانه وتعالى أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، لأن كل من كان إيمانه صادقاً فلا بد أن يمتثل الأمر، وأن يجتنب النهي، لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصاً ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات، أو بعضاً منها، أو يفعل المحرمات فاعلم أن إيمانه ضعيف إذ لو كان إيمانه قوياً ما أضاع الواجبات ولا انتهك المحظورات، ولهذا قال تعالى هنا: {بل الذين كفروا يكذبون} أي في تركهم السجود كان ذلك بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل {والله أعلم بما يوعون} أي أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه أي بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفة الرسل، بل محاربة الرسل وقتالهم، والكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يجمعون لهم ويكيدون لهم فتوعدهم الله تعالى في هذه الاية {والله أعلم بما يوعون} أي بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم قال: {فبشرهم بعذاب أليم} أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله: {فبشرهم} عام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، وأن نبشر كل كافر بعذاب أليم، فنحن نبشر كل كافر بعذاب أليم ينتظره، كما قال تعالى: {وانتظر إنهم منتظرون} [السجدة: 30]. ثم قال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} {إلا} هذه بمعنى لكن ولا تصح أن تكون استثناء متصلاً، لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون، وهذا هو الاستثناء المنقطع، أي إذا كان المستثنى ليس من جنس المستنثى منه فهو استثناء منقطع وتقدر {إلا} بـ(لكن) أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون. الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، هؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب لهم أجر غير ممنون.
فإن قيل: ما هو العمل الصالح؟
فالجواب: أن العمل الصالح ما جمع شيئين:
الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته، وابتغاء ثوابه، وابتغاء النجاة من النار لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا.
الثاني: أن يكون متبعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن يتبع الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك. فما فعله النبي صلى الله عليه وسلّم مع وجود سببه فالسنة فعله إذا وجد سببه. وما وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه.
{لهم أجر} أي ثواب {غير ممنون} أي غير مقطوع، بل هو مستمر أبد الابدين، والايات في تأبيد الجنة كثيرة معلومة في الكتاب والسنة، فأجر الاخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا فيه وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، والجنة الأجر فيها دائم، {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين العاملين بالصالحات، المجتنبين للسيئات، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

صقر قريش 09-01-2009 06:06 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم البروج محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَـهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَـبُ الاُْخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والسماء ذات البروج} الواو هذه حرف قسم يعني يقسم تعالى بالسماء {ذات البروج} أي صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم وسميت بروجاً لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثني عشر برجاً جمعت في قول الناظم:
حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسدٌ سنبلة ميزانفعقربٌ قوسٌ فجدي وكـ ذا دلو وذي آخرها الحيتان فهي اثنا عشر برجاً، ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء، فيقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله بأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، قوله تعالى: {واليوم الموعود} اليوم الموعود هو يوم القيامة، وعد الله تعالى به وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتماً، كما قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنَّا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104]. {وشاهد ومشهود} ذكر علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا، ومنهم هذه الأمة شهداء على الناس، وأعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر، ومن الملائكة يشهدون يوم القيامة فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله {وشاهد} وأما {المشهود} فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} [هود: 103]. فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود. {قتل أصحاب الأخدود} {قتل} يعني أهلك، وقيل: القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، و{أصحاب الأخدود} هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام، ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدوداً حُفراً ممدودة في الأرض كالنهر وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: {النار ذات الوقود} يعني أن الأخدود هي أخدود النار. {ذات الوقود} أي الحطب الكثير المتأجج. {إذ هم عليها قعود} يعني أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا ـ والعياذ بالله ـ عندهم قوة وجبروت يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فكهون كأن شيئاً لم يكن، وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان البشر تلتهمه النار وهو جالس على سريره يتفكه بالحديث ولا يبالي. {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} يعني هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين أي حضور لا يغيب عنهم ما فعلوه بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد، بل استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته. {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} أي ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي: إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل {إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} وهذا الإنكار أحق أن ينكر؛ لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكر عليهم، بل هم يحمدون على ذلك؛ لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة، وهو الله جل وعلا، الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها. وقوله: {إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحد، ولما قال المنافقون: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} قال الله تبارك وتعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]. وقوله: {الحميد} بمعنى المحمود فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال وكان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا جاءه ما يُسر به قاg: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»، وإذا جاءه خلاف ذلك قال: «الحمد لله على كل حال»، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقول عند المكروه «الحمد لله على كل حال» أما ما يقوله بعض الناس (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه) فهذا خلاف ما جاءت به السنة به، قل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله على كل حال» أما أن تقول: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) فكأنك الان تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يصبر الإنسان على ما قدر الله عليه مما يسوؤه أو يُسره، لأن الذي قدره الله عز وجل هو ربك وأنت عبده، هو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الصبر وألا تتسخط لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك، اصبر وتحمل والأمر سيزول ودوام الحال من المحال، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً»، فالله عز وجل محمود على كل حال من السراء أو الضراء؛ لأنه إن قدر السراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. ولما رأى سليمان عرش بلقيس بين يديه قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر} [النمل: 40]. فإذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها نعمة فتمرح وتفرح، هي نعمة لا شك لكن اعلم أنك ممتحن بها هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي، إن أصابتك ضراء فاصبر فإن ذلك أيضاً ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر، وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].
ويجوز أن يكون معنى قوله: {الحميد} أنه هو الحامد، فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمدٌ لهم، فهو جل وعلا حامد، وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة والشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 64]. الله يسألنا، أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ الجواب: بل أنت يا ربنا {لو نشاء لجعلناه حطاماً} بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس يجعله الله حطاماً، ولم يأت التعبير «لو نشاء لم ننبته» لأن كونه ينبت وتتعلق به النفس ثم يكون حطاماً أشد وقعاً على النفس من كونه لا ينبت أصلاً {لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون} ثم ذكر الشرب فقال: {أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} الجواب: بل أنت يا ربنا {لو نشاء لجعلناه أجاجاً} أي مالحاً غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه {فلولا تشكرون} يعني فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يأت التعبير «لو نشاء لم ننزله من المزن»، لأن كونه ينزل ولكن لا يشرب لا يطاق أشد من كونه لم ينزل أصلاً فتأملوا القرآن الكريم تجدون فيه من الأسرار والحكم الشيء الكثير.
{وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والأرض} {الذي له ملك السماوات والأرض} له وحده ملك السماوات والأرض، لا يملكها إلا هو عز وجل، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأراضين ومن فيها، وما بينهما، وما فيها كل شيء ملك لله ولا يشاركه أحد في ملكه، وما يضاف إلينا من الملك فيقال: مثلاً هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان فهو ملك قاصر وليس ملكاً حقيقياً؛ لأنه لو أن إنسان أراد أن يهدم بيته بدون سبب فلا يملك ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن إضاعة المال، لو أراد إنسان أن يحرق سيارته بدون سبب فلا يملك هذا. ولو أنه فعل لحجر القاضي عليه بمنعه من التصرف في ماله، مع أن الله منعه قبل، إذن ملكنا قاصر، والملك التام لله، {والله على كل شيء شهيد} أي: مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار، وسوف يجازيهم، ولكن مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة قال: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} قال بعض السلف: انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا}.
قال العلماء: {فتنوا} بمعنى أحرقوا كما قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} [الذاريات: 13، 14]. فهؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات في النار.
وقيل: فتنوهم أي صدوهم عن دينهم. والصحيح: أن الاية شاملة للمعنيين جميعاً، لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم معانيه أوسع من أفهامنا، وأنه مهما بلغنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علماً، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الاية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعاً، فنقول: هم فتوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضاً. {ثم لم يتوبوا} أي يرجعوا إلى الله {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقاً.
في هذه الايات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلاً نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.
وفي هذه الايات من العبر: أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئاً واحداً وهو: أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي ينكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شر أعدائنا، وأن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير.
وفي الاية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن التوبة لا تكون توبة نصوحاً مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة:
الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه؛ لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبة يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، كل هؤلاء لا تقبل توبتهم، لأن التوبة يجب أن تكون خالصة، وأما من أراد بعمله الدنيا فإن الله تعالى يقول في كتابه: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الاخرة إلا النار}. [هود: 15، 16].
الثاني: من شروط كون التوبة نصوحاً: الندم على ما حصل من الذنب بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب، لا يتحسر ولا يحزن، لابد أن يندم، إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني، فيندم.
الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب، لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لايزال يرابي فلا تصح توبته، لو قال: أستغفر الله من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس فلا تصح توبته، كيف تصح وهو مصر على المعصية، فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق من هذا، وأخذ مال هذا بخداع وغش فلا تصح توبته، حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى الناس، لو فرضنا أن شخصاً أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه وقال إني تائب، فنقول له: رد المراسيم إلى حدودها الأولى وإلا فإن توبتك لا تقبل، لأنه لابد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه.
الشرط الرابع: أن يعزم عزماً تاماً ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو في نفسه لو حصل له فرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، بل لابد أن يعزم عزماً أكيداً على ألا يعود.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، لأنه يأتي أوقات لا تقبل فيها التوبة، وذلك في حالين:
الحال الأولى: إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل لقول الله تبارك وتعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان} [النساء: 18]. بعدما عاين الموت وشاهد العذاب يقول تبت فلا ينفع هذا، ومثال واقع لهذه المسألة أن فرعون لما أدركه الغرق {قال آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل} يعني بالله ولم يقل آمنت بالله إذلالاً لنفسه حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والان يقول آمنت بالذي آمنوا به فكأنه جعل نفسه تابعاً لبني إسرائيل إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له {آلان} تتوب، آلان تؤمن بالذي آمنت به بنوا إسرائيل {وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91]. إذاً إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، فلابد من المبادرة بالتوبة لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، ألم تعلم أن من الناس من نام على فراشه في صحة وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير تغسيله؟! ألم تعلم أن بعض الناس جلس على كرسي العمل يعمل ثم حمل من كرسي العمل إلى سرير الغسل؟! كل هذا واقع، لذا يجب أن تبادر بالتوبة قبل أن تغلق الأبواب.
الحال الثانية: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا لكن الله يقول: {لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158].
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}.
ثم قال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير} لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي الطريقة المتبعة فيما يراد به الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويعرف نعمة الله عليه في الإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين. {إن الذين آمنوا} هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره»، وأما قوله: {وعملوا الصالحات} فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره فعمله مردود عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».
وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وبناء على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس فيمدحوه وهو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضاً، كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله فهذا أيضاً مراءٍ، عمله مردودٌ عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبد للناس فهذا مشرك شرك أكبر يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيماً له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج عن الملة، وكذلك أيضاً من ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو رتب أذكاراً معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر الله لو كان تسبيحاً، أو تحميداً، أو تكبيراً، أو تهليلاً ولكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عز وجل؛ لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي أن تقول ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل فأين الإيمان بالله؟ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرج عن الملة وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، يغني عن إعادتها هنا. {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} {لهم} يعني عند الله {جنات تجري من تحتها الأنهار} وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وقال الله في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات: نخل، ورمان، وفاكهة، ولحم طير، وعسل، ولبن، وماء، وخمر، لكن حقائق هذه الأشياء ليست كحقائق ما في الدنيا أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما تتصوره، فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن ليس الرمان الذي في الاخرة كهذه فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط)، أما الحقائق فهي غير معلومة. وقوله: {تجري من تحتها الأنهار} قال العلماء: {من تحتها} أي من تحت أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
الأنهار في المعروف عندنا تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار في هذه الاية وفي آيات كثيرة مجملة لكنه فصلت في سورة القتال ـ سورة محمد ـ قال: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {ذلك الفوز الكبير} {ذلك} المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم {الفوز الكبير} يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب.
ثم قال تعالى: {إن بطش ربك لشديد} {بطش} يعني أخذه بالعقاب شديد كما قال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} [المائدة: 98]. فبطش الله يعني انتقامه وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب، ما أكثر ما يستر من العيوب، ما أكثر ما يدفع من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، وتلى قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}، وعلى هذا فنقول: {بطش ربك} أي فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه {إنه هو يبدىء ويعيد} يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال {يبدأ} ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه {يبدأ} كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أيها العبد من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل {وهو الغفور الودود} {الغفور} يعني ذا المغفرة، والمغفرة ستر الذنب والعفو عنه فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه حتى يقربها ويعترف فيقول الله عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، ويُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وجده مكتوباً على باب بيته فضيحة وعاراً، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فعلينا أن نتوب إلى الله ونستغفره من الذنب فتمحى آثاره، ولهذا قال: {وهو الغفور} أي الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها. {الودود} مأخوذة من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، فهو يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54]. فهو جل وعلا واد يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة وهو كذلك أيضاً محبوب يحبه أولياؤه {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا واد وهو أيضاً مودود، أي أنه يِحب ويَحب، يِحب سبحانه وتعالى الأعمال ويحب العاملين، ويحب الأشخاص يعني أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فبات الناس ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب»؟ قالوا: يشتكي عينيه فدعا به فأتى فبصق في عينه فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، ثم أعطاه الراية وقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام». الشاهد قوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه علي بن أبي طالب، ولما بعث على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة ويختم القراءة بـ{قل هو الله أحد} فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أخبروه بذلك، لأن عمله هذا وهو أنه يختم القراءة بـ {قل هو الله أحد} غير معروف، فقال: «سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك»؟ فسألوه فقال: إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أخبروه إن الله يحبه»، فهنا المحبة علقت بشخص معين يحبه الله، وقد تكون محبة الله بمعينين بأوصافهم مثل: {إن الله يحب المتقين} {إن الله يحب المحسنين} {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4]. هذا ليست في شخص معين لكن في شخص موصوف بصفة، كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن «أحب البقاع إلى الله مساجدها»، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مكة أحب البقاع إلى الله هذه المحبة متعلقة بالأماكن فالله تعالى يِحب ويَحب ولهذا قال: {وهو الغفور الودود}. ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله: {ذو العرش المجيد. فعال لما يريد} {ذو العرش} أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة في الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة»، إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الان التباين العظيم في أحجامها. ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما غـاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]. فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن ـ جل وعلا ـ كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. وقوله: {المجيد} فيها قراءتان (المجيدِ) و(المجيدُ) فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد. {فعال لما يريد} كل ما يريده فإنه يفعله عز وجل؛ لأنه تام السلطان لا أحد يمانعه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه {وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} [الرعد: 11]. فكل ما يريده فإنه يفعله، لكن ملوك الدنيا وإن عظمت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع، أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم الذي لا يرد ما أراده شيء {فعال لما يريد} وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون فإنه بإرادة الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي خلقه فيكون واقعاً بإرادته، ولكن الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله فإنه لحكمة عظيمة قد نعلمها وقد لا نعلمها. {هل أتاك حديث الجنود. فرعون وثمود. بل الذين كفروا في تكذيب. والله من ورائهم محيط} {الذين كفروا} يشمل كل من كفر بالله ورسوله سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو النصارى أو غيرهم؛ وذلك لأن اليهود والنصارى الان وبعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم ليسوا على دين ولا تنفعهم أديانهم لأنه ـ أي النبي صلى الله عليه وسلّم ـ خاتم الأنبياء فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه، بل إن من لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، فمثلاً من لم يؤمن بنوح أنه رسول ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لغيره من الرسل، فإذا ادعت اليهود أنهم على دين وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى نقول لهم: أنتم كافرون بموسى كافرون بالتوراة، وإذا ادعت النصارى الذين يسمون أنفسهم اليوم (بالمسيحيين) أنهم مؤمنون بعيسى قلنا لهم: كذبتم أنتم كافرون بعيسى؛ لأنكم كافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام، والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمد عليه الصلاة والسلام مع أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن العناد والكبرياء والحسد منعهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109]. فالحاصل أن قوله تعالى: {بل الذين كفروا} يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يعني أمة الدعوة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار»، كل الكفار في تكذيب وقال {في تكذيب} فجعل التكذيب كالظرف لهم يعني أنه محيط بهم من كل جانب {والله من ورائهم محيط} يعني أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب لا يشذون عنه لا عن علمه ولا سلطانه ولا عقابه، ولكنه عز وجل قد يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ} {بل هو} أي ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام {قرآن مجيد} أي ذو عظمة ومجد، ووصف القرآن بأنه مجيد لا يعني أن المجد وصف للقرآن نفسه فقط، بل هو وصف للقرآن، ولمن تحمل هذا القرآن فحمله وقام بواجبه من تلاوته حق تلاوته، فإنه سيكون لهم المجد والعزة والرفعة. وقوله تعالى: {في لوح محفوظ} يعني بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب كما قال الله تبارك وتعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39]. وهذا اللوح كتب الله به مقادير كل شيء، ومن جملة ما كتب به أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلّم فهو في لوح محفوظ، قال العلماء {محفوظ} لا يناله أحد، محفوظ عن التغيير والتبديل، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى؛ لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع:
النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ وهذه الكتابة لا تبدل ولا تغير، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يبدل أو يغير ما فيه.
الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم، لأن الإنسان في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر، بعث الله إليه ملكاً موكلاً بالأرحام، فينفخ فيه الروح بإذن الله، لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم إذا نفخت فيه الروح صار إنسانًا، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
النوع الثالث: كتابة حولية كل سنة، وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4]. فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة.
النوع الرابع: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة، وهذه الكتابة تكون بعد العمل، والكتابات الثلاث السابقة كلها قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يكتب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم أي بحفظ أعمالهم يكتبون قال الله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين. وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 9 ـ 12]. فإذا كان يوم القيامة فإنه يعطى هذا الكتاب كما قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 13، 14]. يعني تعطى الكتاب ويقال لك أنت: اقرأ وحاسب نفسك، قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك، وهذا صحيح أي إنصاف أبلغ من أن يقال للشخص تفضل هذا ما عملت حاسب نفسك، أليس هذا هو الإنصاف؟! بل أكبر إنصاف هو هذا، فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحًا أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا، كذا وكذا، فهو شيء مضبوط لا يتغير، وإذا أنكرت فهناك من يشهد عليك {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} يقول اللسان: نطقت بكذا {وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} تقول اليد: بطشت، تقول الرجل: مشيت، بل يقول الجلد أيضاً، الجلود تشهد بما لمست {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} [فصلت: 21]. فالأمر ليس بالأمر الهين ـ نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم بعفوه ومغفرته ـ وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج وأنهاها بقوله: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة، ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، ونوجه الدعوة على وجه أوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وأن لا يغرهم البهرج المزخرف الذي يرد من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوها موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر ولا أظن أحداً يتصور أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر، وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدول الكافرة، لكن سبب ذلك لا شك معلوم هو أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو: التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة فاسدة مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور، فنحن نناشد ولاة أمور المسلمين جميعاً، أناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقيًّا إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء؛ وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه، أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تذعن لهم الشعوب، وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا مالك الملك وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم هذا بعيد جدًّا، بل كلما بَعُد القلب عن الله بعد الناس عن صاحبه، وكلما قَرُب من الله قرب الناس منه، فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-01-2009 06:06 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الطارق محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَـنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}.
البسملة سبق الكلام عليها.
{والسماء والطارق} ابتدأالله عز وجل هذه السورة بالقسم، أقسم الله تعالى بالسماء والطارق وقد يشكل على بعض الناس كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات مع أن القسم بالمخلوقات شرك لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت». فلا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالكعبة، ولا بالوطن، ولا بأي شيء من المخلوقات؟
والجواب على هذا الإشكال أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، وإقسامه بما يقسم به من خلقه يدل على عظمة الله عز وجل، لأن عِظم المخلوق يدل على عِظم الخالق، وقد أقسم الله تعالى بأشياء كثيرة من خلقه، ومن أحسن ما رأيته تكلم على هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) وهو كتاب جيد ينفع طالب العلم كثيراً، فهنا يقسم الله تعالى بالسماء، والسماء هو كل ما علاك، فكل ما علاك فهو سماء، حتى السحاب الذي ينزل منه المطر يسمى سماءً، كما قال الله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} [الرعد: 17]. وإذا كان يطلق على كل ما علاك فإنه يشمل ما بين السماء والأرض ويشمل السماوات كلها لأنها كلها قد علتك وهي فوقك. وأما قوله: {والطارق} فهو قسم ثان، أي أن الله أقسم بالطارق فما هو الطارق؟ ليس الطارق هو الذي يطرق أهله ليلاً بل فسره الله عز وجل بقوله: {النجم الثاقب} هذا هو الطارق، والنجم هنا يحتمل أن يكون المراد به جميع النجوم فتكون (ال) للجنس، ويحتمل أنه النجم الثاقب، أي: النجم اللامع، قوي اللمعان، لأنه يثقب الظلام بنوره، وأيًّا كان فإن هذه النجوم من آيات الله عز وجل الدالة على كمال قدرته، في سيرها وانتظامها، واختلاف أشكالها واختلاف منافعها أيضاً، قال الله تبارك وتعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16]. وقال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} [الملك: 5]. فهي زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. ثم بين الله المقسم عليه بقوله: {إن كل نفس لما عليها حافظ} {إن} هنا نافية يعني ما كل نفس، و{لما} بمعنى (إلا) يعني ما كل نفس إلا عليها حافظ من الله، وبين الله سبحانه وتعالى مهمة هذا الحافظ بقوله: {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 ـ 12]. هؤلاء الحفظة يحفظون على الإنسان عمله، ما له وما عليه، ويجده يوم القيامة كتاباً منشوراً يقول له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. هؤلاء الحفظة يكتبون ما يقوم به الإنسان من قول، وما يقوم به من فعل، سواء كان ظاهراً كأقوال اللسان، وأعمال الجوارح، أو باطناً حتى ما في القلب مما يعتقده الإنسان فإنه يكتب عليه لقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمن وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق 16 ـ 18]. هذا الحافظ يحفظ عمل بني آدم، وهناك حفظة آخرون ذكرهم الله في قوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]. {فلينظر الإنسان مما خلق} (اللام) هنا للأمر، والمراد بالنظر هنا نظر الاعتبار وهو النظر بالبصيرة، يعني ليفكر الإنسان مما خلق؟ هل خلق من حديد؟ هل خلق من فولاذ؟ هل خلق من شيء قاسٍ قوي؟ والجواب على هذه التساؤلات: أنه {خلق من ماء دافق} وهو ماء الرجل، ووصفه الله تعالى في آيات أخرى بأنه ماء مهين ضعيف السيلان ليس كالماء العادي المنطلق، ووصفه الله تعالى في آية أخرى أنه نطفة أي قليل من الماء، هذا الذي خلق منه الإنسان، والعجب أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين، ثم يكون قلبه أقسى من الحجارة ـ والعياذ بالله ـ إلا من ألان الله قلبه لدين الله، ثم بين أن هذا الماء الدافق {يخرج من بين الصلب والترائب} من بين صلب الرجل وترائبه أعلى صدره، وهذا يدل على عمق مخرج هذا الماء، وأنه يخرج من مكان مكين في الجسد، وقال بعض العلماء: {يخرج من بين الصلب} أي صلب الرجل {والترائب} ترائب المرأة. ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ، والصواب أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو ماء الرجل، لأن الله تعالى وصفه بذلك. ثم قال تعالى: {إنه على رجعه لقادر} {إنه} أي الله عز وجل. {على رجعه} أي على رجع الإنسان {لقادر} وذلك يوم القيامة لقوله {يوم تبلى السرائر} فالذي قدر على أن يخلق الإنسان من هذا الماء الدافق المهين، قادر على أن يعيده يوم القيامة، وهذا من باب الاستدلال بالمحسوس على المنظور المترقب، وهو قياس عقلي، فإن الإنسان بعقله يقول إذا كان الله قادراً على أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين ويحييه قادر على أن يعيده مرة ثانية {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]. ولهذا يستدل الله عز وجل بالمبدأ على المعاد لأنه قياس جلي واضح، ينتقل العقل من هذا إلى هذا بسرعة وبدون كلفة، وقوله: {يوم تبلى السرائر} أي تختبر السرائر، وهي القلوب، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح، ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنافقين معاملة المسلمين حيث كان يُستأذن في قتلهم فيقول: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، فكان لا يقتلهم وهو يعلم أن فلانًا منافق، وفلانًا منافق، لكن العمل في الدنيا على الظاهر ويوم القيامة على الباطن {يوم تبلى السرائر} أي تختبر وهذا كقوله: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10]. ولهذا يجب علينا العناية بعمل القلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، عمل الجوارح علامة ظاهرة، لكن عمل القلب هو الذي عليه المدار، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج يخاطب الصحابة يقول: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم ـ يعني أنهم يجتهدون في الأعمال الظاهرة لكن قلوبهم خالية والعياذ بالله ـ لا يتجاوز الإسلام حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»، قال الحسن البصري رحمه الله: (والله ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صوم، وإنما سبقهم بما وقر في قلبه من الإيمان) والإيمان إذا وقر في القلب حمل الإنسان على العمل، لكن العمل الظاهر قد لا يحمل الإنسان على إصلاح قلبه، فعلينا أن نعتني بقلوبنا وأعمالها، وعقائدها، واتجاهاتها، وإصلاحها وتخليصها من شوائب الشرك والبدع، والحقد والبغضاء، وكراهة ما أنزل الله على رسوله وكراهة الصحابة رضي الله عنهم، وغير ذلك مما يجب تنزيه القلب عنه.
ثم قال تعالى: {فما له من قوة} يعني يوم القيامة ما للإنسان من قوة ذاتية {ولا ناصر} وهي القوة الخارجية، هو بنفسه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يدافع عنه، قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. في الدنيا يتساءلون، يسأل بعضهم بعضاً، ويحتمي بعضهم ببعض، لكن يوم القيامة لا أنساب يعني لا قرابة، لا تنفع القرابة ولا يتساءلون.
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالاََرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَـفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}.
بعد أن ذكر الله تعالى الإقسام {والسماء والطارق} إلى آخره... إلى قوله {يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} قال تعالى: {والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع} هذا هو القسم الثاني للسماء، والقسم الأول ما كان في أول السورة، فهناك قال: {والسماء والطارق. وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب} هنا قال: {والسماء ذات الرجع. والأرض ذات الصدع. إنه لقول فصل} والمناسبة بين القسمين ـ والله أعلم ـ أن الأول فيه إشارة إلى الطارق الذي هو النجم، والنجم تُرمى به الشياطين الذين يسترقون السمع، وفي رمي الشياطين بذلك حفظ لكتاب الله عز وجل، أما هنا فأقسم بالسماء ذات الرجع أن هذا القرآن قول فصل، فأقسم على أن القرآن قول فصل، فصار القسم الأول مناسبته أن فيه الإشارة إلى ما يحفظ به هذا القرآن حال إنزاله، وفي القسم الثاني الإشارة إلى أن القرآن حياة، يعني يقال: {والسماء ذات الرجع} الرجع هو المطر، يسمى رجعاً لأنه يرجع ويتكرر، ومعلوم أن المطر به حياة الأرض. {والأرض ذات الصدع} الصدع هو الانشقاق يعني الشتقق بخروج النبات منه، فأقسم بالمطر الذي هو سبب خروج النبات، وبالتشقق الذي يخرج منه النبات، وكله إشارة إلى حياة الأرض بعد موتها، والقرآن به حياة القلوب بعد موتها، كما قال الله تبارك وتعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52]. فسمى الله القرآن روحاً لأنه تحيى به القلوب.
يقول عز وجل: {والسماء ذات الرجع} أي ذات المطر. {والأرض ذات الصدع} أي ذات الانشقاق لخروج النبات منها. {إنه} أي القرآن {لقول فصل} وصفه الله تعالى بأنه قول فصل، وهو قول الله عز وجل، فهو الذي تكلم به وألقاه إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أضاف الله القرآن قولاً إلى جبريل، وإلى محمد عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالى في الأول: {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثمَّ أمين} [التكوير: 19 ـ 21]. وقال في الثاني إضافته إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} [الحاقة: 40، 41]. ففي الأول أضاف القول إلى جبريل عليه الصلاة والسلام، لأنه بلغه عن الله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي الثاني أضافه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم لأنه بلغه إلى الناس، وإلا فإن الذي قاله ابتداءً هو الله سبحانه وتعالى. {إنه لقول فصل} فصل يفصل بين الحق والباطل، وبين المتقين والظالمين، بل إنه فصل أي قاطع لكل من ناوأه وعاداه، ولهذا نجد المسلمين لما كانوا يجاهدون الكفار بالقرآن نجدهم غلبوا الكفار، وقطعوا دابرهم، وقضي بينهم، فلما أعرضوا عن القرآن هُزموا وأذلوا بقدر بُعدهم عن القرآن، وكلما أبعد الإنسان عن كتاب الله ابتعدت عنه العزة، وابتعد عنه النصر حتى يرجع إلى كتاب الله عز وجل. {وما هو بالهزل} أي ما هو باللعب والعبث واللغو، بل هو حق، كلماته كلها حق، أخباره صدق، وأحكامه عدل، وتلاوته أجر، لو تلاه الإنسان كل أوانه لم يمل منه، وإذا تلاه بتدبر وتفكر فتح الله عليه من المعاني ما لم يكن عنده من قبل، وهذا شيء مشاهد، اقرأ القرآن وتدبره، كلما قرأته وتدبرته حصل لك من معانيه ما لم يكن يحصل لك من قبل، كل هذا لأنه فصل وليس بالهزل، لكن الكلام اللغو من كلام الناس كلما كررته مججته وكرهته ومللته أما كتاب الله فلا. ثم قال تعالى: {إنهم يكيدون كيداً} {إنهم} يعني الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم {يكيدون كيداً} أي كيداً عظيماً، يكيدون للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكيدون لمن اتبعه، وانظر ماذا كانوا يفعلون بالمؤمنين أيام كانوا في مكة من التعذيب والتوبيخ والتشريد، هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة كل ذلك فراراً بدينهم من هؤلاء المجرمين، الذين آذوهم بكل كيد، وأعظم ما فعلوه بالنبي عليه الصلاة والسلام حين الهجرة حيث اجتمع رؤساؤهم وأشرافهم يتشاورون ماذا يفعلون بمحمد؟ فكلما ذكروا رأياً نقضوه، قالوا هذا لا يصلح، حتى أشار إليهم فيما ذكره أهل التاريخ الشيطان الذي جاء بصورة رجل وقال لهم: إني أرى أن تختاروا عشرة شبان من قبائل متفرقة، وتعطوا كل واحد منهم سيفاً حتى يقتلوا محمداً قتلة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل، فلم تستطع بنو هاشم أن تقتص من القبائل كلها فيرضخون إلى أخذ الدية. وهذا هو الذي يريدون، فأجمعوا على هذا الرأي واستحسنوا هذا الرأي، وفعلاً جلس الشبان العشرة ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليقتلوه، ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج من الباب وهم جلوس ولم يشاهدوه، وذكر التاريخ أنه جعل يذر التراب على رؤوسهم إذلالاً لهم، ويقرأ قول الله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 9]. ولا تتعجب كيف خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بينهم ولم يشاهدوه، لا تعجب من هذا، فها هم قريش حين اختبأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغار لما خرج من مكة يريد المدينة اختبأ في الغار ثلاثة أيام ليخف عنه الطلب؛ لأن قريش صارت تطلبه، وجعلت لمن جاء به مئة بعير، ولمن جاء به مع أبي بكر مئتي بعير، وهذه جائزة كبيرة، فوقفوا على الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر، وكلنا يعلم أن الغار المفتوح إذا كان فيه أحد فسوف يُرى، ولكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا أبا بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا. فقال: «لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما». فاطمأن أبو بكر. هؤلاء القوم الذين وقفوا على الغار ليس عندهم قصور في السمع، ولا قصور في البصر، ولا قصور في الذكاء، ولكن أعمى الله أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه، فلا تعجبوا أن خرج من بين هؤلاء الشبان العشرة كما قال أهل التاريخ، وجعل يذر التراب على رؤوسهم ويقول: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}. وقال الله تعالى في سورة الأنفال: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} يعني يحبسوك {أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30]. {إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً} ثم قال عز وجل: {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} مهل وأمهل معناهما واحد يعني انتظر بمهلة ولا تنتظر بمهلة طويلة، {رويداً} أي قليلاً، ورويداً تصغير رود أو إرواد، والمراد به الشيء القليل. وفي هذه الاية تهديد لقريش، وتسلية للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووعد له بالنصر. وحصل الأمر كما أخبر الله عز وجل، خرج النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً منهم، وحصل بينه وبينهم حروب، وفي السنة الثانية من الهجرة قُتل من صناديد قريش وكبرائهم وزعمائهم نحو أربعة وعشرين رجلاً، منهم قائدهم أبو جهل، وبعد ثماني سنوات بل أقل من ثماني سنوات دخل النبي صلى الله عليه وسلّم مكة فاتحاً منصوراً ظافراً، حتى إنه قال كما جاء في التاريخ وهو ممسك بعضادتي باب الكعبة وقريش تحته قال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم»؟ لأن أمرهم أصبح بيده عليه الصلاة والسلام، «ما ترون أني فاعل بكم»؟ قالوا: أخٌ كريم، وابن أخ كريم. فقال: «إني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف: 92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وإنما منّ عليهم هذه المنة عليه الصلاة والسلام لأنهم أسلموا، وقد قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، وأن ينفعنا به، وأن يجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله

صقر قريش 09-01-2009 06:07 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الأعلى محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاََعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الاَْشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}.
البسملة سبق الكلام عليها، وإنها آية من كتاب الله مستقلة ليست من الفاتحة ولا من البقرة، ولا من آل عمران، ولا من أي سورة من القرآن، لكنها آية مستقلة تنزل في ابتداء كل سورة سوى سورة (براءة).
{سبح اسم ربك الأعلى} الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به.
القسم الثاني: أن يقوم الدليل على أنه عام فيعم.
القسم الثالث: أن لا يدل دليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظاً، عامًّا له وللأمة حكماً.
مثال الأول: قوله تبارك وتعالى: {ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 1، 2]. ومثاله أيضاً قوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} [النساء: 79]. فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومثال الثاني الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه قرينة تدل على العموم: قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. فوجه الخطاب أولاً للرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يا أيها النبي} ولم يقل «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم» قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم}، ولم يقل: (يا أيها النبي إذا طلقت) قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم} فدل هذا على أن الخطاب الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام موجه له وللأمة.
وأما أمثلة الثالث: فهي كثيرة جداً يوجه الله الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، والمراد الخطاب له لفظاً وللعموم حكماً.
هنا يقول الله عز وجل: {سبح اسم ربك الأعلى} {سبح} يعني نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني التنزيه، إذا قلت: سبحان الله، يعني أنني أنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى (السلام، القدوس) لأنه منزه عن كل عيب. وأضرب أمثلة: من صفات الله تعالى: الحياة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، وحياة المخلوق فيها نقص، أولاً: لأنها مسبوقة بالعدم فالإنسان ليس أزلياً. وثانياً: أنها ملحوقة بالفناء {كل من عليها فان} [الرحمن: 26].
مثال آخر: سمع الله عز وجل ليس فيه نقص يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تُحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1]. ولهذا قالت عائشة: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)، إن المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها. إذن معنى {سبح} نزه الله عن كل عيب ونقص. وقوله: {اسم ربك الأعلى} قال بعض المفسرين: إن قوله {اسم ربك} يعني مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناها: سبح ربك ذاكراً اسمه، يعني لا تسبحه بالقلب فقط بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 96]. يعني سبح تسبيحاً مقروناً باسم، وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب، بالعقيدة، وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعاً، والمقصود أن يسبح بهما جميعاً بقلبه لافظاً بلسانه. وقوله {ربك} الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، والمشركون يقرون بذلك {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]. وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا {أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [يونس: 31]. فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره، وهذا من الجهل، كيف تقر بأن الله وحده هو الخالق، المالك، المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره!! إذن معنى الرب هو الخالق، المالك، المدبر لجميع الأمور، وكل إنسان يقر بذلك يلزمه أن لا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الايات الكثيرة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21]. قال: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} يعني لا تعبدون غيره. {الأعلى} من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات، أما علو الصفة: فإن أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60].
وأما علو الذات: فهو أن الله تعالى فوق عباده مستو على عرشه، والإنسان إذا قال: يا الله أين يتجه؟ يتجه إلى السماء إلى فوق، فالله جل وعلا فوق كل شيء مستو على عرشه. إذن {الأعلى} إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أن الله عال بصفاته، وعال بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: سبحان ربي الأعلى، يتذكر بسفوله هو، لأنه هو الان نزل، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان هو وجهه ومع ذلك يجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن تقول: سبحان ربي الأعلى، يعني أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء، لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته، والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات. ثم قال: {الذي خلق فسوى} {خلق} يعني أوجد من العدم، كل المخلوقات أوجدها الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} [الحج: 23]. وهو مثل عظيم، كل الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً، ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الالهة التي تعبد من دون الله وجميع السلاطين وجميع الرؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذباباً واحداً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونحن في هذا العصر وقد تقدمت الصناعة هذا التقدم الهائل لو اجتمع كل هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذباباً ما استطاعوا، حتى لو أنهم كما يقولون: صنعوا آدمياً آلياً ما يستطيعون أن يخلقوا ذبابة، هذا الادمي الالي ما هو إلا الالات تتحرك فقط، لكن لا تجوع، ولا تعطش، ولا تحتر، ولا تبرد، ولا تتحرك إلا بتحريك، الذباب لا يمكن أن يخلقه كل من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق وبماذا يخلق؟ بكلمة واحدة {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]. {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]. كلمة واحدة، الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض، وتأكلها السباع، وتحرقها النيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة أخرجي فتخرج. {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13]. {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. كل العالم من إنس وجن، ووحوش وحشرات وغيرها كلها يوم القيامة تحشر بكلمة واحدة. إذن فالله عز وجل وحده هو الخالق ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه ويكون بكلمة واحدة. وقوله {فسوى} يعني سوى ما خلقه على أحسن صورة، وعلى الصورة المتناسبة، الإنسان مثلاً قال الله تعالى في سورة الانفطار: {الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك} [الانفطار: 7، 8]. {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]. لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامة، ولهذا أول من يدخل في قوله: {فسوى} هو تسوية الإنسان {الذي خلق فسوى} كل شيء يسوى على الوجه الذي يكون لائقاً به. {والذي قدر فهدى} قدر كل شيء عز وجل كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2]. قدره في حاله، وفي مآله، وفي ذاته، وفي صفاته، كل شيء له قدر محدود، فالاجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، وكل شيء مقدر تقديراً كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً}. وقوله: {فهدى} يشمل الهداية الشرعية، والهداية الكونية، الهداية الكونية: أن الله هدى كل شيء لما خلق له، قال فرعون لموسى: {فمن ربكما يا موسى. قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 49، 50]. تجد كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، فالطفل إذا خرج من بطن أمه وأراد أن يرضع يهديه الله عز وجل إلى هذا الثدي يرتضع منه، وانظر إلى أدنى الحشرات النمل مثلاً لا تصنع بيوتها إلا في مكان مرتفع على ربوة من الأرض تخشى من السيول تدخل بيوتها فتفسدها، وإذا جاء المطر وكان في جحورها، أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشمس تنشره لئلا يعفن، وهي قبل أن تدخره تأكل أطراف الحبة لئلا تنبت فتفسد عليهم، هذا الشيء مشاهد مجرب من الذي هداها لذلك؟ إنه الله عز وجل، وهذه هداية كونية أي: أنه هدى كل مخلوق لما يحتاج إليه.
أما الهداية الشرعية ـ وهي الأهم بالنسبة لبني آدم ـ فهي أيضاً بينها الله عز وجل حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّـن لهم، قال الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. والهداية الشرعية هي المقصود من حياة بني آدم {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وإنما أخبرنا الله بذلك لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنه هو الخالق بعد العدم وأصابنا المرض نلجأ إلى الله لأن الذي خلقك وأوجدك من العدم قادر على أن يصحح بدنك، إذاً الجأ إلى ربك، اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدواء، لكن مع اعتقاد أن هذا الدواء سبب من الأسباب جعله الله عز وجل، وإذا شفيت بهذا السبب فالذي شفاك هو الله عز وجل، هو الذي جعل هذا الدواء سبباً لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدواء سبباً لهلاكك، فإذا علمنا أن الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلها إلى الله عز وجل، إذا علمنا أنه هو الهادي فإننا نستهدي بهدايته، بشريعته حتى نصل إلى ما أعد لنا ربنا عز وجل من الكرامة. {سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى} هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يقرئه القرآن ولا ينساه الرسول، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعجل إذا جاء جبريل يُلقي عليه الوحي فقال الله له: {لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 16 ـ 19]. فصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرأه، وهنا يقول: {سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله} يعني إلا ما شاء أن تنساه فإن الأمر بيده عز وجل {يمحو الله ما يشاء ويثبت} [الرعد: 39]. {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} [البقرة: 106، 107]. وربما نُسّي النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية من كتاب الله ولكنه سرعان ما يذكرها عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {إنه يعلم الجهر} أي أن الله تعالى يعلم الجهر، والجهر: ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعاً. {وما يخفى} أي ما يكون خفيًّا لا يُظهر فإن الله يعلمه كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} [ق: 16]. فهو يعلم عز وجل الجهر ويعلم أيضاً ما يخفى. {ونيسرك لليسرى} وهذا أيضاً وعد من الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام أن ييسره لليسرى، واليسرى أن تكون أموره ميسرة، ولاسيما في طاعة الله عز وجل، ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما من أحد من الناس إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، كل بني آدم مكتوب مقعده من الجنة إن كان من أهل الجنة، ومقعده من النار إن كان من أهل النار، قالوا: (يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل ـ يعني على ما كتب ـ قال: «لا. اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له» فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسرة لليسرى} وهذا الحديث يقطع حُجة من يحتج بالقدر على معاصي الله فيعصي الله ويقول: هذا مكتوب علي. وهذا ليس بحجة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له» هل أحد يحجزك عن العمل الصالح لو أردته؟ أبداً. هل أحد يجبرك على المعصية لو لم تردها؟ أبداً لا أحد، ولهذا لو أن أحداً أجبرك على المعصية وأكرهك عليها لم يكن عليك إثم، ولا يترتب على فعلك لها ما يترتب على فعل المختار لها، حتى إن الكفر وهو أعظم الذنوب، قال الله تعالى فيه: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106]. إذن نقول اعمل أيها الإنسان، اعمل الخير وتجنب الشر، حتى ييسرك الله لليسرى ويجنبك العسرى، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعده الله بأن ييسره لليسرى فيسهل عليه الأمور، ولهذا لم يقع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شدة وضنك إلا وجد له مخرجاً عليه الصلاة والسلام. ثم أمره تعالى أن يذكر فقال: {فذكر إن نفعت الذكرى} يعني ذكر الناس، ذكرهم بآيات الله، ذكرهم بأيام الله، عظهم، {إن نفعت الذكرى} يعني في محل تنفع فيه الذكرى، وعلى هذا فتكون {إن} شرطية والمعنى إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، لأنه لا فائدة من تذكير قوم نعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الاية.
وقال بعض العلماء: المعنى ذكر على كل حال، إن كان هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يُذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى ذكر إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير، فالمعنى على هذا القول: ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع. تنفع المؤمنين، وتنفع الُمذكِّر أيضاً، فالمذكر منتفع على كل حال، والمذكر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكر شيئاً، فذكر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع.
وقال بعض العلماء: إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر.
ولكن على كل حال نقول: لابد من التذكير حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرت عنه إما واجب، وإما حرام، وإذا سكتَّ والناس يفعلون المحرم، قال الناس: لو كان هذا محرماً لذكَّر به العلماء، أو لو كان هذا واجباً لذكَّر به العلماء، فلابد من التذكير ولابد من نشر الشريعة سواء نفعت أم لم تنفع. ثم ذكر الله عز وجل من سيذكر ومن لا يتذكر فقال: {سيذكر من يخشى. ويتجنبها الأشقى} فبين تعالى أن الناس ينقسمون بعد الذكرى إلى قسمين:
القسم الأول: من يخشى الله عز وجل، أي يخافه خوفاً عن علم بعظمة الخالق جل وعلا، فهذا إذا ذكر بآيات ربه تذكر كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًّا وعمياناً} [الفرقان: 73]. فمن يخشى الله ويخاف الله إذا ذكر ووعظ بآيات الله اتعظ وانتفع.
أما القسم الثاني: فقال: {ويتجنبها الأشقى} أي يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها الأشقى و{الأشقى} هنا اسم تفضيل من الشقاء وهو ضد السعادة كما في سورة هود: {فأما الذين شقوا ففي النار} [هود: 106]. {وأما الذين سعدوا ففي الجنة} [هود: 108]. فالأشقى المتصف بالشقاوة يتجنب الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هو البالغ في الشقاوة غايتها وهذا هو الكافر، فإن الكافر يذكر ولا ينتفع بالذكرى، ولهذا قال: {الذي يصلى النار الكبرى. ثم لا يموت فيها ولا يحيى} الذي يصلى النار الموصوفة بأنها {الكبرى} وهي نار جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الاخرة»، أي أن نار الاخرة فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، والمراد بنار الدنيا كلها أشد ما يكون من نار الدنيا فإن نار الاخرة فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً ولهذا وصفها بقوله: {النار الكبرى} ثم إذا صلاها {لا يموت فيها ولا يحيى} المعنى لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة سعيدة، وإلا فهم أحياء في الواقع لكن أحياء يعذبون {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56]. كما قال الله عز وجل {ونادوا يا مالك} وهو خازن النار {ليقض علينا ربك} يعني ليهلكنا ويريحنا من هذا العذاب {قال إنكم ماكثون} ولا راحة ويقال لهم: {لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} [الزخرف: 78]. هذا معنى قوله: {لا يموت فيها ولا يحيى} لأنه قد يشكل على بعض الناس كيف يكون الإنسان لا حي ولا ميت؟ والإنسان إما حي وإما ميت؟
فيقال: لا يموت فيها ميتة يستريح بها، ولا يحيى حياة يسعد بها، فهو في عذاب وجحيم، وشدة يتمنى الموت ولكن لا يحصل له، هذا هو معنى قوله تعالى: {ثم لا يموت فيها ولا يحيى}.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا * وَالاَْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَـذَا لَفِى الصُّحُفِ الاُْولَى * صُحُفِ إِبْرَهِيمَ وَمُوسَى}.
{قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى} {أفلح} مأخوذ من الفلاح، والفلاح كلمة جامعة، وهو: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، هذا هو معنى الفلاح فهي كلمة جامعة لكل خير، دافعة لكل شر. وقوله: {من تزكى} مأخوذة من التزكية وهو التطهير، ومنه سميت الزكاة زكاة؛ لأنها تطهر الإنسان من الأخلاق الرذيلة، أخلاق البخل كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103]. إذن {تزكى} يعني تطهر، ظاهره وباطنه، يتزكى أولاً من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد الله مخلصاً له الدين، لا يرائي، ولا يسمع، ولا يطلب جاهاً، ولا رئاسة فيما يتعبد به الله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجه الله والدار الاخرة. تزكى في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث لا يبتدع في شريعته لا بقليل ولا كثير، لا في الاعتقاد، ولا في الأقوال ولا في الأفعال، وهذا أعني التزكي بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو اتباعه من غير ابتداع لا ينطبق تماماً إلا على الطريقة السلفية طريقة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الطريقة السلفية الذين لا يبتدعون في العبادات القولية، ولا في العبادات الفعلية شيئاً في دين الله، تجدهم يتبعون ما جاء به الشرع، خلافاً لما يصنعه بعض المبتدعة في الأذكار المبتدعة، إما في نوعها، وإما في كيفيتها وصفتها، وإما في أدائها كما يفعله بعض أصحاب الطرق من الصوفية وغيرهم. كذلك يتزكى بالنسبة لمعاملة الخلق بحيث يطهر قلبه من الغل والحقد على إخوانه المسلمين فتجده دائماً طاهر القلب يحب لإخوانه ما يحب لنفسه لا يرضى لأحد أن يمسه سوء، بل يود أن جميع الناس سالمون من كل شر، موفقون لكل خير. فـ{من تزكى} أي من تطهر ظاهره وباطنه، فتطهر باطنه من الشرك بالله عز وجل، ومن الشك، ومن النفاق، ومن العداوة للمسلمين والبغضاء، وغير ذلك مما يجب أن يتطهر القلب منه، وتطهر ظاهره من إطلاق لسانه وجوارحه في العدوان على عبادالله عز وجل، فلا يغتاب أحداً، ولا ينم عن أحد، ولا يسب أحداً، ولا يعتدي على أحد بضرب، أو جحد مال أو غير ذلك، فالتزكي كلمة عامة تشمل التطهر من كل درن ظاهر أو باطن، فصارت التزكية لها ثلاث متعلقات: الأول: في حق الله. والثاني: في حق الرسول. والثالث: في حق عامة الناس. في حق الله تعالى يتزكى من الشرك فيعبد الله تعالى مخلصاً له الدين. في حق الرسول يتزكى من الابتداع فيعبد الله على مقتضى شريعة النبي صلى الله عليه وسلّم في العقيدة، والقول، والعمل. في معاملة الناس يتزكى من الغل والحقد والعداوة والبغضاء، وكل ما يجلب العداوة والبغضاء بين المسلمين يتجنبه، ويفعل كل ما فيه المودة والمحبة ومن ذلك: إفشاء السلام الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم»، فالسلام من أقوى الأسباب التي تجلب المحبة والمودة بين المسلمين وهذا الشيء مشاهد، لو مر بك رجل ولم يسلم عليك صار في نفسك شيء، وإذا لم تسلم عليه أنت صار في نفسه شيء، لكن لو سلمت عليه، أو سلم عليك صار هذا كالرباط بينكما يوجب المودة والمحبة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في السلام: «وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»، وأكثر الناس اليوم إذا سلم يسلم على من يعرف، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، وهذا غلط، لأنك إذا سلمت على من تعرف لم يكن السلام خالصاً لله، سلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين حتى تنال بذلك محبة المسلمين بعضهم لبعض، وتمام الإيمان، والنهاية دخول الجنة جعلنا الله من أهلها.
وقوله: {وذكر اسم ربه فصلى} أي: ذكر الله، ولكنه ذكر سبحانه وتعالى الاسم من أجل أن يكون الذكر باللسان؛ لأنه ينطق فيه باسم الله فيقول مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيذكر اسم الله، ويعني أيضاً ذكر اسم الله تعالى بالتعبد له، ويدخل في ذكر اسم الله الوضوء، فالوضوء من ذكر اسم الله، أولاً: لأن الإنسان لا يتوضأ إلا امتثالاً لأمر الله. وثانياً: أنه إذا ابتدأ وضوءه قال: بسم الله، وإذا انتهى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. ومن ذكر الله عز وجل خطبة الجمعة، فإن خطبة الجمعة من ذكر الله، لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. وعلى هذا قال بعض العلماء: {وذكر اسم ربه} يعني الخطيب يوم الجمعة {فصلى} أي صلاة الجمعة. فهذه الاية تشمل كل الصلوات التي يسبقها ذكر، وما من صلاة إلا ويسبقها ذكر؛ لأن الإنسان يتوضأ قبيل الصلاة فيذكر اسم الله ثم يصلي.
لكن الصحيح: أنها أعم من هذا، وأن المراد به كل ذكر لاسم الله عز وجل، أي كلما ذكر الإنسان اسم الله اتعظ وأقبل إلى الله وصلى. والصلاة معروفة هي عبادة ذات أقوال وأفعال، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. ثم قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا. والاخرة خير وأبقى} {بل} هنا للإضراب الانتقالي، لأن {بل} تأتي للإضراب الإبطالي، وتأي للإضراب الانتقالي، أي أنه سبحانه وتعالى انتقل ليبين حال الإنسان أنه مؤثر للحياة الدنيا لأنها عاجلة، والإنسان خلق من عجل، ويحب ما فيه العجلة، فتجده يؤثر الحياة الدنيا، وهي في الحقيقة على وصفها دنيا، دنيا زمناً، ودنيا وصفاً، أما كونها دنيا زمناً فلأنها سابقة على الاخرة فهي متقدمة عليها، والدنو بمعنى القرب. وأما كونها دنيا ناقصة فكذلك هو الواقع فإن الدنيا مهما طالت بالإنسان فإن أمدها الفناء، ومنتهاها الفناء، ومهما ازدهرت للإنسان فإن عاقبتها الذبول، ولهذا لا يكاد يمر بك يوم في سرور إلا وعقبه حزن، وفي هذا يقول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
تأمل حالك في الدنيا تجد أنه لا يمر بك وقت ويكون الصفو فيه دائماً بل لابد من كدر، ولا يكون السرور دائماً بل لابد من حزن، ولا تكون راحة دائماً بل لابد من تعب، فالدنيا على اسمها دنيا. {والاخرة خير وأبقى} الاخرة خير من الدنيا وأبقى، خير بما فيها من النعيم والسرور الدائم الذي لا ينغص بكدر {لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48]. كذلك أيضاً هي أبقى من الدنيا؛ لأن بقاء الدنيا كما أسلفنا قليل زائل مضمحل، بخلاف بقاء الاخرة فإنه أبد الابدين. {إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى} {إن هذا} أي ما ذكر من كون الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الاخرة وينسى الاخرة، وكذلك ما تضمنته الايات من المواعظ {في الصحف الأولى} أي السابقة على هذه الأمة {صحف إبراهيم وموسى} وهي صحف جاء بها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وفيها من المواعظ ما تلين به القلوب وتصلح به الأحوال، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن أوتي في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، ووقاه الله عذاب النار، إنه جواد كريم.

مخبر سري 09-02-2009 04:03 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
اللهم اغفر له ولوالديه ما تقدم من ذنبهم وما تأخر


وقِهم عذاب القبر وعذاب النار وأدخلهم الفردوس الأعلى مع الأنبياء والشهداء






ونقهم من الذنوب والخطايا كما نقيت الثوب الابيض من الدنس



وارزقه الوظيفه والزوجة الصالحة وبرالوالدين وحسن الخاتمه والعفو والعافيه

صقر قريش 09-02-2009 06:57 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الغاشية محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَـشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ * لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{هل أتاك حديث الغاشية} يجوز أن يكون الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده وأمته تبعاً له، ويجوز أن يكون عاماً لكل من يتأتى خطابه، والاستفهام هنا للتشويق فهو كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10]. ويجوز أن يكون للتعظيم لعظم هذا الحديث عن الغاشية. {حديث الغاشية} أي نبأها، و{الغاشية} هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس، وهي يوم القيامة التي تحدث الله عنها في القرآن كثيراً، ووصفها بأوصاف عظيمة مثل قوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1، 2]. ثم قسم الله سبحانه وتعالى الناس في هذا اليوم إلى قسمين فقال: {وجوه يومئذ خاشعة} {خاشعة} أي ذليلة كما قال الله تعالى: {وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} [الشورى: 45]. فمعنى خاشعة يعني ذليلة. {عاملة ناصبة} عاملة عملاً يكون به النصب وهو التعب. قال العلماء: وذلك أنهم يكلفون يوم القيامة بجر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم، كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة؛ لأنه عمل عذاب وعقاب، وليس المعنى كما قال بعضهم أن المراد بها: الكفار الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وذلك لأن الله قيد هذا بقوله: {وجوه يومئذ} أي يومئذ تأتي الغاشية، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة. إذن فهي عاملة ناصبة بما تكلف به من جر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم أعاذنا الله منها. {تصلى ناراً حامية} أي تدخل في نار جهنم، والنار الحامية التي بلغت من حموها أنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، يعني نار الدنيا كلها بما فيها من أشد ما يكون من حرارة نار جهنم أشد منها بتسعة وستين جزءًا، ويدلك على شدة حرارتها أن هذه الشمس حرارتها تصل إلينا مع بعد ما بيننا وبينها، ومع أنها تنفذ من خلال أجواء باردة غاية البرودة وتصل لنا هذه الحرارة التي تدرك ولاسيما في أيام الصيف، فالنار نار حامية، ولما بين مكانهم، وأنهم في نار جهنم الحامية، بين طعامهم وشرابهم فقال: {تسقى من عين آنية. ليس لهم طعام إلا من ضريع} {تسقى} أي هذه الوجوه {من عين آنية} أي شديدة الحرارة، هذا بالنسبة لشرابهم، ومع هذا لا يأتي هذا الشراب بكل سهولة، أو كلما عطشوا سقوا، وإنما يأتي كلما اشتد عطشهم واستغاثوا كما قال تعالى: {وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب} [الكهف: 29]. هذا الماء إذا قرب من وجوههم شواها وتساقط لحمها، وإذا دخل في أجوافهم قطعها، يقول عز وجل: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعائهم} [محمد: 15]. إذن لا يستفيدون منه لا ظاهراً ولا باطناً، لا ظاهراً بالبرودة ببرد الوجوه، ولا باطناً بالري، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ يغاثون بهذا الماء ولهذا قال: {تسقى من عين آنية}.
فإذا قال قائل: كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفىء النار؟
فالجواب: أولاً: أن أمور الاخرة لا تقاس بأمور الدنيا، لو أنها قيست بأمور الدنيا ما استطعنا أن نتصور كيف يكون، أليس الشمس تدنو يوم القيامة من رؤوس الناس على قدر ميل، والميل إما ميل المكحلة وهو نصف الإصبع أو ميل المسافة كيلو وثلث أو نحو ذلك، وحتى لو كان كذلك فإنه لو كانت الاخرة كالدنيا لشوت الناس شيًّا، لكن الاخرة لا تقاس بالدنيا. أيضاً يحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، منهم من هو في ظلمة شديدة، ومنهم من هو في نور {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم: 8]. يحشرون في مكان واحد ويعرقون منهم من يصل العرق إلى كعبه، ومنهم من يصل إلى ركبتيته، ومنهم من يصل إلى حِقويه، ومع ذلك هم في مكان واحد. إذن أحوال الاخرة لا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا.
ثانياً: أن الله على كل شيء قدير. ها نحن الان نجد أن الشجر الأخضر توقد منه النار كما قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 80]. الشجر الأخضر رَطِب، ومع ذلك إذا ضرب بعضه ببعض، أو ضرب بالزند انقدح خرج منه نار حارة يابسة، وهو رطب بارد، فالله على كل شيء قدير، فهم يسقون من عين آنية في النار ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل.
أما طعامهم فقال: {ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغني من جوع} الضريع قالوا: إنه شجر ذو شوك عظيم إذا يبس لا يرعاه ولا البهائم، وإن كان أخضر رعته الإبل ويسمى عندنا الشبرق. فهم ـ والعياذ بالله ـ في نار جهنم ليس لهم طعام إلا من هذا الضريع، ولكن لا تظن أن الضريع الذي في نار جهنم كالضريع الذي في الدنيا فهو يختلف عنه اختلافاً عظيماً، ولهذا قال: {لا يسمن} فلا ينفع الأبدان في ظاهرها {ولا يغني من جوع} فلا ينفعها في باطنها فهو لا خير فيه ليس فيه إلا الشوك، والتجرع العظيم، والمرارة، والرائحة المنتنة التي لا يستفيدون منها شيئاً.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَـغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}.
ثم ذكر الله عز وجل القسم الثاني من أقسام الناس في يوم الغاشية فقال: {وجوه يومئذ ناعمة} أي ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل؛ لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره ينعم، يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، فهي ناعمة {لسعيها راضية} أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح، فهي راضية لسعيها بخلاف الوجوه الأولى فإنها غاضبة ـ والعياذ بالله ـ غير راضية على ما قدمت. {في جنة عالية} الجنة هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم القيامة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله تبارك وتعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 11]. وقال تبارك وتعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم للزكاة فاعلون} إلى قوله: {أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} [المؤمنون: 10، 11]. وقال الله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71]. فهم في {جنة عالية} العلو ضد السفول فهي فوق السماوات السبع، ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السماوات السبع والأرضون ولا يبقى إلا الجنة والنار فهي عالية وأعلاها ووسطها الفردوس الذي فوقه عرش الرب جل وعلا. {لا تسمع فيها لاغية} أي لا تسمع في هذه الجنة قولةً لاغية، أو نفساً لاغية، بل كل ما فيها جد، كل ما فيها سلام، كل ما فيها تسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، أي أنه لا يشق عليهم ولا يتأثرون به، فهم دائماً في ذكر الله عز وجل، وتسبيح وأنس وسرور، يأتي بعضهم إلى بعض يزور بعضهم بعضاً في حبور لا نظير له. {فيها عين جارية} وهذه العين بين الله عز وجل أنها أنهار {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {جارية} أي تجري حيث أراد أهلها لا تحتاج إلى حفر ساقية، ولا إقامة أخدود كما قال ابن القيم رحمه الله:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
{فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق مصفوفة. وزرابي مبثوثة} انظر للتقابل {فيها سرر مرفوعة} عالية يجلسون عليها يتفكهون {هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون} [يس: 56]. {وأكواب موضوعة} الأكواب جمع كوب وهو الكأس ونحوه {موضوعة} يعني ليست مرفوعة عنهم، بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة التي سبق ذكرها. {ونمارق مصفوفة} النمارق جمع نمرقة وهي الوسادة أو ما يتكىء عليه. {مصفوفة} على أحسن وجه تلتذ العين بها قبل أن يلتذ البدن بالاتكاء إليها. {وزرابي مبثوثة} الزرابي أعلى أنواع الفرش {مبثوثة} منشورة في كل مكان، ولا تظن أن هذه النمارق، وهذه الأكواب، وهذه السرر، وهذه الزرابي لا تظن أنها تشبه ما في الدنيا؛ لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الاخرة، ونعلم حقيقته لكنها لا تشبهه لقول الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. إنما الأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الاخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط)، فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا لكنه فرق بين هذا وهذا.
{أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الاَْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاَْكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَاحِسَابَهُمْ }.
لما قرر الله عز وجل في هذه السورة حديث الغاشية وهي يوم القيامة، وبين أن الناس ينقسمون إلى قسمين: وجوه خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية، ووجوه ناعمة لسعيها راضية، وبين جزاء هؤلاء وهؤلاء، قال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} وهذا الاستفهام للتوبيخ، أي إن الله يوبخ هؤلاء الذين أنكروا ما أخبر الله به عن يوم القيامة، وعن الثواب والعقاب، أنكر عليهم إعراضهم عن النظر في آيات الله تعالى التي بين أيديهم، وبدأ بالإبل؛ لأن أكثر ما يلابس الناس في ذلك الوقت الإبل، فهم يركبونها، ويحلبونها، ويأكلون لحمها، وينتفعون من أوبارها إلى غير ذلك من المنافع فقال: {أفلا ينظرون إلى الإبل} وهي الأباعر {كيف خلقت} يعني كيف خلقها الله عز وجل، هذا الجسم الكبير المتحمل، تجد البعير تمشي مسافات طويلة لا يبلغها الإنسان إلا بشق الأنفس وهي متحملة، وتجد البعير أيضاً يحمل الأثقال وهو بارك ثم يقوم في حمله لا يحتاج إلى مساعدة، والعادة أن الحيوان لا يكاد يقوم إذا حُّمل وهو بارك لكن هذه الإبل أعطاها الله عز وجل قوة وقدرة من أجل مصلحة الإنسان، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمل عليها وهي قائمة لعلوها، ولكن الله تعالى يسر لهم الحمل عليها وهي باركة ثم تقوم بحملها، وكما قال الله تعالى في سورة يس: {ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} [يس: 73]. منافعها كثيرة لا تحصى، وأهلها الذين يمارسونها أعلم منا بذلك، فلهذا قال: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} ولم يذكر سواها من الحيوان كالغنم والبقر والظبي وغيرها لأنها أعم الحيوانات نفعاً وأكثرها مصلحة للعباد. {وإلى السماء كيف رفعت} يعني وينظرون إلى السماء كيف رفعت بما فيها من النجوم، والشمس، والقمر وغير هذا من الايات العظيمة التي لم يتبين كثير منها إلى الان، ولا نقول إن هذه الايات السماوية هي كل الايات، بل لعل هناك آيات كبيرة عظيمة لا ندركها حتى الان، وقوله: {كيف رفعت} أي رفعت هذا الارتفاع العظيم، ومع هذا فليس لها عمد مع أن العادة أن السقوف لا تكون إلا على عمد، لكن هذا السقف العظيم المحفوظ قام على غير عمد {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2]. {وإلى الجبال كيف نصبت} هذه الجبال العظيمة التي تحمل الصخور والقطع المتجاورات المتباينات، الجبال مكونة من أحجار كثيرة وأنواع كثيرة، فيها المعادن المتنوعة وهي متجاورة ومع ذلك تجد مثلاً هذا الخط في وسط الصخر تجده يشتمل على معادن لا توجد فيما قرب منه من هذا الصخر، ويعرف هذا علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) كيف نصب الله هذه الجبال العظيمة، ونصبها جل وعلا بهذا الارتفاع لتكون رواسي في الأرض لئلا تميد بالناس، لولا أن الله عز وجل خلق هذه الجبال لمادت الأرض بأهلها، لأن الأرض في وسط الماء، الماء محيط بها من كل جانب، وما ظنك بكرة تجعلها في وسط ماء سوف تتحرك وتضطرب، وتتدحرج أحياناً، وتنقلب أحياناً لكن الله جعل هذه الجبال رواسي تمسك الأرض كما تمسك الأطناب الخيمة، وهي راسية ثابتة على ما يحصل في الأرض من الأعاصير العظيمة التي تهدم البنايات التي بناها الادميون لكن هذه الجبال لا تتزحزح راسية ولو جاءت الأعاصير العظيمة، بل إن من فوائدها: أنها تحجب الأعاصير العظيمة البالغة التي تنطلق من البحار، أو من غير البحار لئلا تعصف بالناس، وهذا شيء مشاهد تجد الذين في سفوح الجبال وتحتها في الأرض تجدهم في مأمن من أعاصير الرياح العظيمة التي تأتي من خلف الجبل، ففيها فوائد عظيمة، وهي رواسي لو أن الخلق اجتمعوا على أن يضعوا سلسلة مثل هذه السلسلة من الجبال ما استطاعوا إلى هذا سبيلاً مهما بلغت صنعتهم، وقوتهم، وقدرتهم، وطال أمدهم فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذه الجبال. وقد قال بعض العلماء: إن هذه الجبال راسية في الأرض بمقدار علوها في السماء، يعني أن الجبل له جرثومة وجذر في داخل الأرض في عمق يساوي ارتفاعه في السماء، وليس هذا ببعيد أن يُمكّن الله لهذا الجبل في الأرض حتى يكون بقدر ما هو في السماء لئلا تزعزعه الرياح فلهذا يقول الله عز وجل: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 15، 16]. يقول عز وجل: {وإلى الأرض كيف سطحت} أي وانظروا كيف سطح الله هذه الأرض الواسعة، وجعلها سطحاً واسعاً ليتمكن الناس من العيش فيه بالزراعة والبناء وغير هذا، وما ظنكم لو كانت الأرض صبباً غير مسطحة يعني مثل الجبال يرقى لها ويصعد لكانت شاقة، ولما استقر الناس عليها، لكن الله عز وجل جعلها سطحاً ممهداً للخلق، وقد استدل بعض العلماء بهذه الاية على أن الأرض ليست كروية بل سطح ممتد لكن هذا الاستدلال فيه نظر، لأن هناك آيات تدل على أن الأرض كروية، والواقع شاهد بذلك فيقول الله عز وجل: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} [الزمر: 5]. والتكوير التدوير، ومعلوم أن الليل والنهار يتعاقبان على الأرض، فإذا كانا مكورين لزم أن تكون الأرض مكورة، وقال الله تبارك وتعالى: {إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت. وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق: 1 ـ 4]. فقال: {وإذا الأرض مدت} وقد جاء في الحديث أنها يوم القيامة تمد مد الأديم أي مد الجلد حتى لا يكون فيها جبال، ولا أودية، ولا أشجار، ولا بناء، يذرها الرب عز وجل قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، فقوله: {إذا السماء انشقت} والسماء لا تنشق إلا يوم القيامة وهي الان غير منشقة إذاً قوله: {إذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت} يعني يوم القيامة فهي إذاً الان غير ممدودة، إذاً مكورة، والواقع المحسوس المتيقن الان أنها كروية لا شك، والدليل على هذا أنك لو سرت بخط مستقيم من هنا من المملكة متجهاً غرباً لأتيت من ناحية الشرق، تدور على الأرض ثم تأتي إلى النقطة التي انطلقت منها، وكذلك بالعكس لو سرت متجهاً نحو المشرق وجدتك راجعاً إلى النقطة التي قمت منها من نحو المغرب، إذاً فهي الان أمر لا شك فيه أنها كروية.
فإذا قال الإنسان: إذا كانت كما ذكرت كروية فكيف تثبت المياه، مياه البحار عليها وهي كروية؟
نقول في الجواب عن ذلك: الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه يمسك البحار أن تفيض على الناس فتغرقهم، والله على كل شيء قدير، قال بعض أهل العلم: {وإذا البحار سجرت} أي حبست ومنعت من أن تفيض على الناس كالشيء الذي يُسجر (يربط)، وعلى كل حال القدرة الإلهية لا يمكن لنا أن نعارض فيها. نقول قدرة الله عز وجل أمسكت هذه البحار أن تفيض على أهل الأرض فتغرقهم، وإن كانت الأرض كروية.
ثم قال عز وجل لما بين من آياته هذه الايات الأربع: الإبل، والسماء، والجبال، والأرض قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم {فذكر} أمره الله أن يذكر ولم يخصص أحداً بالتذكير، أي لم يقل ذكّر فلاناً وفلاناً فالتذكير عام، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُعث إلى الناس كافة، ذكّر كل أحد في كل حال وفي كل مكان، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وذكّر خلفاؤه من بعده الذين خلفوه في أمته في العلم والعمل والدعوة، ولكن هذه الذكرى هل ينتفع بها كل الناس؟ الجواب: لا، {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} [الذاريات: 55]. أما غير المؤمن فإن الذكرى تقيم عليه الحجة لكن لا تنفعه، لا تنفع الذكرى إلا المؤمن، ونقول إذا رأيت قلبك لا يتذكر بالذكرى فاتهمه، لأن الله يقول: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فإذا ذُكرت ولم تجد من قلبك تأثراً وانتفاعاً فاتهم نفسك، واعلم أن فيك نقص إيمان، لأنه لو كان إيمانك كاملاً لانتفعت بالذكرى ، لأن الذكرى لابد أن تنفع المؤمنين. {إنما أنت مذكر} يعني أن محمداً عليه الصلاة والسلام ليس إلا مذكراً مبلغاً، وأماالهداية فبيد الله عز وجل، {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272]. وقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالذكرى والتذكير إلى آخر رمق من حياته حتى أنه في آخر حياته يقول: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم»، حتى جعل يغرغر بها عليه الصلاة والسلام، فذكّر صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث وقيل له {قم فأنذر} [المدثر: 2]. إلى أن توفاه الله، لم يأل جهداً في التذكير في كل موقف، وفي كل زمان على ما أصابه من الأذى من قومه ومن غير قومه، والذي قرأ التاريخ ـ السيرة النبوية ـ يعرف ما جرى له من أهل مكة من قومه الذين هم أقرب الناس إليه، والذين كانوا يعرفونه، ويلقبونه بالأمين يلقبونه بذلك ويثقون به حتى حكّموه في وضع الحجر الأسود في الكعبة حينما هدموا الكعبة ووصلوا إلى حد الحجر قالوا من ينصب الحجر، فتنازعوا بينهم كل قبيلة تقول نحن الذين نتولى وضع الحجر في مكانه، حتى جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحكموه فيما بينهم وأمر أن يوضع رداء وأن تمسك كل طائفة من هذه القبيلة أن يمسك كل واحد من هذه القبائل بطرف من هذا الرداء حتى يرفعوه، فإذا حاذوا محله أخذه هو بيده الكريمة ونصبه في مكانه، فكانوا يلقبونه بالأمين لكن لما أكرمه الله تعالى بالنبوة انقلبت المعايير، فصاروا يقولون إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب، ورموه بكل سب، فالرسول عليه الصلاة والسلام يذكّر وليس عليه إلا التذكير، ومن هنا نأخذ أن الهداية بيد الله، لا يمكن أن نهدي أقرب الناس إلينا {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. فلا تجزع إذا ذكّرنا إنساناً ووجدناه يعاند، أو يخاصم، أو يقول أنا أعمل ما شئت، أو ما أشبه ذلك. قال الله تعالى لنبيه: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3]. لا تهلك نفسك إذا لم يؤمنوا، إيمانهم لهم وكفرهم ليس عليك ولهذا قال: {لست عليهم بمصيطر} يعني ليس لك سلطة عليهم، ولا سيطرة عليهم، السلطة لله رب العالمين، أنت عليك البلاغ بلغ، والسلطان والسيطرة لله عز وجل. {إلا من تولى وكفر. فيعذبه الله العذاب الأكبر} قال العلماء: {إلا} هنا بمعنى لكن يعني أن الاستثناء في الاية منقطع وليس بمتصل، والفرق بين المتصل والمنقطع أن المتصل يكون فيه المستثنى من جنس المستنثى منه، والمنقطع يكون أجنبيًّا منه، فمثلاً لو قلنا إنه متصل لصار معنى الاية (لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فأنت عليهم مصيطر) وليس الأمر كذلك بل المعنى: لكن من تولى وكفر بعد أن ذكرته فيعذبه الله العذاب الأكبر. فمن تولى وكفر بعد أن بلغه الوحي النازل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإنه سيعذب {إلا من تولى وكفر} التولي يعني الإعراض فلا يتجه للحق، ولا يقبل الحق، ولا يسمع الحق، حتى لو سمعه بأذنه لم يسمعه بقلبه كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 20، 21]. أي لا ينقادون. فهنا يقول عز وجل: {إلا من تولى وكفر} {تولى} أعرض، {وكفر} أي استكبر ولم يقبل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام {فيعذبه الله العذاب الأكبر} والعذاب الأكبر يوم القيامة وهنا قال {الأكبر} ولم يذكر المفضل عليه يعني لم يقل الأكبر من كذا فهو قد بلغ الغاية في الكبر والمشقة والإهانة، وكل من تولى وكفر فإن الله يعذبه العذاب الأكبر. وهناك عذاب أصغر في الدنيا قد يبتلى المتولي المعرض بأمراض في بدنه، في عقله، في أهله، في ماله، في مجتمعه، وكل هذا بالنسبة لعذاب النار عذاب أصغر، لكن العذاب الأكبر إنما يكون يوم القيامة ولهذا قال بعدها: {إن إلينا إيابهم} أي مرجعهم، فالرجوع إلى الله مهما فر الإنسان فإنه راجع إلى ربه عز وجل لو طالت به الحياة راجع إلى الله، ولهذا قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6]. فاستعد يا أخي لهذه الملاقاة لأنك سوف تلاقي ربك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ـ مباشرة بدون مترجم يكلمه الله يوم القيامة ـ فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه ـ يعني على اليسار ـ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة»، كلنا سيخلو به ربه عز وجل يوم القيامة ويقرره بذنوبه، يقول: فعلت كذا في يوم كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، وكم من ذنوب سترها الله عز وجل، كم من ذنوب اقترفناها لم يعلم بها أحد ولكن الله تعالى علم بها، فموقفنا من هذه الذنوب أن نستغفر الله عز وجل، وأن نكثر من الأعمال الصالحة المكفرة للسيئات حتى نلقى الله عز وجل ونحن على ما يرضيه سبحانه وتعالى. {ثم إن علينا حسابهم} نحاسبهم، قال العلماء: وكيفية الحساب ليس مناقشة يناقش الإنسان، لأنه لو يناقش هلك، لو يناقشك الله عز وجل على كل حساب هلكت، لو ناقشك في نعمة من النعم كالبصر لا يمكن أن تجد أي شيء تعمله يقابل نعمة البصر، نعمة النفس، الذي يخرج ويدخل بدون أي مشقة، وبدون أي عناء، الإنسان يتكلم وينام، يأكل ويشرب، ومع ذلك لا يحس بالنفس، ولا يعرف قدر النفس إلا إذا أصيب بما يمنع النفس، حينئذ يذكر نعمة الله، لكن مادام في عافية يقول هذا شيء طبيعي، لكن لو أنه أصيب بكتم النفس لعرف قدر النعمة، فلو نوقش لهلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة: «من نوقش الحساب هلك» أو قال «عذب»، لكن كيفية الحساب: أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به بنفسه ليس عندهما أحد ويقرره بذنوبه فعلت كذا فعلت كذا، فعلت كذا حتى إذا أقر بها قال الله تعالى: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»، أما الكفار فلا يحاسبون هذا الحساب لأنه ليس لهم حسنات تمحو سيئاتهم لكنها تحصى عليهم أعمالهم، ويقررون بها أمام العالم، ويحصون بها، وينادى على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]. ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ وبهذا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة وهي إحدى السورتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ بهما في المجامع الكبيرة، فقد كان يقرأ في صلاتي العيدين {سبح اسم ربك الأعلى} و{هل أتاك حديث الغاشية} وكذلك في صلاة الجمعة، ويقرأ أحياناً في العيدين {ق. والقرآن المجيد} و{اقتربت الساعة وانشق القمر}، وفي الجمعة سورة الجمعة والمنافقين، ينوع مرة هذا، ومرة هذا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن تكون وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وأن يتولانا بعنايته في الدنيا والاخرة، إنه على كل شيء قدير

صقر قريش 09-02-2009 06:58 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الفجر محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَـدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الاَْوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَـدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}.
البسملة: تقدم الكلام عليها.
{والفجـر. وليـال عشر. والشفـع والوتر. والليل إذا يسر} كل هذه إقسامات بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، خمسة أشياء أقسم الله تعالى بها، الأول: الفجر {والفجر} هو النـور الساطـع الذي يكون في الأفق الشرقي قرب طلوع الشمس، وبينـه وبين طلوع الشمس ما بين ساعة واثنتين وثلاثين دقيقة، إلى ساعة وسبع عشرة دقيقة، ويختلف باختلاف الفصول، فأحياناً تطول الحصـة مـا بين الفجر وطلوع الشمس، وأحياناً تقصر حسب الفصول، والفجر فجران: فجر صادق، وفجر كاذب، والمقصود بالفجر هنا الفجر الصادق، والفرق بين الفجر الصادق والكاذب من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: الفجر الكاذب يكون مستطيلاً في السماء ليس عرضاً ولكنه طولاً، وأما الفجر الصادق يكون عرضاً يمتد من الشمال إلى الجنوب.
الفرق الثاني: أن الفجر الصادق لا ظلمة بعده، بل يزداد الضياء حتى تطلع الشمس، وأما الفجر الكاذب فإنه يحدث بعده ظلمة بعد أن يكون هذا الضياء، ولهذا سمي كاذباً؛ لأنه يضمحل ويزول.
الفرق الثالث: أن الفجر الصادق متصل بالأفق، أما الفجر الكاذب فبينه وبين الأفق ظلمة، هذه ثلاثة فروق آفاقية حسية يعرفها الناس إذا كانوا في البر، أما في المدن فلا يعرفون ذلك، لأن الأنوار تحجب هذه العلامات.
وأقسم الله بالفجر لأنه ابتداء النهار، وهو انتقال من ظلمة دامسة إلى فجر ساطع، وأقسم الله به لأنه لا يقدر على الإتيان بهذا الفجر إلا الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون} [القصص: 71] وأقسم الله بالفجر لأنه يترتب عليه أحكام شرعية، مثل: إمساك الصائم، فإنه إذا طلع الفجر وجب على الصائم أن يمسك إذا كان صومه فرضاً أو نفلاً إذا أراد أن يتم صومه، ويترتب عليه أيضاً: دخول وقت صلاة الفجر، وهما حكمان شرعيان عظيمان، أهمهما دخول وقت الصلاة، أي أنه يجب أن نراعي الفجر من أجل دخول وقت الصلاة أكثر مما نراعيه من أجل الإمساك في حالة الصوم، لأننا في الإمساك عن المفطرات في الصيام لو فرضنا أننا أخطأنا فإننا بنينا على أصل وهو بقاء الليل، لكن في الصلاة لو أخطأنا وصلينا قبل الفجر لم نكن بنينا على أصل، لأن الأصل بقاء الليل وعدم دخول وقت الصلاة، ولهذا لو أن الإنسان صلى الفجر قبل دخول وقت الصلاة بدقيقة واحدة فصلاته نفل ولا تبرأ بها ذمته، ومن ثَمَّ ندعوكم إلى ملاحظة هذه المسألة، أعني العناية بدخول وقت صلاة الفجر، لأن كثيراً من المؤذنين يؤذنون قبل الفجر وهذا غلط، لأن الأذان قبل الوقت ليس بمشروع لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم»، ويكون حضور الصلاة إذا دخل وقتها، فلو أذن الإنسان قبل دخول وقت الصلاة فأذانه غير صحيح يجب عليه الإعادة، والعناية بدخول الفجر مهمة جداً من أجل مراعاة وقت الصلاة.
وقوله تعالى: {وليال عشر} قيل المراد بـ{ليال عشر} عشر ذي الحجة، وأطلق على الأيام ليالي، لأن اللغة العربية واسعة، قد تطلق الليالي ويراد بها الأيام، والأيام يراد بها الليالي، وقيل المراد بـ{ليال عشر} ليال العشر الأخيرة من رمضان، أما على الأول الذين يقولون المراد بالليال العشر عشر ذي الحجة، فلأن عشر ذي الحجة أيام فاضلة قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
وأما الذين قالوا: إن المراد بالليال العشر هي ليال عشر رمضان الأخيرة، فقالوا: إن الأصل في الليالي أنها الليالي وليست الأيام، وقالوا: أن ليال العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة القدر التي قال الله عنها {خير من ألف شهر}، وقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3 ، 4]، وهذا القول أرجح من القول الأول، وإن كان القول الأول هو قول الجمهور، لكن اللفظ لا يسعف قول الجمهور، وإنما يرجح القول الثاني أنها الليالي العشر الأواخر من رمضان، وأقسم الله بها لشرفها، ولأن فيها ليلة القدر، ولأن المسلمين يختمون بها شهر رمضان الذي هو وقت فريضة من فرائض الإسلام وأركان الإسلام، فلذلك أقسم الله بهذه الليالي. وقوله: {والشفع والوتر} قيل: إن المراد به كل الخلق، فالخلق إما شفـع وإما وتر، والله عز وجل يقول: {ومن كل شيء خلقنا زوجين}. [الذاريات: 49] والعبادات إما شفع وإما وتر، فيكون المراد بالشفع والوتر كل ما كان مخلوقاً من شفع ووتر، وكل ما كان مشروعاً من شفع ووتر، وقيل: المراد بالشفع الخلق كلهم، والمراد بالوتر الله عز وجل.
واعلم أن قوله والوتر فيها قراءتان صحيحتان (والوِتر) و(الوَتر) يعني لو قلت (والشفع والوِتر) صح ولو قلت (والشفع والوَتْر) صح أيضاً، فقالوا إن الشفع هو الخلق؛ لأن المخلوقات كلها مكونة من شيئين {ومن كل شيء خلقنا زوجين} والوَتْر أو الوِتر هو الله لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله وتر يحب الوتر»، وإذا كانت الاية تحتمل معنيين ولا منافاة بينهما فلتكن لكل المعاني التي تحتملها الاية، وهذه القاعدة في علم التفسير أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين وأحدهما لا ينافي الاخر فهي محمولة على المعنيين جميعاً. قال تعالى: {والليل إذا يسر} أقسم الله أيضاً بالليل إذا يسري، والسري هو السير في الليل، والليل يسير يبدأ بالمغرب وينتهي بطلوع الفجر فهو يمشي زمناً لا يتوقف، فهو دائماً في سريان، فأقسم الله به لما في ساعاته من العبادات كصلاة المغرب، والعشاء، وقيام الليل، والوتر وغير ذلك، ولأن في الليل مناسبة عظيمة وهي أن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر فيقول: «من يسألني فأعطيه، من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له» ولهذا نقول: إن الثلث الاخر من الليل وقت إجابة، فينبغي أن ينتهز الإنسان هذه الفرصة فيقوم لله عز وجل يتهجد ويدعو الله سبحانه بما شاء من خير الدنيا والاخرة لعله يصادف ساعة إجابة ينتفع بها في دنياه وأخراه. {هل في ذلك قسم لذي حجر} لذي عقل، {ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد} الخطاب هنا لكل من يوجه إليه هذا الكتاب العزيز وهم البشر كلهم بل والجن أيضاً ألم ترى أيها المخاطب {كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد} يعني ما الذي فعل بهم؟ وعاد قبيلة معروفة في جنوب الجزيرة العربية، أرسل الله تعالى إليهم هوداً عليه الصلاة والسلام فبلغهم الرسالة ولكنهم عتوا وبغوا وقالوا من أشد منا قوة قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون} [فصلت: 15]. فهم افتخروا في قوتهم ولكن الله بين أنهم ضعفاء أمام قوة الله ولهذا قال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم} وعبّر ـ والله أعلم ـ بقوله {الذي خلقهم} ليبين ضعفهم وأنه جل وعلا أقوى منهم، لأن الخالق أقوى من المخلوق {أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون. فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون}. [فصلت: 15، 16]. والذي فعل الله بعاد أنه أرسل عليهم الريح العقيم سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فترى القوى فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وهذا الاستفهام الذي لفت الله فيه النظر إلى ما فعل بهؤلاء يراد به الاعتبار يعني اعتبر أيها المكذب للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم بهؤلاء كيف أُذيقوا هذا العذاب، وقد قال الله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 83]. وقوله: {إرم} هذه اسم للقبيلة، وقيل اسم للقرية، وقيل غير ذلك، فسواء كانت اسم للقبيلة أو اسم للقرية فإن الله تعالى نكل بهم نكالاً عظيماً مع أنهم أقوياء. وقوله: {ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد} يعني أصحاب {العماد} الأبنية القوية {التي لم يخلق مثلها في البلاد} أي لم يصنع مثلها في البلاد؛ لأنها قوية ومحكمة، وهذا هو الذي غرهم وقالوا: مَن أشد منا قوة؟ وفي قوله: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} مع أن الذي صنعها الادمي دليل على أن الادمي قد يوصف بالخلق فيقال خلق كذا، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام في المصورين «يقال لهم أحيوا ما خلقتم»، لكن الخلق الذي ينسب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب إلى الله. الخلق المنسوب إلى الله إيجاد بعد عدم وتحويل وتغيير، أما الخلق المنسوب لغير الله فهو مجرد تحويل وتغيير، وأضرب لكم مثلاً: هذا الباب من خشب، الذي خلق الخشب الله، ولا يمكن للبشر أن يخلقوه، لكن البشر يستطيع أن يحول جذوع الخشب وأغصان الخشب إلى أبواب إلى كرسي وما أشبه ذلك، فالخلق المنسوب للمخلوق ليس هو الخلق المنسوب للخالق؛ لأن الخلق المنسوب للخالق إيجاد من عدم وهذا لا يستطيعه أحد، والمنسوب للمخلوق تغير وتحويل يحول الشيء من صفة إلى صفة، أما أن يغير الذوات بمعنى يجعل الذهب فضة، أو يجعل الفضة حديداً، أو ما أشبه ذلك فهذا مستحيل لا يمكن إلا لله وحده لا شريك له. ثم قال: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} ثمود هم قوم صالح ومساكنهم معروفة الان كما قال تعالى: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين} [الحجر: 80]. في سورة (الر) ذكر الله أن ثمود كانوا في بلاد الحجر وهي معروفة مر عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طريقه إلى تبوك وأسرع وقنّع رأسه صلى الله عليه وسلّم وقال: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم»، هؤلاء القوم أعطاهم الله قوة حتى صاروا يخرقون الجبال والصخور العظيمة ويصنعون منها بيوتاً ولهذا قال: {جابوا الصخر بالواد} أي: وادي ثمود، وهو معروف، هؤلاء أيضاً فعل الله بهم ما فعل من العذاب والنكال حيث قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ثم بعد الثلاثة الأيام أخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، فعلينا أن نعتبر بحال هؤلاء المكذبين الذين صار مآلهم إلى الهلاك والدمار، وليُعلم أن هذه الأمة لن تُهلك بما أهلكت به الأمم السابقة بهذا العذاب العام، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سأل الله تعالى أن لا يهلكهم بسنة بعامة ولكن قد تهلك هذه الأمة بأن يجعل الله بأسهم بينهم، فتجري بينهم الحروب والمقاتلة، ويكون هلاك بعضهم على يد بعض، لا بشيء ينزل من السماء كما صنع الله تعالى بالأمم السابقة، ولهذا يجب علينا أن نحذر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نبتعد عن كل ما يثير الناس بعضهم على بعض، وأن نلزم دائماً الهدوء، وأن نبتعد عن القيل والقال وكثرة السؤال، فإ ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكم من كلمة واحدة صنعت ما تصنعه السيوف الباترة، فالواجب الحذر من الفتن، وأن نكون أمة متآلفة متحابة، يتطلب كل واحد منا العذر لأخيه إذا رأى منه ما يكره. {وفرعون} فرعون هو الذي أرسل الله إليه موسى عليه الصلاة والسلام، وكان قد استذل بني إسرائيل في مصر، يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، وقد اختلف العلماء في السبب الذي أدى به إلى هذه الفعلة القبيحة، لماذا يقتل الأبناء ويبقي النساء؟! فقال بعض العلماء: إن كهنته قالوا له إنه سيولد في بني إسرائيل رجل يكون هلاكك على يده فصار يقتل الأبناء ويستبقي النساء.
ومن العلماء من قال: إنه فعل ذلك من أجل أن يضعف بني إسرائيل؛ لأن الأمة إذا قُتلت رجالها واستبقيت نسائها ذلت بلا شك، فالأول تعليل أهل الأثر، والثاني تعليل أهل النظر ـ أهل العقل ـ ولا يبعد أن يكون الأمران جميعاً قد صارا علة لهذا الفعل، ولكن بقدرة الله عز وجل أن هذا الرجل الذي كان هلاك فرعون على يده تربى في نفس بيت فرعون، فإن امرأة فرعون التقطته وربته في بيت فرعون، وفرعون استكبر في الأرض وعلا في الأرض وقال لقومه: (أنا ربكم الأعلى) وقال لهم: (ما علمت لكم من إله غيري) وقال لهم: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين) يعني موسى (ولا يكاد يبين) قال الله تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه} [الزخرف: 54]. وقال لقومه مقرراً لهم: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} [الزخرف: 51]. افتخر بالأنهار وهي المياه فأغرق بالماء. {ذي الأوتاد} أي ذي القوة، لأن جنوده كانوا له بمنزلة الوتد، والوتد تربط به حبال الخيمة فتستقر وتثبت، فله جنود أمم عظيمة ما بين ساحر وكاهن وغير ذلك لكن الله سبحانه فوق كل شيء. {الذين طغوا في البلاد} الطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11]. أي لما زاد الماء حملناكم في الجارية يعني بذلك السفينة التي صنعها نوح عليه الصلاة والسلام، فمعنى {طغوا في البلاد} أي: زادوا عن حدهم واعتدوا على عباد الله. {فأكثروا فيها الفساد} أي: الفساد المعنوي، والفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96]. ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56]. قالوا: لا تفسدوها بالمعاصي، وعلى هذا فيكون قوله {فأكثروا فيها الفساد} أي: الفساد المعنوي، لكن الفساد المعنوي يتبعه الفساد الحسي، وكان فيما سبق من الأمم أن الله تعالى يدمر هؤلاء المكذبين عن آخرهم، لكن هذه الأمة رفع الله عنها هذا النوع من العقوبة وجعل عقوبتها أن يكون بأسهم بينهم، يدمر بعضهم بعضاً، وعلى هذا فما حصل من المسلمين من اقتتال بعضهم بعضاً، ومن تدمير بعضهم بعضاً إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، يسلط الله بعضهم على بعض ويكون هذا عقوبة من الله سبحانه وتعالى، {فصب عليهم ربك} الصب معروف أنه يكون من فوق، والعذاب الذي أتى هؤلا من فوق من عند الله عز وجل {سوط عذاب} السوط هو العصا الذي يضرب به، ومعلوم أن الضرب بالعصا نوع عذاب، لكن هل هذاالسوط الذي صبه الله تعالى على عاد، وثمود، وفرعون، هل هو العصا المعروف الذي نعرف، أو أنه عصا عذاب أهلكهم؟ الجواب: الثاني عصا عذاب أهلكهم وأبادهم. نسأل الله تعالى أن يجعل لنا فيما سبق من الأمم عبرة نتعظ بها وننتفع بها، ونكون طائعين لله عز وجل غير طاغين، إنه على كل شيء قدير. {إن ربك لبالمرصاد} الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل من يتوجه إليه الخطاب، يبين الله عز وجل أنه بالمرصاد لكل من طغى واعتدى وتكبر، فإنه له بالمرصاد سوف يعاقبه ويؤاخذه، وهذا المعنى له نظائر في القرآن الكريم منها قوله تبارك وتعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها} [محمد: 10]. وكقول شعيب لقومه: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89]. فسنة الله سبحانه وتعالى واحدة في المكذبين لرسله، المستكبرين عن عبادته هو لهم بالمرصاد، وهذه الاية تفيد التهديد والوعيد لمن حاول، أو لمن استكبر عن عبادة الله، أو كذب خبره.
{فَأَمَّا الإِنسَـنُ إِذَا مَا ابْتَلـهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّى أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَالتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}.
ثم قال عز وجل: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} الابتلاء من الله عز وجل يكون بالخير وبالشر كما قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. فيُبتلى الإنسان بالخير ليبلوه الله عز وجل أيشكر أم يكفر، ويبتلى بالشر ليبلوه أيصبر أم يفجر، وأحوال الإنسان دائرة بين خير وشر، بين خير يلائمه ويسره، وبين شر لا يلائمه ولا يسره، وكله ابتلاء من الله، والإنسان بطبيعته الإنسانية المبنية على الظلم والجهل إذا ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه يقول {رب أكرمن} يعني أنني أهل للإكرام ولا يعترف بفضل الله عز وجل، وهذا كقوله تعالى: {قال إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78]. لما ذكر بنعمة الله عليه قال: {إنما أوتيته على علم عندي} ولم يعترف بفضل الله، وما أكثر الناس الذين هذه حالهم إذا أكرمهم الله عز وجل ونعمهم، قالوا: هذا إكرام من الله لنا؛ لأننا أهل لذلك، ولو أن الإنسان قال: إن الله أكرمني بكذا اعترفاً بفضله وتحدثاً بنعمته لم يكن عليه في ذلك بأس، لكن إذا قال: أكرمني، يعني أنني أهل للإكرام، كما يقول مثلاً كبير القوم إذا نزل ضيفاً على أحدهم قال: أكرمني فلان؛ لأنني أهل لذلك. {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} يعني ضيق عليه الرزق {فيقول ربي أهانن} يعني يقول إن الله تعالى ظلمني فأهانني ولم يرزقني كما رزق فلاناً، ولم يكرمني كما أكرم فلاناً، فصار عند الرخاء لا يشكر، يعجب بنفسه ويقول هذا حق لي، وعند الشدة لا يصبر بل يعترض على ربه ويقول {ربي أهانن} وهذا حال الإنسان باعتباره إنساناً، أما المؤمن فليس كذلك، المؤمن إذا أكرمه الله ونعّمه شكر ربه على ذلك، ورأى أن هذا فضل من الله عز وجل وإحسان، وليس من باب الإكرام الذي يقدم لصاحبه على أنه مستحق، وإذا ابتلاه الله عز وجل وقدر عليه رزقه صبر واحتسب، وقال هذا بذنبي، والرب عز وجل لم يهني ولم يظلمني، فيكون صابراً عند البلاء، شاكراً عند الرخاء، وفي الايتين إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يتبصر فيقول مثلاً: لماذا أعطاني الله المال؟ ماذا يريد مني؟ يريد مني أن أشكر. لماذا ابتلاني الله بالفقر، بالمرض وما أشبه ذلك؟ يريد مني أن أصبر. فليكن محاسباً لنفسه حتى لا يكون مثل حال الإنسان المبنية على الجهل والظلم ولهذا قال تعالى: {كلا} يعني لم يعطك ما أعطاك إكراماً لك لأنك مستحق ولكنه تفضل منه، ولم يهنك حين قدر عليك رزقه، بل هذا مقتضى حكمته وعدله. ثم قال تعالى: {بل لا تكرمون اليتيم} يعني أنتم إذا أكرمكم الله عز وجل بالنعم لا تعطفون على المستحقين للإكرام وهم اليتامى، فاليتيم هنا اسم جنس، ليس المراد يتيماً واحداً بل جنس اليتامى، واليتيم قال العلماء: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه من ذكر أو أنثى، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، وقوله تعالى: {اليتيم} يشمل الفقير من اليتامى، والغني من اليتامى لأنه ينبغي الإحسان إليه وإكرامه لأنه انكسر قلبه بفقد أبيه ومن يقوم بمصالحه، فأوصى الله تعالى به حتى يزول هذا الكسر الذي أصابه. {ولا تحاضون على طعام المسكين} يعني لا يحض بعضكم بعضاً على أن يطعم المسكين، وإذا كان لا يحض غيره فهو أيضاً لا يفعله بنفسه، فهو لا يطعم المسكين ولا يحض على طعام المسكين، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي لنا أن نكرم الأيتام، وأن يحض بعضنا بعضاً على إطعام المساكين؛ لأنهم في حاجة، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. {وتأكلون التراث أكلاً لما} {التراث} ما يورثه الله العبد من المال، سواء ورثه عن ميت، أو باع واشترى وكسب، أو خرج إلى البر وأتى بما يأتي به من عشب وحطب وغير ذلك، فالتراث ما يرثه الإنسان، أو ما يورثه الله الإنسان من المال فإن بني آدم يأكلونه أكلاً لما، وأما المال فقال: {وتحبون المال حبًّا جًّما} أي عظيماً، وهذا هو طبيعة الإنسان، لكن الإيمان له مؤثراته قد يكون الإنسان بإيمانه لا يهتم بالمال وإن جاءه شكر الله عليه، وأدى ما يجب وإن ذهب لا يهتم به، لكن طبيعة الإنسان من حيث هو كما وصفه الله عز وجل في هاتين الايتين.
{كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاَْرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَـنُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِى فِى عِبَادِى * وَادْخُلِى جَنَّتِى}.
{كلا إذا دكت الأرض دكًّا دكًّا. وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا. وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة {إذا دكت الأرض دكًّا دكًّا} حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، تُدك الجبال، ولا بناء، ولا أشجار، تمد الأرض كمد الأديم، يكون الناس عليها في مكان واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر في هذا اليوم {يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. يقول يا ليتني قدمت لحياتي} ولكن قد فات الأوان، لأننا في الدنيا في مجال العمل في زمن المهلة يمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره، كما قال مؤمن آل فرعون {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار} [غافر: 39]. متاع يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا، واعتبر ما يستقبل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا الان مخلوقون، فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعاً ويمضي جميعاً، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مستقرًّا، إلى الأجداث إلى القبور ومع هذا فإنها ليست محل استقرار لقول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر} [التكاثر: 1، 2]. سمع أعرابي رجلاً يقرأ هذه الاية فقال: (والله ما الزائر بمقيم ولابد من مفارقة لهذا المكان)، وهذا استنباط قوي وفهم جيد يؤيده الايات الكثيرة الصريحة في ذلك كقوله تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15، 16]. وذكر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال: {وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا} أي صفًّا بعد صف، {وجاء ربك} هذا المجيء هو مجيئه ـ عز وجل ـ لأن الفعل أسند إلى الله، وكل فعل يسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته كل ما أسنده الله إلى نفسه فهو له نفسه لا لغيره، وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عز وجل، وليس كما حرفه أهل التعطيل حيث قالوا إنه جاء أمر الله، فإن هذا إخراج للكلام عن ظاهره بلا دليل، فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلّم على ظاهره وأن لا نحرف فيه. ونقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا به لا ندري كيف يجيء؟ والسؤال عن مثل هذا بدعة كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حين سُئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ـ يعني العرق ـ لشدة هذا السؤال على قلبه، لأنه سؤال عظيم سؤال متنطع، سؤال متعنت أو مبتدع يريد السوء، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، الشاهد الكلمة الأخيرة ـ السؤال عنه بدعة ـ واعتبر هذا في جميع صفات الله فلو سألنا سائل قال: إن الله يقول: {لما خلقت بيدي} [ص 75]. يعني آدم، كيف خلقه بيده؟ نقول: هذا السؤال بدعة، قال: أنا أريد العلم لا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي فأريد أن أعلم كيف خلقه؟ نقول: نحن نسألك أسئلة سهلة هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم؟ إما أن يقول نعم، وإما أن يقول لا، والمتوقع أن يقول لا. هل الذي وجهت إليه السؤال أعلم بكيفية صفات الله عز وجل أم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ سيقول: الرسول، إذاً الصحابة أحرص منك على العلم والمسؤول الذي يوجه إليه السؤال أعلم من الذي تسأله ومع ذلك ما سألوا؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عز وجل، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامنا وعقولنا بكيفيات صفاته، والله عز وجل يقول في كتابه في الأمور المعقولة {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110]. وفي الأمور المحسوسة: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103]. فنقول: يا أخي إلزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده؟ فإن هذا السؤال بدعة، وكذلك بقية الصفات لو سأل كيف عين الله عز وجل؟ قلنا له: هذا بدعة، لو سأل كيف يد الله عز وجل قلنا: هذا بدعة وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عز وجل. لما قال هنا في الاية الكريمة {وجاء ربك} وسأل كيف يجيء؟ نقول: هذا بدعة ـ هذه القاعدة التزموها ـ وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع متنطع، سائل عما لا يمكن الوصول إليه، فموقفنا من مثل هذه الاية {وجاء ربك} أن نؤمن بأن الله يجيء لكن على أي كيفية الله؟ الله أعلم. والدليل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. فنحن نعلم النفي ولا نعلم الإثبات، يعني نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر، ولكننا لا نثبت كيفيته وهذا هو الواجب علينا، وقوله: {الملك} (ال) هنا للعموم يعني جميع الملائكة يأتون ينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية وهلم جرا يحيطون بالخلق إظهاراً للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يميناً ولا شمالاً لكن إظهاراً لعظمة الله وتهويلاً لهذا اليوم العظيم، تنزل الملائكة يحيطون بالخلق، وهذا اليوم يوم مشهود يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء {وإذا الوحوش حشرت} [التكوير: 5]. فهو يوم عظيم لا ندركه الان ولا نتصوره لأنه أعظم مما نتصور. الأمر الثالث مما به الإنذار في هذا اليوم بعد أن عرفنا الأمر الأول وهو مجيء الله، ثم صفوف الملائكة قال: {وجيء يومئذ بجهنم} {جيء يومئذ} ولم يذكر الجائي لكن قد دلت السنة أنه يؤتى بالنار تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام منها يقوده سبعون ألف ملك، وما أدراك ما قوة الملائكة؟ قوة ليست كقوة البشر، ولا كقوة الجن بل هي أعظم وأعظم بكثير، ولهذا لما قال عفريت من الجن لسليمان {أنا آتيك به} بعرش بلقيس {قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرًّا عنده} [النمل: 39، 40]. قال العلماء: لأن الرجل هذا دعا الله، فحملته الملائكة من اليمن فجاءت به إلى سليمان في الشام، فقوة الملائكة عظيمة، وهم يجرون هذه النار بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، إذاً هي عظيمة، هذه النار إذا رأت أهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، وليست كزفير الطائرات أو المعدات، زفير تنخلع منه القلوب، {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير} [الملك: 8]. وقال الله عز وجل: {تكاد تميز من الغيظ} تكاد تقطع من شدة الغيظ على أهلها، فلهذا أنذرنا الله تعالى منها فهذه ثلاثة أمور كلها إنذار: مجيء الرب جل جلاله، صفوف الملائكة، الثالث: الإتيان بجهنم. {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} يعني إذا جاء الله في يوم القيامة، وجاء الملك الملائكة صفوفاً صفوفاً، وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان، يتذكر أنه وعد بهذا اليوم، وأنه أعلم به من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنذروا وخوفوا، ولكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية، حينئذ يتذكر لكن يقول الله عز وجل {وأنى له الذكرى} أين يكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أخبر عنه يقيناً؟! وأنى له الاتعاظ فات الأوان؟! والإيمان عن مشاهدة لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد، الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]. فيصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل وعن اليوم الاخر، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان ولكن قال الله عز وجل: {أنى له الذكرى} أي بعيد أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق يقول الإنسان: {يا ليتني قدمت لحياتي} يتمنى أنه قدم لحياته وما هي حياته؟ أهي حياة الدنيا؟ لا والله، الحياة الدنيا انتهت وقضت، وليست الحياة الدنيا حياة في الواقع، الواقع أنها هموم وأكدار، كل صفو يعقبه كدر، كل عافية يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرق، انظروا ما حصل أين الاباء؟ أين الإخوان؟ أين الأبناء؟ أين الأزواج؟ هل هذه حياة؟ ولهذا قال بعض الشعراء الحكماء:
لا طيب للعيش مادامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين: إما الموت، وإما الهرم، نحن نعرف أناساً كانوا شباباً في عنفوان الشباب عُمّروا لكن رجعوا إلى أرذل العمر، يَرقُ لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم، وعندهم من الأهل ما عندهم، لكنهم في حالة بؤس، وهكذا كل نسان إما أن يموت مبكراً، وإما أن يُعمّر فيرد إلى أرذل العمر فهل هذه حياة؟ الحياة هي ما بينه الله عز وجل: {وإن الدار الاخرة لهي الحيوان} يعني لهي الحياة التامة {لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]. يقول هذا: {يا ليتني قدمت لحياتي} يتمني لكن لا يحصل {أنى له الذكرى}. قال تعالى: {فيومئذ لا يعذِّب عذابه أحد، ولا يُوثَق وثاقه أحد} فيها قراءتان: الأولى {لا يعذِّب عذابه أحد ولا يوثِقُ وَثاقه أحد} أي لا يعذب عذاب الله أحد، بل عذاب الله أشد، ولا يوثق وثاق الله أحد، بل هو أشد. القراءة الثانية: {لا يعذَّب عذابه أحد ولا يُوثَق وثاقه أحد} يعني في هذا اليوم لا أحد يعذب عذاب هذا الرجل، ولا أحد يوثق وثاقه، ومعلوم أن هذا الكافر لا يعذب أحد عذابه في ذلك اليوم، لأنه يُلقى على أهل النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون إلى النار كأنها السراب، والسراب هو ما يشاهده الإنسان في أيام الصيف في شدة الحر من البقاع حتى يخيل إليه أنه الماء، ينظرون إلى النار كأنها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها يذهبون إليها سراعاً يريدون أي شيء؟ يريدون الشرب، فإذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: {ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا} [الزمر: 71]. قد قامت عليكم الحجة فيوبخونهم قبل أن يدخلوا النار، والتوبيخ عذاب قلبي وألم نفسي قبل أن يذوقوا ألم النار، وفي النار يوبخهم الجبار عز وجل توبيخاً أعظم من هذا. ويقولون {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} قال الله تعالى وهو أرحم الراحمين: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 106 ـ 108]. أبلغ من هذا الإذلال {اخسئوا فيها ولا تكلمون} يقوله أرحم الراحمين، فمن يرحمهم بعد الرحمن؟! لا راحم لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن أهون أهل النار عذاباً من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى أن أحداً أشد منه عذاباً يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم عذاباً، وعليه نعلان يغلي منهما الدماغ، النعلان في أسفل البدن والدماغ في أعلاه، فإذا كان أعلى البدن يغلي من أسفله، فالوسط من باب أشد ـ أجارنا الله وإياكم من النار ـ {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} لأنهم ـ والعياذ بالله ـ يوثقون {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} [الحاقة: 32]. أدخلوه في هذه السلسلة تغل أيديهم ـ نسأل الله العافية ـ ولا أحد يتصور الان ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب. إذن على الإنسان أن يستعد قبل أن {يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب ويشرح الصدر فقال: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} {ارجعي إلى ربك} يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فتستبشر وتفرح، ويسهل خروجها من البدن، لأنها بشرت بما هو أنعم مما في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، سوط الإنسان العصا القصير، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والملك، والرفاهية وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيم لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. {النفس المطمئنة} يعني المؤمنة الامنة، لأنك لا تجد نفسًا أطمن من نفس المؤمن أبداً، المؤمن نفسه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلّم من المؤمن قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سَّراء شكر فكان خيراً له»، مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئناً، لكن الكافر أو ضعيف الإيمان لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جزع وسخط، ورأى أنه مظلوم من قبل الله ـ والعياذ بالله ـ حتى إن بعضهم ينتحر ولا يصبر، ولا يطمئن، بل يكون دائماً في قلق، ينظر إلى نفسه وإذا هو قليل المال، قليل العيال ليس عنده زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول: أنا لست في نعمة، لأن فلانًا عنده مال، عنده زوجات، عنده أولاد، عنده قبيلة تحميه، أنا ليس عندي، فلا يرى لله عليه نعمة، لأنه ضعيف الإيمان فليس بمطمئن، دائماً في قلق، ولهذا نجد الناس الان يذهبون إلى كل مكان ليرفهوا عن أنفسهم ليزيلوا عنها الألم والتعب، لكن لايزيل ذلك حقاًّ إلا الإيمان، الإيمان الحقيقي الذي يؤدي إلى الطمأنينة، فالنفس المطمئنة هي المؤمنة، مؤمنة في الدنيا، آمنة من عذاب الله يوم القيامة، قال بعض السلف كلمة عجيبة قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم، لا يوجد أحد أنعم منهم في الظاهر يعني نعومة الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوب مرقع، وكوخ لا يحميه من المطر، ولا من الحر، ولكنه مؤمن، دنياه ونعيمه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك، لأن قلبه مستنير بنور الله، بنور الإيمان، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حبس وأوذي في الله عز وجل، فلما أدخل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [الحديد: 13]. يقول هذا تحدثاً بنعمة الله لا افتخاراً ثم قال: (ما يصنع أعدائي بي ـ أي شيء يصنعون ـ إن جنتي في صدري ـ أي الإيمان والعلم واليقين ـ وإن حبسي خلوة، ونفيي ـ إن نفوه من البلد ـ سياحة وقتلي شهادة) هذا هو اليقين، هذه الطمأنينة، والإنسان لو دخل الحبس كان يفكر ما مستقبلي، ما مستقبل أولادي، وأهلي، وقومي، وشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: (جنتي في صدري) وصدق. ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان: 56]. يعني في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ومعلوم أن الجنة لا موت فها لا أولى ولا ثانية، لكن لما كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والاخرة كلها جنة وليس فيها إلا موتة واحدة. {راضية} بما أعطاك الله من النعيم {مرضية} عند الله عز وجل كما قال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} [المجادلة: 22]. {فادخلي في عبادي} أي: ادخلي في عبادي الصالحين، من جملتهم، لأن الصالحين من عباد الله الذين أنعم الله عليهم، الذين هم خير طبقات البشر، والبشر طبقاته ثلاث: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون، وكل هذه الطبقات مذكورة في سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
الطبقة الأولى: الذين أنعم الله عليهم وهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون.
والثانية: {المغضوب عليهم} وهم اليهود وأشباه اليهود من كل من علم الحق وخالفه، فكل من علم الحق وخالفه ففيه شبه من اليهود، كما قال سفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.
والثالثة: {الضالون} وهم النصارى الذين جهلوا الحق، أرادوه لكن عموا عنه، ما اهتدوا إليه، قال ابن عيينة: وكل من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العبّاد يريدون الخير يريدون العبادة لكن لا علم عندهم، فهم ضالون.
{ادخلي في عبادي} أي الطبقة الأولى المنعم عليهم. {وادخلي جنتي} أي جنته التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، وإعلاماً للخلق بعنايته بها جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقاً غير خلق الدنيا، خلق لنا في الدنيا فاكهة، ونخل، ورمان، وفي الجنة فاكهة، ونخل، ورمان ولكن ما في الجنة ليس كالذي في الدنيا أبداً، لأن الله يقول: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17]. ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم، إذاً هو مثله في الاسم، لكن ليس مثله في الحقيقة ولا في الكيفية ولهذا قال: {ادخلي جنتي} فأضافها الله إلى نفسه للدلالة على شرفها وعناية الله بها، وهذا يوجب للإنسان أن يرغب فيها غاية الرغبة، كما أنه يرغب في بيوت الله التي هي المساجد، لأن الله أضافها إلى نفسه، فكذلك يرغب في هذه الدار التي أضافها الله إلى نفسه، والأمر يسير، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلّم: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال: لقد سألت عن عظيم، وهو عظيم، {فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 185]. وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وذكر الحديث، فالدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الأمّارة بالسوء، والشهوات، والشبهات، هي التي تحول بيننا وبين ديننا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الاخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

صقر قريش 09-02-2009 06:58 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم البلد محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{لاَ أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـنَ فِى كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَـهُ النَّجْدَينِ}.
البسملة: تقدم الحديث عليها.
{لا أقسم بهذا البلد} {لا} للاستفتاح، أي: استفتاح الكلام وتوكيده، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني أنا أقسم بهذا البلد لكن (لا) هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد و{أقسم} القسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص. فكل شيء محلوف به لابد أن يكون معظماً لدى الحالف، وقد لا يكون معظمًا في حد ذاته. فمثلاً الذين يحلفون باللات والعزى هي معظمة عندهم، لكن هي في الواقع ليست عظيمة ولا معظمة. فالحلف، أو القسم، أو اليمين المعنى واحد، هي تأكيد الشيء بذكر معظم عند الحالف على صفة مخصوصة. وحروف القسم هي: الباء، والواو، والتاء، والذي في الاية الكريمة هنا {لا أقسم بهذا البلد} (الباء). {بهذا البلد} البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل، ولهذا بعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فجدير بهذا البلد الأمين أن يقسم به. ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق. كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»، أما الله عز وجل فإنه سبحانه يقسم بما شاء، ولهذا أقسم هنا بمكة {لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد} قيل المعنى: أقسم بهذا البلد حال كونك حالاًّ فيه، لأن حلول النبي صلى الله عليه وسلّم في مكة يزيدها شرفاً إلى شرفها. وقيل المعنى: وأنت تستحل هذا البلد، فيكون إقسام الله تعالى بمكة حال كونها حلاًّ للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح؛ لأن مكة عام الفتح أُحلت للرسول عليه الصلاة والسلام ولم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعد ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: «وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس»، فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيداً بما إذا كانت حلاًّ للرسول صلى الله عليه وسلّم عـام الفتـح؛ لأنهـا في ذلك اليـوم تزداد شرفاً إلى شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام وهزم المشركون، وفتحت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلد كفر صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بـلاد شرك صـارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حال لمكة كانت عند الفتح. {ووالد وما ولد} يعني وأقسم بالوالد وما ولد، فمن المراد بالوالد ومن المراد بالولد؟
قيل: المراد بالوالد آدم، وبالولد بنو آدم وعلى هذا تكون (ما) بمعنى (من) أي: ووالد ومن ولد، لأن (من) للعقلاء، و(ما) لغير العقلاء.
وقيل: المراد بالوالد وما ولد كل والد وما ولد، الإنسان والبهائم وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عز وجل، كيف يخرج هذا المولود حيًّا سويًّا سميعاً بصيراً من نطفة من ماء، فهذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل، هذا الولد السوي يخرج من نطفة {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [يس: 77]. كذلك الحشرات وغيرها تخرج ضعيفة هزيلة، ثم تكبر إلى ما شاء الله تعالى من حد. والصحيح أن هذه عامة تشمل كل والد وكل مولود {لقد خلقنا الإنسان في كبد} اللام هنا واقعة في جواب القسم، لتزيد الجملة تأكيداً، و(قد) تزيد الجملة تأكيداً أيضاً فتكون جملة {لقد خلقنا الإنسان} مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم، واللام، وقد. {خلقنا الإنسان} الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم {في كبد} فيها معنيان:
المعنى الأول: في استقامة، يعني أنه خلق على أكمل وجه في الِخلقة، مستقيماً يمشي على قدميه، ويرفع رأسه، وبدنه معتدلاً. والبهائم بالعكس الرأس على حذاء الدبر، أما بنو آدم فالرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}. [التين: 4].
وقيل: المراد بـ{كبد} مكابدة الأشياء ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، وفي طلب الرزق، وفي إصلاح الحرث وغير ذلك. ويعاني أيضاً معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا الجهاد الذي هو أشق من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتلي الإنسان ببيئة منحرفة وصار بينهم غريباً، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضاً.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن تكون الاية شاملة للمعنيين؟
فالجواب: بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدت في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضة فاحملها على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح. فمثلاً، قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. (قروء) جمع قرء بفتح القاف فما هو (القرء)؟ قيل: هو الحيض، وقيل: هو الطهر. هنا لا يمكن أن تحمل الاية على المعنيين جميعاً للتناقض، لكن اطلب المرجح لأحد القولين وخذ به. فهنا نقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} يصح أن تكون الاية شاملة للمعنيين أي في حسن قامة واستقامة، و{في كبد} في معاناة لمشاق الأمور. {أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} أي: أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يقدر عليه أحد، لأنه في عنفوان شبابه وقوته وكبريائه وغطرسته، فيقول لا أحد يقدر علي، أنا أعمل ما شئت، ومنه قوله تبارك وتعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة}. قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15]. إذاً، فالإنسان في حال صحته وعنفوان شبابه يظن أنه لا يقدر عليه أحد، حتى الرب عز وجل يظن أنه لا يقدر عليه، وهذا لا شك بالنسبة للكافر، أما المؤمن فإنه يعلم أن الله قادر عليه، وأنه على كل شيء قدير فيخاف منه. {يقول} أي يقول الإنسان أيضاً في حال غناه وبسط الرزق له {أهلكت مالاً لبداً} أي: مالاً كثيراً في شهواته وفي ملذاته. يقول الله عز وجل: {أيحسب أن لم يره أحد} أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال، وصرفه في ما لا ينفع، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس، وأن يستكبر من أجل قوته البدنية، أو كثرة ماله. قال الله تعالى: {ألم نجعل له عينين. ولساناً وشفتين. وهديناه النجدين}. هذه ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان {ألم نجعل له عينين} يعني يبصر بهما ويرى فيهما، وهاتان العينان تؤديان إلى القلب ما نظر إليه الإنسان، فإن نظر نظرة محرمة كان آثماً، وإن نظر نظراً يقربه إلى الله كان غانماً، وإذا نظر إلى ما يباح له فإنه لا يحمد ولا يذم ما لم يكن هذا النظر مفضياً إلى محظور شرعي فيكون آثماً بهذا النظر. {ولساناً وشفتين} لساناً ينطق به، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذه من نعم الله العظيمة، لأنه بهذا اللسان والشفتين يستطيع أن يعبر عما في نفسه، ولولا هذا ما استطاع، لو كان لا يتكلم فكيف يعبر عما ما في قلبه؟ كيف يعلم الناس بما في نفسه؟ اللهم إلا بإشارة تتعب، يتعب المشير ويتعب الذين أشير إليهم. ولكن من نعمة الله أن جعل له لساناً ناطقاً، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذا من نعمة الله، وهو أيضاً من عجائب قدرته: يأتي النطق من هواء يكون من الرئة يخرج من مخارج معينة، إن مر بشيء صار حرفاً، وإن مر بشيء آخر صار حرفاً آخر، وهو هواء واحد من مخرج واحد، لكن يمر بشعيرات دقيقة في الحلق، وفي الشفتين، وفي اللثة هذه الشعرات تكون الحروف. فتجد مثلاً الباء والشين كلها بهواء يندفع من الرئة ومع ذلك تختلف باختلاف ما تمر عليه في هذا الفم، ومخارج الحروف المعروفة، هذا من تمام قدرة الله عز وجل. {وهديناه النجدين} قيل: أي بينا له طريق الخير، وطريق الشر. القول الثاني: {هديناه النجدين} دللناه على ما به غذاؤه وهو الثديان؛ فإنهما نجدان لارتفاعهما فوق الصدر، فهداه الله تعالى وهو رضيع لا يعرف، فمن حين أن يخرج وتضعه أمه يطلب الثدي، والذي أعلمه الله عز وجل، فبين الله عز وجل منته على هذا الإنسان من حين أن يخرج يهتدي إلى النجدين. وفي بطن أمه يتغذى عن طريق السرة؛ لأنه لا يستطيع أن يتغذى من غير هذا، فلو تغذى عن طريق الفم لاحتاج إلى بول وغائط، وكيف ذلك؟ لكنه عن طريق السرة يأتيه الدم من دم أمه وينتشر في عروقه حتى يحيا إلى أن يأذن الله تعالى بإخراجه.
{فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَايَـتِنَا هُمْ أَصْحَـبُ الْمَشْـَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ}.
{فلا اقتحم العقبة} أي الإنسان الذي كان يقول {أهلكت مالاً لبداً} {فلا اقتحم العقبة} يعني هلا اقتحم العقبة؟ والاقتحام هو التجاوز بمشقة يسمى اقتحاماً. و{العقبة} هي الطريق في الجبل الوعر ولا شك أن اقتحام هذه العقبة شاق على النفوس، لا يتجاوزه أو لا يقوم به إلا من كان عنده نية صادقة في تجاوز هذه العقبة. {وما أدراك ما العقبة} هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضاً، يعني: ما الذي أعلمك شأن هذه العقبة التي قال الله عنها {فلا اقتحم العقبة} بينها الله في قوله {فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا} فقوله: {فك رقبة} هي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: «هي فك رقبة» وفك الرقبة له معنيان:
المعنى الأول: فكها من الرق، بحيث يعتق الإنسان العبيد المملوكين سواء كانوا في ملكه فيعتقهم، أو كانوا في ملك غيره فيشتريهم ويعتقهم.
المعنى الثاني: فك رقبة من الأسير، فإن فكاك الأسير من أفضل الأعمـال إلى الله عز وجل. والأسير ربما لا يفكه العدو إلا بفدية مالية، وربما تكون هذه الفدية فدية باهظة كثيرة لا يقتحمها إلا من كان عنده إيمان بالله عز وجل بأن يخلف عليه ما أنفق، وأن يثيبه على ما تصدق. {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} {أو} هذه للتنويع يعني وإما {إطعام في يوم ذي مسغبة} أي: ذي مجاعة شديدة، لأن الناس قد يصابون بالمجاعة الشديدة، إما لقلة الحاصل من الثمار والزروع، وإما لأمراض في أجسامهم يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا قد وقع فيما نسمع عنه في البلاد النجدية وربما في غيرها أيضاً. أن الناس يأكلون ولا يشبعون، يأكل الواحد مأكل العشرة ولا يشبع، ويموتون من الجوع في الأسواق ويتساقطون في الأسواق من الجوع، هذه من المساغب. أو قلة المحصول بحيث لا تثمر الأشجار، ولا تنبت الزروع، فيقل الحاصل وتحصل المسغبة، ويموت الناس جوعاً، وربما يهاجرون عن بلادهم. {يتيماً} اليتيم هو من مات أبوه قبل أن يبلغ سواءً كان ذكراً أم أنثى. فإن بلغ فإنه لا يكون يتيماً؛ لأنه بلغ وانفصل. وكذلك لو ماتت أمه فإنه لا يكون يتيماً، خلافاً لما يظنه بعض العامة، أن اليتيم من ماتت أمه وهذا ليس بصحيح، فاليتيم من مات أبوه؛ لأنه إذا مات أبوه لم يكن له كاسب من الخلق يكسب له. وقوله: {ذا مقربة} ذا قرابة من الإنسان لأنه إذا كان يتيماً كان له حظ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريباً ازداد حظه من ذلك؛ لأنه يكون واجب الصلة، فمن جمع هذين الوصفين اليتم والقرابة فإن الإنفاق عليه من اقتحام العقبة إذا كان ذلك في يوم ذي مسغبة. {أو مسكيناً ذا متربة} يعني: أو إطعام في يوم ذي مسغبة {مسكيناً ذا متربة}، المسكين: هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله. المتربة: مكان التراب، والمعنى: أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب. ومعلوم أنه إذا قيل عن الرجل: ليس عنده إلا التراب، فالمعنى: أنه فقير جداً ليس عنده طعام، وليس عنده كساء، وليس عنده مال فهو مسكين ذو متربة. {ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} {ثم كان} يعني: ثم هو بعد ذلك ليس محسناً على اليتامى والمساكين فقط، بل هو ذو إيمان، آمن بكل ما يجب الإيمان به. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي يجب الإيمان به، فقال حين سأله جبريل عن الإيمان: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره». وقوله: {وتواصوا بالصبر} أي: أوصى بعضهـم بعضاً بالصبر، والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، فهم صابرون متواصون بالصبر بهذه الأنواع: الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة. وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة، في الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام صابر على طاعة الله، يجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، ويؤذى ويعتدى عليه بالضرب، حتى هم المشركون بقتله وهو مع ذلك صابر محتسب، وهو أيضاً صابر عن معصية الله، لا يمكن أن يغدر بأحد، ولا أن يكذب أحداً، ولا أن يخون أحداً، وهو أيضاً متق لله تعالى بقدر ما يستطيع. كذلك صابر على أقدار الله، كم أوذي في الله عز وجل من أجل طاعته، أليست قريش قد آذوه حتى إذا رأوه ساجداً تحت الكعبة أمروا من يأتي بسلا ناقة فيضعه على ظهره، وهو ساجد عليه الصلاة والسلام؟! وهو صابر في ذلك كله. ويوسف عليه الصلاة والسلام، صبر على أقدار الله فقد أُلقي في البئر في غيابة الجب، وأوذي في الله بالسجن، ومع ذلك فهو صابر محتسب لم يتضجر ولم ينكر ما وقع به. وقوله: {وتواصوا بالمرحمة} أي: أوصى بعضهم بعضاً أن يرحم الاخر، ورحمة الإنسان للمخلوقات تكون في البهائم وتكون في الناطق. فهو يرحم آباءَه، وأمهاته، وأبناءَه، وبناته، وإخوانه، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وهكذا. ويرحم كذلك سائر البشر، وهو أيضاً يرحم الحيوان البهيم فيرحم ناقته، وفرسه، وحماره، وبقرته، وشاته، وغير ذلك، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». {أولئك} أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات {أصحاب الميمنة} أي: أصحاب اليمين، الذين يُؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً. ثم قال عز وجل: {والذين كفروا بآياتنا} أي: جحدوا بها {هم أصحاب المشئمة} {هم}: الضمير هنا جاء للتوكيد، ولو قيل في غير القرآن: والذين كفروا بآياتنا أصحاب المشئمة. لصح لكن هذا من باب التوكيد. {المشئمة} يعني: الشمال أو الشؤم. {عليهم نار مؤصدة} أي عليهم نار مغلقة، لا يخرجون منها ولا يستطيعون، نسأل الله أن يجعلنا من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة إنه سميع مجيب.

صقر قريش 09-02-2009 06:58 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الشمس محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالشَّمْسِ وَضُحَـهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلـهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّـهَا * وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَـهَا * وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـهَا * وَالاَْرْضِ وَمَا طَحَـهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـهَا}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والشمس وضحاها} أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وهو ضؤها لما في ذلك من الايات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وكمال علمه ورحمته. فإن في هذه الشمس من الايات ما لا يدركه بعض الناس، فإذا طلعت الشمس فكم توفر على العالم من طاقة كهربائية؟ توفر آلاف الملايين، لأنهم يستغنون بها عن هذه الطاقة، وكم يحصل للأرض من حرارتها، من نضج الثمار، وطيب الأشجار، ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويحصل فيها فوائد كثيرة لا أستطيع أن أعدها؛ لأن غالبها يتعلق في علم الفلك وعلم الأرض والجيولوجيا لكنها من آيات اللهالعظيمة.
{والقمر إذا تلاها}. قيل: إذا تلاها في السير.
وقيل: إذا تلاها في الإضاءة، ومادامت الاية تحتمل هذا وهذا فإن القاعدة في علم التفسير أن الاية إذا احتملت معنيين لا تعارض بينهما وجب الأخذ بهما جميعاً، لأن الأخذ بالمعنيين جميعاً أوسع للمعنى. فنقول: إذا تلاها في السير؛ لأن القمر يتأخر كل يوم عن الشمس، فبينما تجده في أول الشهر قريباً منها في المغرب، إذا هو في نصف الشهر أبعد ما يكون عنها في المشرق، لأنه يتأخر كل يوم. أو إذا تلاها في الإضاءة، لأنها إذا غابت بدأ ضوء القمر لاسيما في الربع الثاني إلى نهاية الربع الثالث فإن ضوء القمر يكون بيناً واضحاً. يعني: إذا مضى سبعة أيام إلى أن يبقى سبعة أيام يكون الضوء قويًّا، وأما في السبعة الأولى والأخيرة فهو ضعيف، وعلى كل حال فإن إضاءة القمر لا تكون إلا بعد ذهاب ضوء الشمس كما هو ظاهر. فأقسم الله تعالى بالشمس لأنها آية النهار، وبالقمر لأنه آية الليل. {والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها} متقابلات، {والنهار إذا جلاها} إذا جلى الأرض وبينها ووضحها؛ لأنه نهار تتبين به الأشياء وتتضح {والليل إذا يغشاها} إذا يغطي الأرض حتى يكون كالعباءة المفروشة على شيء من الأشياء، وهذا يتضح جلياً فيما إذا غابت الشمس وأنت في الطائرة تجد أن الأرض سوداء تحتك، لأنك أنت الان تشاهد الشمس لارتفاعك، لكن الأرض التي تحتك حيث غربت عليها الشمس تجدها سوداء كأنها مغطاة بعباءة سوداء وهذا معنى قوله: {والليل إذا يغشاها}. {والسماء وما بناها. والأرض...} السماء والأرض متقابلات. {والسماء وما بناها} قال المفسرون: إن {ما} هنا مصدرية أي: والسماء وبنائها؛ لأن السماء عظيمة بارتفاعها وسعتها وقوتها، وغير ذلك مما هو من آيات الله فيها، وكذلك بناؤها بناء محكم، كما قال تبارك وتعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور. ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}. [الملك: 3، 4]. {والأرض وما طحاها} يعني: الأرض وما سواها حتى كانت مستوية، وحتى كانت ليست لينة جداً، وليست قوية صلبة جداً، بل هي مناسبة للخلق على حسب ما تقوم به حوائجهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده أن سوى لهم الأرض وجعلها بين اللين والخشونة إلا في مواضع لكن هذا القليل لا يحكم به على الكثير. {ونفس وما سواها} نفس هنا وإن كانت واحدة لكن المراد العموم. يعني كل نفس {وما سواها} يعني سواها خِلقة وسواها فطرة، سواها خلقة حيث خلق كل شيء على الوجه الذي يناسبه ويناسب حاله. قال الله تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه} أي خلقه المناسب له {ثم هدى} [طه: 50]. أي: هداه لمصالحه، وكذلك سواه فطرة ولا سيما البشر فإن الله جعل فطرتهم هي الإخلاص والتوحيد كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها}. [الروم: 30]. {فألهمها} أي الله عز وجل ألهم هذه النفوس {فجورها وتقواها} بدأ بالفجور قبل التقوى مع أن التقوى لا شك أفضل، قالوا: مراعاة لفواصل الايات. {فجورها وتقواها} الفجور هو ما يقابل التقوى، والتقوى طاعة الله، فالفجور معصية الله، فكل عاص فهو فاجر. وإن كان الفاجر خصَّ عرفاً بأنه من ليس بعفيف، لكن هو شرعاً يعم كل من خرج عن طاعة الله كما قال تعالى: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} [المطففين: 7].والمراد الكفار. وألهامها تقواها هو الموافق للفطرة؛ لأن الفجور خارج عن الفطرة، لكن قد يلهمه الله بعض النفوس لانحرافها لقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5]. والله تعالى لا يظلم أحدًا، لكن من علم منه أنه لا يريد الحق أزاغ الله قلبه. {قد أفلح من زكاها} {قد أفلح} أي: فاز بالمطلوب ونجا من المرهوب، {من زكاها} أي: من زكى نفسه، وليس المراد بالتزكية هنا التزكية المنهي عنها في قوله: {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم: 32]. المراد بالتزكية هنا: أن يزكي نفسه بإخلاصها من الشرك وشوائب المعاصي، حتى تبقى زكية طاهرة نقية. {وقد خاب من دساها} أي من أرداها في المهالك والمعاصي، وهذا يحتاج إلى دعاء الله سبحانه وتعالى أن يثبت الإنسان على طاعته، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة. فعليك دائماً أن تسأل الله الثبات والعلم النافع، والعمل الصالح فإن الله تعالى قال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. [البقرة: 186].
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَـهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَـهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـهَا}.
{كذبت ثمود بطغواها} {كذبت ثمود} ثمود اسم قبيلة ونبيهم صالح عليه الصلاة والسلام، وديارهم في الحجر معروفة في طريق الناس، هؤلاء كذبوا نبيهم صالًحا. ونبيهم صالح عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأعطاه الله سبحانه آية تدل على نبوته وهي الناقة العظيمة التي تشرب من البئر يوماً وتسقيهم لبناً في اليوم الثاني. وقد قال بعض العلماء: إنه كلما جاء إنسان وأعطاها من الماء بقدر أعطته من اللبن بقدره، ولكن الذي يظهر من القرآن خلاف ذلك. لقوله تعالى: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} [الشعراء: 155]. فالناقة تشرب من البئر يوماً، ثم تدر اللبن في اليوم الثاني، ولكن لم تنفعهم هذه الاية: {كذبت ثمود بطغواها} أي بطغيانها وعتوها، والباء هنا للسببية، أي: بسبب كونها طاغية كذبت الرسول. {إذ انبعث أشقاها} هذا بيان للطغيان الذي ذكره الله عز وجل وذلك حين انبعث أشقاها. و{انبعث} يعني: انطلق بسرعة. {أشقاها} أي أشقى ثمود أي: أعلاهم في الشقاء ـ والعياذ بالله ـ يريد أن يقضي على هذه الناقة. فقال لهم صالح: {ناقة الله وسقياها} أي ذروا ناقة الله، لقوله تعالى في آية أخرى: {فذروها تأكل في أرض الله} [الأعراف: 73]. يعني اتركوا الناقة لا تقتلوها ولا تتعرضوا لها بسوء ولكن كانت النتيجة بالعكس. {فكذبوه} أي: كذبوا صالحاً وقالوا: إنك لست برسول، وهكذا كل الرسل الذين أرسلوا إلى أقوامهم يصمهم أقوامهم بالعيب. كما قال الله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون}. [الذاريات: 52]. كل الرسل قيل لهم هذا ساحر أو مجنون، كما قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه ساحر، كذاب، مجنون، شاعر، كاهن، ولكن ألقاب السوء التي يلقبها الأعداء لأولياء الله لا تضرهم، بل يزدادون بذلك رفعة عند الله سبحانه وتعالى، وإذا احتسبوا الأجر أثيبوا على ذلك. فيقول عز وجل: {فعقروها} أي: عقروا الناقة عقراً حصل به الهلاك. {فدمدم عليهم ربهم} يعني: أطبق عليهم فأهلكهم كما تقول: دمدمت البئر: أي أطبقت عليها التراب. {بذنبهم} أي: بسبب ذنوبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فالذنوب سبب للهلاك والدمار والفساد لقول الله تبارك وتعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41]. وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}. [الإسراء: 16]. وقال الله تعالى يخاطب أشرف الخلق وخير القرون: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. [آل عمران: 165]. فالإنسان يصاب بالمصائب من عند نفسه، ولهذا قال: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم} أي: بسبب ذنبهم. {فسواها} أي: عمها بالهلاك حتى لم يبق منهم أحد وأصبحوا في ديارهم جاثمين. {ولا يخاف عقباها} يعني: أن الله لا يخاف من عاقبة هؤلاء الذين عذبهم، ولا يخاف من تبعتهم، لأن له الملك وبيده كل شيء، بخلاف غيره من الملوك لو انتصروا على غيرهم، أو عاقبوا غيرهم تجدهم في خوف يخشون أن تكون الكرة عليهم. أما الله عز وجل فإنه لا يخاف عقباها. أي: لا يخاف عاقبة من عذبهم، لأنه سبحانه وتعالى له الملك كله، والحمد كله، فسبحانه وتعالى ما أعظمه، وما أجل سلطانه.

صقر قريش 09-02-2009 06:59 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الليل محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والليل إذا يغشى} أقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا يغشى يعني حين يغشى الأرض ويغطيها بظلامه، لأن الغشاء بمعنى الغطاء. {والنهار إذا تجلى} أي: إذا ظهر وبان، وذلك بطلوع الفجر الذي هو النور الذي هو مقدمة طلوع الشمس، والشمس هي آية النهار كما أن القمر آية الليل. {وما خلق الذكر والأنثى} يعني وخَلْق الذكر والأنثى على أحد التفسيرين الذي جعل (ما) هنا مصدرية، والذي خَلَق الذكر والأنثى وهو الله عز وجل على التفسير الاخر. فعلى المعنى الأول: يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بخلق الذكر والأنثى. وعلى الثاني: يكون الله تعالى أقسم بنفسه، لأنه هو الذي خلق الذكر والأنثى. {إن سعيكم لشتى} يعني إن عملكم {لشتى} أي لمتفرق تفرقاً عظيماً.
فالله عز وجل أقسم بأشياء متضادة على أشياء متضادة: الليل ضد النهار، الذكر ضد الأنثى، السعي متضاد صالح وسيىء، فتناسب المقسم به والمقسم عليه، وهذا من بلاغة القرآن. فالمعنى أن اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى أمر ظاهر لا يخفى، فكذلك أعمال العباد متباينة متفاوتة، منها الصالح، ومنها الفاسد، ومنها ما يخلط صالحاً وفاسداً، كل ذلك بتقدير الله عز وجل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم فصّل هذا السعي المتفرق فقال: {فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى}. {فأما من أعطى} أي: أعطى ما أمر بإعطائه من مال، أو جاه، أو علم. {واتقى} اتقى ما أمر باتقائه من المحرمات. {وصدق بالحسنى} أي: صدق بالقولة الحسنى وهي قول الله عز وجل، وقول رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن أصدق الكلام، وأحسن الكلام كلام الله عز وجل. {فسنيسره لليسرى} السين: هنا للتحقيق أي: أن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسييسره الله عز وجل لليسرى في أموره كلها، في أمور دينه ودنياه، ولهذا تجد أيسر الناس عملاً هو من اتقى الله عز وجل، من أعطى واتقى وصدق بالحسنى. وكلما كان الإنسان أتقى لله كانت أموره أيسر له. قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسًرا}. [الطلاق: 4]. وكلما كان الإنسان أبعد عن الله كان أشد عسراً في أموره ولهذا قال: {وأما من بخل} فلم يعط ما أمر بإعطائه {واستغنى} استغنى عن الله عز وجل، ولم يتق ربه، بل رأى أنه في غنى عن رحمة الله. {وكذب بالحسنى} أي: بالقولة الحسنى، وهي قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {فسنيسره للعسرى} ييسر للعسرى في أموره كلها، ولكن قد يأتي الشيطان للإنسان فيقول: نجد أن الكفار تيسر أمورهم فيقال: نعم. قد تيسر أمورهم، لكن قلوبهم تشتعل ناراً وضيقاً وحرجاً كما قال تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}. [الأنعام: 125]. ثم ما ينعمون به فهو تنعيم جسد فقط، لا تنعيم روح، ثم هو أيضاً وبال عليهم لقول الله تعالى فيهم: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}. [الأعراف: 182، 183]. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». وتلا قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}. [هود: 102]. وهؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فإن هذه الدنيا جنة لهم بالنسبة للاخرة. وقد ذكروا عن ابن حجر العسقلاني شارح البخاري بالشرح الذي سماه (فتح الباري) وكان قاضي القضاة بمصر، أنه مر ذات يوم وهو على عربته تجره البغال والناس حوله، مر برجل يهودي سمان يعني: يبيع السمن والزيت، ومن المعلوم أن الذي يبيع السمن والزيت تكون ثيابه وسخة وحاله سيئة فأوقف العربة وقال لابن حجر: إن نبيكم يقول: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»، فكيف أنا أكون بهذه الحال وأنت بهذه الحال؟ فقال له ابن حجر على البديهة: أنا في سجن بالنسبة لما أعد الله للمؤمنين من الثواب والنعيم، لأن الدنيا بالنسبة للاخرة ليست بشيء كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، وأما أنت أيها اليهودي: فأنت في جنة بالنسبة لما أعد لك من العذاب إن مت على الكفر فاقتنع بذلك اليهودي وصار ذلك سبباً في إسلامه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
ثم قال عز وجل: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} يعني أي شيء يغني عنه ماله إذا بخل به وتردى هو. أي: هلك أي شيء يغني المال؟ لا يغني شيئاً.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلاَْخِرَةَ وَالاُْولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لاَ يَصْلَـهَآ إِلاَّ الاَْشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى * الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لاَِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
{إن علينا للهدى} فيه التزام من الله عز وجل أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه. والمراد بالهدىهنا: هدى البيان والإرشاد فإن الله تعالى التزم على نفسه بيان ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة وهذا في قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163]. إلى أن قال: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. [النساء: 165]. فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة الهدى، ولذلك التزم الله عز وجل بأن يبين الهدى للإنسان {إن علينا للهدى} وليُعلم أن الهدى نوعان:
1 ـ هدى التوفيق. فهذا لا يقدر عليه إلا الله.
2 ـ هدى إرشاد ودلالة، فهذا يكون من الله، ويكون من الخلق: من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن العلماء.
كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}. [الشورى: 52]. أما هداية التوفيق فهي إلى الله لا أحد يستطيع أن يوفق شخصاً إلى الخير كما قال الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. وإذا نظرنا إلى هذه الاية الكريمة {إن علينا للهدى} وجدنا أن الله تعالى بين كل شيء. بين ما يلزم الناس في العقيدة، وما يلزمهم في العبادة، وما يلزمهم في الأخلاق، وما يلزمهم في المعاملات، وما يجب عليهم اجتنابه في هذا كله. حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي: علمكم نبيكم حتى الخراءة، قال: أجل علمنا حتى الخراءة. يعني: حتى آداب قضاء الحاجة علمها النبي صلى الله عليه وسلّم أمته، ويؤيد هذا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.[المائدة: 3]. {وإن لنا للاخرة والأولى} يعني: لنا الاخرة والأولى. الأولى متقدمة على الاخرة في الزمن، لكنه في هذه الاية أخرها لفائدتين:
الفائدة الأولى: معنوية.
الفائدة الثانية: لفظية.
أما المعنوية فلأن الاخرة أهم من الدنيا، ولأن الاخرة يظهر فيها ملك الله تعالى تماماً. في الدنيا هناك رؤساء، وهناك ملوك، وهناك أمراء يملكون ما أعطاهم الله عز وجل من الملك، لكن في الاخرة لا ملك لأحد {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. فلهذا قدم ذكر الاخرة من أجل هذه الفائدة المعنوية.
أما الفائدة اللفظية: فهي مراعاة الفواصل يعني: أواخر الايات كلها آخرها ألف.
فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى قال: {إن علينا للهدى وإن لنا للاخرة والأولى} فما الفرق؟
الجواب: الفرق أن الهدى التزم الله تعالى ببيانه وإيضاحه للخلق، أما الملك فهو لله ملك الاخرة والأولى، ولهذا قال: {وإن لنا للاخرة والأولى} ثم قال عز وجل: {فأنذرتكم نارًا تلظى} {فأنذرتكم} يعني: خوفتكم {ناراً} يعني بها نار الاخرة. {تلظى} تشتعل، ولها أوصاف كثيرة في القرآن والسنة. {لا يصلاها إلا الأشقى} {لا يصلاها} يعني: لا يحترق بها {إلا الأشقى} يعني الذي قدرت له الشقاوة. والشقاوة ضد السعادة لقوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار} [هود: 106]. وقوله: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة} [هود: 108]. فالمراد بالأشقى يعني: الذي لم تكتب له السعادة، هذا هو الذي يصلى النار التي تلظى. ثم بين هذا بقوله: {الذي كذب وتولى} التكذيب في مقابل الخبر، والتولي في مقابل الأمر والنهي. فهذا كذب الخبر ولم يصدق، قيل له: إنك ستبعث. قال: لا أبعث. قيل له: هناك جنة ونار. قال: ليس هناك جنة ونار. قيل له: سيكون كذا وكذا، قال: ما يكون. هذا تكذيب. {تولى} يعني أعرض عن طاعة الله، وأعرض عما جاءت به رسله، فهذا هو الشقي. {وسيجنبها} أي: يجنب هذه النار التي تلظى {الأتقى} والأتقى اسم تفضيل من التقوى يعني: الذي اتقى الله تعالى حق تقاته. {الذي يؤتي ماله يتزكى} يعني: يعطي ماله من يستحقه على وجه يتزكى به، أي: يتطهر به، قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}. [التوبة: 103]. فقوله: {الذي يؤتي ماله يتزكى} يفيد أنه لا يبذر ولا يبخل، وإنما يؤتي المال على وجه يكون به التزكية، وضابط ذلك ما ذكره الله في سورة الفرقان {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً}. [الفرقان: 67]. نجد بعض الناس يعطيه الله مالاً، ولكنه يبخل يقتر حتى الواجب عليه لزوجته وأولاده وأقاربه لا يقوم به. ونرى بعض الناس قدر الله عليه الرزق وضيق عليه بعض الشيء، ومع هذا يذهب يتدين من الناس من أجل أن يكمل بيته حتى يكون مثل: بيت فلان وفلان، أو من أجل أن يشتري سيارة فخمة كسيارة فلان وفلان، وكلا المنهجين والطريقين منهج باطل. الأول: قصر. والثاني: أفرط. والواجب على الإنسان أن يكون إنفاقه بحسب حاله.
فإن قال قائل: هل يجوز أن يتدين الإنسان ليتصدق؟
فالجواب: لا. لأن الصدقة تطوع، والتزام الدّين خطر عظيم، لأن الدين ليس بالأمر الهين، فالإنسان إذا مات وعليه دين فإن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وكثير من الورثة لا يهتم بدين الميت، تجده يتأخر يماطل وربما لا يوفيه. وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قدمت إليه جنازة سأل هل عليه دين له وفاء؟ فإن قالوا لا، قال: «صلوا على صاحبكم». وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، فالدين أمره عظيم، لا يجوز للإنسان أن يتهاون به ثم قال: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى} يعني أنه لا يعطي المال مكافأة على نعمة سابقة من شخص فليس لأحد عليه فضل حتى يعطيه مكافأة، ولكنه يعطي ابتغاء وجه الله ولهذا قال: {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}. فهو لا ينفق إلا طلب وجه الله، أي طلب الوصول إلى دار كرامة الله التي يكون بها رؤية الله عز وجل. {ولسوف يرضى} يعني سوف يرضيه الله عز وجل بما يعطيه من الثواب الكثير وقد بين الله ذلك في قوله: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261]. نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء البررة الأطهار الكرام، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 06:59 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الضحى محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالضُّحَى * وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والضحى} {الضحى} هو أول النهار، وفيه النور والضياء {والليل إذا سجى} أي: الليل إذا غطى الأرض وسدل عليها ظلامه، فأقسم الله تعالى بشيئين متباينين أولهما: الضحى وفيه الضياء والنور، والثاني: الليل إذا يغشى وفيه الظلمة. {ما ودعك ربك} أي ما تركك {وما قلى} أي: وما أبغض، بل أحب الخلق إليه فيما نعلم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا اختاره الله لأعظم الرسالات، وأفضل الأمم، وجعله خاتم النبيين، فلا نبي بعده صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلّم: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور: 48]. فعين الله تعالى تكلأه وترعاه وتحميه وتحفظه وهو الذي قال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} [الشعراء: 219]. فما تركه الله عز وجل بل أحاطه بعلمه، ورحمته، وعنايته وغير ذلك مما يقتضي رفعته في الدنيا والاخرة. كما قال في السورة التي تليها: {ورفعنا لك ذكرك}. [الشرح: 4]. {وللاخرة خير لك من الأولى} هذه الجملة مؤكدة باللام، لام الابتداء و{الاخرة} هي اليوم الذي يبعث فيه الناس، ويأوون إلى مثواهم الأخير إلى الجنة أو إلى النار، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وللاخرة خير لك من الأولى} أي: من الدنيا، وذلك لأن الاخرة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وموضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولهذا لما خير الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مرضه بين أن يعيش في الدنيا ما يعيش وبين ما عند الله، اختار ما عند الله، كما أعلن ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خطبته حيث قال وهو على المنبر: «إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين ما عنده فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وتعجب الناس من بكائه كيف يبكي من هذا، ولكنه رضي الله عنه كان أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. علم أن المخير هو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه اختار ما عند الله وهو الاخرة، وأن هذا إيذان بقرب أجله. {ولسوف يعطيك ربك فترضى} {ولسوف} اللام هذه أيضاً للتوكيد وهي موطئة للقسم، و{سوف} تدل على تحقق الشيء لكن بعد مهلة وزمن {يعطيك ربك} أي يعطيك ما يرضيك فترضى، ولقد أعطاه الله ما يرضيه صلى الله عليه وسلّم، فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً، يحمده فيه الأولون والاخرون، حتى الأنبياء وأولو العزم من الرسل لا يستطيعون الوصول إلى ما وصل إليه. فإذا كان يوم القيامة، وعظم الكرب والغم على الخلق، وضاقت عليهم الأمور طلب بعضهم من بعض أن يلتمسوا من يشفع لهم إلى الله عز وجل فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، هؤلاء خمسة أولهم أبو البشر، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهؤلاء الأربعة عليهم الصلاة والسلام من أولي العزم، كلهم يعتذرون عن الشفاعة للخلق حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فيقوم ويشفع، ولا شك أن هذا عطاء عظيم لم ينله أحد من الخلق، ثم بين الله سبحانه وتعالى نعمه عليه السابقة حتى يستدل بها على النعم اللاحقة. فقال: {ألم يجدك يتيماً فآوى} والاستفهام هنا للتقرير، يعني قد وجدك الله تعالى يتيماً فأواك، يتيماً من الأب، ويتيماً من الأم، فإن أباه توفي قبل أن يولد، وأمه توفيت قبل أن تتم إرضاعه، ولكن الله تعالى تكفل به ويسر له من يقوم بتربيته والدفاع عنه، حتى وصل إلى الغاية التي أرادها الله عز وجل. وقوله: {يتيماً فآوى} وجاء التعبير ـ والله أعلم ـ بـ{فآوى} لسبب لفظي، وسبب معنوي. أما السبب اللفظي: فلأجل أن تتوافق رؤوس الايات من أول السورة، وأما السبب المعنوي: فإنه لو كان التعبير (فآواك) اختص الإيواء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر أوسع من ذلك، فإن الله تعالى آواه، وآوى به، آوى به المؤمنين فنصرهم وأيدهم، ودفع عنهم بل دافع عنهم سبحانه وتعالى. {ووجدك ضالاً فهدى} {وجدك ضالاً} أي غير عالم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئاً قبل أن ينزل عليه الوحي، كما قال تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113]. وقال: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48]. فهو صلى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم شيئاً بل هو من الأميين {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2]. لا يقرأ ولا يكتب، لكن وصل إلى هذه الغاية العظيمة بالوحي الذي أنزله الله عليه، فعلم وعلَّم وهنا قال {فهدى} ولم يأت التعبير ـ والله أعلم ـ فهداك، ليكون هذا أشمل وأوسع فهو قد هدى عليه الصلاة والسلام، وهدى الله به، فهو هاد مهدي عليه الصلاة والسلام. إذاً فهدى أي فهداك وهدى بك. {ووجدك عائلاً فأغنى} أي وجدك فقيراً لا تملك شيئاً {فأغنى} أي أغناك وأغنى بك قال الله تعالى: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} [الفتح: 20]. وما أكثر ما غنم المسلمون من الكفار تحت ظلال السيوف، غنائم عظيمة كثيرة كلها بسبب هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حين اهتدوا بهديه، واتبعوا سنته فنصرهم الله تعالى به وغنموا من مشارق الأرض ومغاربها، ولو أن الأمة الإسلامية عادت إلى ما كان عليه السلف الصالح لعاد النصر إليهم، والغنى، والعزة، والقوة ولكن مع الأسف أن الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر كل منها ينظر إلى حظوظ نفسه بقطع النظر عما يكون به نصرة الإسلام أو خذلان الإسلام. ولا يخفى على من تأمل الوقائع التي حدثت أخيراً أنها في الحقيقة إذلال للمسلمين، وأنها سبب لشر عظيم كبير يترقب من وراء ما حدث، ولاسيما من اليهود والنصارى الذين هم أولياء بعضهم لبعض كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [المائدة: 51]. وهم أعني اليهود والنصارى متفقون على عداوة المسلمين، كل لا يريد الإسلام، ولا يريد أهل الإسلام، ولا يريد عز الإسلام. ولكن سينصر الله تعالى دينه مهما كانت الأحوال، فالله تعالى ناصر دينه وكتابه، وإن حصل على المسلمين ما يحصل فإن الله يقول: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران: 140].فربما يأتي اليوم الذي يجاهد فيه المسلمون اليهود حتى يختبىء اليهودي تحت الشجر فينادي الشجر يا مسلم، يا عبدالله هذا يهودي تحتي، فيأتي المسلم ويقتله، وما ذلك على الله بعزيز. ولكن المسلمين يحتاجون إلى قيادة حكيمة عليمة بأحكام الشريعة قبل كل شيء، لأن القيادة بغير الاستفادة بنور الشريعة عاقبتها الوبال، مهما علت ولو علت إلى أعلى قمة فإنها سوف تنزل إلى أسفل قعر. الهداية بالإسلام، بنور الإسلام، لا بالقومية، ولا بالعصبية، ولا بالوطنية ولا بغير ذلك، بالإسلام فقط. فالإسلام وحده هو الكفيل بعزة الأمة، لكن تحتاج إلى قيادة حكيمة تضع الأشياء مواضعها، وتتأنى في الأمور ولا تستعجل، لا يمكن أن يصلح الناس بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فإنه قد أراد أن يغير الله سنته، والله سبحانه وتعالى لا يغير سنته، فهذا نبي الله عليه الصلاة والسلام بقي في مكة ثلاث عشرة سنة ينزل عليه الوحي، ويدعو إلى الله بالتي هي أحسن، ومع ذلك في النهاية خرج من مكة خائفاً مختفياً لم تتم الدعوة في مكة، فلماذا نريد أن نغير الأمة التي مضى عليها قرون وهي في غفلة وفي نوم بين عشية وضحاها، هذا سفه في العقل، وضلال في الدين. الأمة تحتاج إلى علاج رفيق هادىء يدعو بالتي هي أحسن، الأمة الإسلامية تحتاج بعد الفقه في دين الله والحكمة في الدعوة إلى الله، تحتاج إلى العلم بالواقع والفطنة والخبرة، ونظر في الأمور التي تحتاج إلى نظر بعيد، لأن النتائج قد لا تتبين في شهر، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين، لكن العاقل يصبر وينظر ويتأمل حتى يعرف، والأمور تحتاج أيضاً إلى عزم وتصميم وصبر؛ لأنه لابد من هذا لابد من عزم يندفع به الإنسان، ولابد من صبر يثبت به الإنسان وإلا لفاتت الأمور أو فات كثير منها والله المستعان.
قال عز وجل: {فأما اليتيم فلا تقهر} هذا في مقابلة {ألم يجدك يتيماً فآوى}، فإذا كان الله آواك في يتمك فلا تقهر اليتيم، بل أكرم اليتيم، والإحسان إلى اليتامى وإكرامهم من أوامر الشريعة ومن حسنات الشريعة، لأن اليتيم الذي مات أبوه قبل أن يبلغ منكسر الخاطر، يحتاج إلى جبر، يحتاج إلى من يسليه، وإلى من يدخل عليه السرور لاسيما إذا كان قد بلغ سنًّا يعرف به الأمور كالسابعة والعاشرة وما أشبه ذلك {وأما السائل فلا تنهر} هذا في مقابل {ووجدك ضالاً فهدى} {وأما السائل فلا تنهر} أول ما يدخل في السائل، السائل عن الشريعة عن العلم لا تنهره؛ لأنه إذا سألك يريد أن تبين له الشريعة وجب عليك أن تبينها له لقول الله تبارك وتعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187]. لا تنهره إن نهرته نفرته، ثم إنك إذا نهرته وهو يعتقد أنك فوقه؛ لأنه لم يأت يسأل إلا أنه يعتقد أنك فوقه، إذا نهرته وهو يشعر أنك فوقه أصابه الرعب واختلفت حواسه، وربما لا يفقه ما يلقي إليك من السؤال، أو لا يفقه ما تلقيه إليه من الجواب، وقس نفسك أنت لو كلمت رجلاً أكبر منك منزلة ثم نهرك ضاعت حواسك، ولم تستطع أن ترتب فكرك وعقلك، لهذا لا تنهر السائل، وربما يدخل في ذلك أيضاً سائل المال، يعني إذا جاءك سائل يسألك مالاً فلا تنهره، لكن هذا العموم يدخله التخصيص: إذا عرفت أن السائل في العلم إنما يريد التعنت، وأخذ رأيك وأخذ رأي فلان وفلان حتى يضرب آراء العلماء بعضها ببعض، فإذا علمت ذلك فهنا لك الحق أن تنهره، وأن تقول: يا فلان اتق الله ألم تسأل فلاناً كيف تسألني بعدما سألته؟! أتلعب بدين الله؟! أتريد إن أفتاك الناس بما تحب سكتّ، وإن أفتوك بما لا تحب ذهبت تسأل؟!. هذا لا بأس، لأن هذا النهر تأديب له. وكذلك سائل المال إذا علمت أن الذي سألك المال غني فلك الحق أن تنهره ولك الحق أيضاً أن توبخه على سؤاله وهو غني، إذاً هذا العموم {السائل فلا تنهر} مخصوص فيما إذا اقتضت المصلحة أن ينهر فلا بأس {وأما بنعمة ربك فحدث} نعمة الله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلّم التي ذكرت في هذه الايات ثلاث {ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى} وبهذه الثلاث تتم النعم. حدث بنعمة الله قل: كنت يتيماً فآواني الله، كنت ضالاً فهداني الله، كنت عائلاً فأغناني الله، لكن تحدث بها إظهاراً للنعمة وشكراً للمنعم، لا افتخاراً بها على الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك افتخاراً على الخلق كان هذا مذموماً. أما إذا قلت أو إذا ذكرت نعمة الله عليك تحدثاً بالنعم، وشكراً للمنعم فهذا مما أمر الله به.
هذه كلمات يسيرة على هذه السورة العظيمة، وما نقوله نحن أو غيرنا من أهل العلم فإنه لا يستوعب ما دل عليه القرآن من المعاني العظيمة، نسأل الله أن يرزقنا الفهم في دين الله، والعمل بما علمنا إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 06:59 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الشرح محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
قال الله سبحانه وتعالى مبيناً نعمته على نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {ألم نشرح لك صدرك} هذا الاستفهام يقول العلماء إنه استفهام تقرير، واستفهام التقرير يرد في القرآن كثيراً، ويقدّر الفعل بفعل ماضٍ مقرون بقد. ففي قوله {ألم نشرح لك} يقدّر بأن المعنى قد شرحنا لك صدرك؛ لأن الله يقرر أنه شرح له صدره، وهكذا جميع ما يمر بك من استفهام التقرير فإنه يقدر بفعل ماضٍ مقرون بقد، أما كونه يقدر بفعل ماضٍ؛ فلأنه قد تم وحصل، وأما كونه مقروناً بقد؛ فلأن قد تفيد التحقيق إذا دخلت على الماضي، وتفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، وقد تفيد التحقيق، ففي قول الناس: (قد يجود البخيل) قد هذه للتقليل، لكن في قوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} [النور: 64]. هذه للتحقيق ولا شك. يقول الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} أي: نوسعه، وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحاً حسيًّا، وشرح الصدر أن يكون متسعاً لحكم الله عز وجل بنوعيه، حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان؛ وذلك لأن الشرع فيه مخالفة للهوى فيجد الإنسان ثقلاً في تنفيذ أوامر الله، وثقلاً في اجتناب محارم الله، لأنه مخالف لهوى النفس، والنفس الأمارة بالسوء لا تنشرح لأوامر الله ولا لنواهيه، تجد بعض الناس تثقل عليه الصلاة كما قال الله تعالى في المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142]. ومن الناس من تخف عليه الصلاة بل يشتاق إليها ويترقب حصولها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «جعلت قرة عيني في الصلاة»، إذاً فالشرع فيه ثقل على النفوس، كاجتناب المحرمات، فبعض الناس يهوى أشياء محرمة عليه كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك فتثقل عليه، ومن الناس من ينشرح صدره لذلك ويبتعد عما حرم الله، وانظر إلى يوسف عليه الصلاة والسلام لما دعته امرأة العزيز بعد أن غلقت الأبواب وقالت: هيت لك وتهيأت له بأحسن ملبس وأحسن صورة، والمكان آمن أن يدخل أحد، غلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، قال: معاذ الله، استعاذ بربه لأن هذه حال حرجة، شاب وامرأة العزيز، ومكان خالٍ وآمن، والإنسان بشر ربما تسوّل له نفسه أن يفعل ولهذا قال: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} [يوسف]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، والشاهد من هذا قوله: «رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله» فشرح الصدر للحكم الشرعي معناه قبول الحكم الشرعي والرضا به وامتثاله، وأن يقول القائل سمعنا وأطعنا، وأنت بنفسك أحياناً تجد قلبك منشرحاً للعبادة تفعلها بسهولة وانقياد وطمأنينة ورضا، وأحياناً بالعكس لولا خوفك من الإثم ما فعلت، فإذا كان هذا الاختلاف في الشخص الواحد فما بالك بالأشخاص.
وأما انشراح الصدر للحكم القدري، فالإنسان الذي شرح الله صدره للحكم الكوني تجده راضياً بقضاء الله وقدره، مطمئناً إليه، يقول: أنا عبد، والله رب يفعل ما يشاء، هذا الرجل الذي على هذه الحال سيكون دائماً في سرور لا يغتم ولا يهتم، هو يتألم لكنه لا يصل إلى أن يحمل هًّما أو غمًّا ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له»، إذاً شرح الصدر يعني توسعته وتهيئته لأحكام الله الشرعية والقدرية، لا يضيق بأحكام الله ذرعاً إطلاقاً، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلّم له الحظ الأوفر من ذلك، ولهذا تجده أتقى الناس لله، وأشدهم قياماً بطاعة الله، وأكثرهم صبراً على أقدار الله، ماذا فعل الناس به حين قام بالدعوة؟ وماذا يصيبه من الأمراض؟ حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا يعني من المرض يشدد عليه يعني كرجلين منا، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: «أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم». وحتى أنه شدد عليه عند النزع عند الموت عليه الصلاة والسلام حتى يفارق الدنيا وهو أصبر الصابرين، والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر عليه، أما الشيء اليسير البارد فلا صبر عليه، لهذا نجد الأنبياء أكثر الناس بلاء ثم الصالحين الأمثل فالأمثل. {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك} قد يقول قائل: إن بين الجملتين تنافر، الجملة الأولى فعل مضارع {نشرح} والثانية فعل ماض {وضعنا} لكن بناء على التقرير الذي قلت وهو أن {ألم نشرح} بمعنى قد شرحنا يكون عطف ووضعنا عطفه على نظيره ومثيله {ووضعنا عنك وزرك} وضعناه أي طرحناه وعفونا وسامحنا وتجاوزنا عنك {وزرك} أي إثمك {الذي أنقض ظهرك} يعني أقضه وآلمه؛ لأن الظهر هو محل الحمل، فإذا كان هناك حمل يتعب الظهر فإتعاب غيره من باب أولى، لأن أقوى عضو في أعضائك للحمل هو الظهر، وانظر للفرق بين أن تحمل كيساً على ظهرك أو تحمله بين يديك بينهما فرق، فالمعنى أن الله تعالى غفر للنبي صلى الله عليه وسلّم وزره وخطيئته حتى بقي مغفوراً له، قال الله تبارك وتعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر}. [الفتح: 1، 2]. وقيل للنبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقوم الليل ويطيل القيام حتى تتورم قدماه أو تتفطر قيل له: أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»، إذاً مغفرة الذنوب المتقدمة والمتأخرة ثابتة بالقرآن والسنة، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، لا أحد من الناس يغفر له ما تقدم وما تأخر إلا الرسول صلى الله عليه وسلّم، أما غيره فيحتاج إلى توبة من الذنب، وقد يغفر الله له سبحانه وتعالى بدون توبة ما دون الشرك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام نجزم بأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك}. فإن قال قائل: هذه الاية وما سقناه شاهداً لها يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد يذنب فهل النبي صلى الله عليه وسلّم يذنب؟ فالجواب: نعم، ولا يمكن أن نرد النصوص لمجرد أن نستبعد وقوع الذنب منه صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن لا نقول الشأن ألا يذنب الإنسان بل الشأن أن يغفر للإنسان، هذا هو المهم أن يغفر له، أما أن لا يقع منه الذنب فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»، لابد من خطيئة لكن هناك أشياء لا يمكن أن تقع من الأنبياء مثل الكذب والخيانة، فإن هذا لا يمكن أن يقع منهم إطلاقاً، لأن هذا لو فرض وقوعه لكان طعناً في رسالتهم وهذا شيء مستحيل، وسفاسف الأخلاق من الزنا وشبهه هذا أيضاً ممتنع، لأنه ينافي أصل الرسالة، فالرسالة إنما وجدت لتتميم مكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى وضع عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزره، وبين أن هذا الوزر قد أنقض ظهره أي أقضه وأتعبه، وإذا كان هذا وزر الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف بأوزار غيره، أوزارنا تقض ظهورنا وتنقضها وتتعبها، ولكن كأننا لم نحمل شيئاً، وذلك لضعف إيماننا وبصيرتنا وكثرة غفلتنا، نسأل الله أن يعاملنا بالعفو، في بعض الاثار أن المؤمن إذا أذنب ذنباً صار عنده كالجبل فوق رأسه وإن المنافق إذا أذنب ذنباً صار عنده كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، يعني أنه لا يهتم، فالمؤمن تهمه خطاياه وتلحقه الهم حتى يتخلص منها بتوبة واستغفار، أو حسنات جليلة تمحو آثار هذه السيئة، وأنت إذا رأيت من قلبك الغفلة عن ذنوبك فاعلم أن قلبك مريض، لأن القلب الحي لا يمكن أن يرضى بالمرض، ومرض القلوب هي الذنوب كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانهاوترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها فيجب علينا أن نهتم بأنفسنا وأن نحاسبها، وإذا كان التجار لا ينامون حتى يراجعوا دفاتر تجارتهم، ماذا صرفوا، وماذا أنفقوا، وماذا كسبوا، فإن تجار الاخرة ينبغي أن يكونوا أشد اهتماماً؛ لأن تجارتهم أعظم، فتجارة أهل الدنيا غاية ما تفيدهم إن أفادتهم هو إتراف البدن فقط، على أن هذه التجارة يلحقها من الهم والغم ما هو معلوم، وإذا خسر في سلعة اهتم لذلك، وإذا كان في بلده مخاوف: قطاع طريق، أو سراق صار أشد قلقاً، لكن تجارة الاخرة على العكس من هذا {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [الصف: 10 ـ 12]. تنجي من العذاب، ويغفر الله بها الذنوب، ويدخل بها الجنات، جنات عدن أي جنات إقامة، ومساكن طيبة في جنات عدن، مساكن طيبة في بنايتها وفي مادة البناء، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما»، والله لو يبقى الإنسان في سجدة منذ بلغ إلى أن يموت لكان هذا ثمناً قليلاً بالنسبة إلى هذه الغنيمة العظيمة، ولو لم يكن إلا أن ينجو الإنسان من النار لكفى، أحياناً الإنسان يفكر يقول ليتني لم أولد أو يكفيني أن أنجو من النار، وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ليتني شجرة تعضد، ليت أمي لم تلدني، لأن الإنسان يظن أنه آمن لأنه يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج ويبر الوالدين وما أشبه ذلك، لكن قد يكون في قلبه حسيكة تؤدي إلى سوء الخاتمة، ـ والعياذ بالله ـ كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» يعني مدة قريبة لموته ما هو إلا ذراع في العمل؛ لأن عمله كله هباء، هو يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار كما جاء في الحديث الصحيح، لكن قوله: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع» ليس معناه أن عمله أوصله إلى قريب من الجنة، وإنما المعنى حتى لا يبقى عليه إلا مدة قليلة في الحياة «ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها» لكن هذا فيما إذا كان عمل الإنسان للناس كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار»، والإنسان إذا مر على مثل هذه النصوص يخاف على نفسه، يخاف من الرياء، يخاف من العجب، يخاف من الإذلال. {ورفعنا لك ذكرك} رفع ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام لا أحد يشك فيه؛ أولاً: لأنه يرفع ذكره عند كل صلاة في أعلى مكان وذلك في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله.
ثانياً: يرفع ذكره في كل صلاة فرضاً في التشهد، فإن التشهد مفروض، وفيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ثالثاً: يرفع ذكره عند كل عبادة، كل عبادة مرفوع فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن كل عبادة لابد فيها من شرطين أساسيين هما: الإخلاص لله تعالى، والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن المتابع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف يستحضر عند العبادة أنه متبع فيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا من رفع ذكره.
قوله: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} هذا بشارة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولسائر الأمة، وجرى على الرسول عليه الصلاة والسلام عسر حينما كان بمكة يضيق عليه، وفي الطائف، وكذلك أيضاً في المدينة من المنافقين فالله يقول: {فإن مع العسر يسراً} يعني كما شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، ورفعنا لك ذكرك، وهذه نعم عظيمة كذلك هذا العسر الذي يصيبك لابد أن يكون له يسر {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} قال ابن عباس عند هذه الاية: «لن يغلب عسٌر يسرين»، وتوجيه كلامه ـ رضي الله عنه ـ مع أن العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين. قال أهل البلاغة: توجيه كلامه أن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} العسر الأول أعيد في الثانية بال، فال هنا للعهد الذكري، وأما يسر فإنه لم يأت معرفاً بل جاء منكراً، والقاعدة: أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول إلا ما ندر، وإذا كرر الاسم مرتين بصيغة التنكير فالثاني غير الأول، لأن الثاني نكرة، فهو غير الأول، إذاً في الايتين الكريمتين يسران وفيهما عسر واحد، لأن العسر كرر مرتين بصيغة التعريف {فإن مع العسر يسراً} هذا الكلام خبر من الله عز وجل، وخبره جل وعلا أكمل الأخبار صدقاً، ووعده لا يخلف، فكلما تعسر عليك الأمر فانتظر التيسير، أما في الأمور الشرعية فظاهر، ففي الصلاة: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فهذا تيسير، إذا شق عليك القيام اجلس، إن شق عليك الجلوس صل وأنت على جنبك، وفي الصيام إن قدرت وأنت في الحضر فصم، وإن لم تقدر فأفطر، إذا كنت مسافراً فأفطر، في الحج إن استطعت إليه سبيلاً فحج، وإن لم تستطع فلا حج عليك، بل إذا شرعت في الحج وأحصرت ولم تتمكن معه من إكمال الحج فتحلل، وافسخ الحج واهدِ لقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]. إذاً كل عسر يحدث للإنسان في العبادة يجد التسهيل واليسر. كذلك في القضاء والقدر، يعني تقدير الله على الإنسان من مصائب، وضيق عيش، وضيق صدر وغيره لا ييأس، فإن مع العسر يسراً، والتيسير قد يكون أمراً ظاهراً حسيًّا، مثل: أن يكون الإنسان فقيراً فتضيق عليه الأمور فييسر الله له الغنى، مثال آخر: إنسان مريض يتعب يشق عليه المرض فيشفيه الله عز وجل، هذا أيضاً تيسير حسي، هناك تيسير معنوي وهو معونة الله الإنسان على الصبر هذا تيسير، فإذا أعانك الله على الصبر تيسر لك العسير، وصار هذا الأمر العسير الذي لو نزل على الجبال لدكها، صار بما أعانك الله عليه من الصبر أمراً يسيراً، وليس اليسر معناه أن ينفرج الشيء تماماً فقط، اليسر أن ينفرج الكرب ويزول وهذا يسر حسي، وأن يعين الله الإنسان على الصبر حتى يكون هذا الأمر الشديد العسير أمراً سهلاً عليه، نقول هذا لأننا واثقون بوعد الله. {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} أي إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر، يعني اتعب لعمل آخر، لا تجعل الدنيا تضيع عليك، ولهذا كانت حياة الإنسان العاقل حياة جد، كلما فرغ من عمل شرع في عمل آخر، وهكذا؛ لأن الزمن يفوت على الإنسان في حال يقظته ومنامه، وشغله وفراغه، يسير ولا يمكن لأحد أن يمسك الزمن، لو اجتمع الخلق كلهم ليوقفوا الشمس حتى يطول النهار ما تمكنوا، فالزمن لا يمكن لأحد أن يمسكه، إذاً اجعل حياتك حياة جد، إذا فرغت من عمل فانصب في عمل آخر، إذا فرغت من عمل الدنياعليك بعمل الاخرة، فرغت من عمل الاخرة اشتغلت بأمر الدنيا فإذا قضيت الصلاة يوم الجمعة فانتشر في الأرض وابتغِ من فضل الله، وصلاة الجمعة يكتنفها عملان دنيويان {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} يعني وأنتم مشتغلون في دنياكم {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 9، 10]. فإذا فرغنا من شغل اشتغلنا في آخر، وإذا فرغنا منه اشتغلنا في آخر وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان دائماً في جد.
فإذا قال قائل: لو أنني استعملت الجد في كل حياتي لتعبت ومللت.
قلنا: إن استراحتك لتنشيط نفسك وإعادة النشاط يعتبر شغلاً وعملاً، يعني لا يلزم الشغل بالحركات ففراغك من أجل أن تنشط للعمل الاخر يعتبر عملاً، المهم أن تجعل حياتك كلها جدًّا وعملاً. {وإلى ربك فارغب} يعني إذا عملت الأعمال التي فرغت منها ونصبت في الأخرى، فارغب إلى الله عز وجل في حصول الثواب، وفي حصول الأجر، وفي الإعانة كن مع الله عز وجل قبل العمل وبعد العمل، قبل العمل كن مع الله تستعينه عز وجل، وبعده ترجو منه الثواب. وفي قوله: {إلى ربك فارغب} فائدة بلاغية {إلى ربك} متعلقة من حيث الإعراب بـ(ارغب) وهي مقدمة عليها، وتقديم المعمول يفيد الحصر، يعني إلى الله لا إلى غيره فارغب في جميع أمورك، وثق بأنك متى علقت رغبتك بالله عز وجل فإنه سوف ييسر لك الأمور، وكثير من الناس تنقصهم هذه الحال أي ينقصهم أن يكونوا دائماً راغبين إلى الله، فتجدهم يختل كثير من أعمالهم؛ لأنهم لم يكن بينهم وبين الله تعالى صلة في أعمالهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممتثلين لأوامره، مصدقين بأخباره، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 06:59 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم التين محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـذَا الْبَلَدِ الاَْمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَـهُ أَسْفَلَ سَـفِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَـكِمِينَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والتين والزيتون وطور سينين. وهذا البلد الأمين} إقسام الله تعالى بهذه الأشياء الأربعة: بالتين، والزيتون، وبطور سينين، وهذا البلد الأمين يعني مكة، لأن السورة مكية فالمشار إليه قريب وهو مكة، {والتين} هو الثمر المعروف، {والزيتون} معروف، وأقسم الله بهما لأنهما يكثران في فلسطين، {وطور سينين} أقسم الله به لأنه الجبل الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وهذا البلد الأمين} أقسم الله به أعني مكة لأنها أحب البقاع إلى الله، وأشرف البقاع عند الله عز وجل.
قال بعض أهل العلم: أقسم الله بهذه الثلاثة، لأن الأول {والتين والزيتون} أرض فلسطين التي فيها الأنبياء، وآخر أنبياء بني إسرائيل هو عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبطور سينين لأنه الجبل الذي أوحى الله تعالى إلى موسى حوله، وأما البلد الأمين فهو مكة الذي بعث الله منه محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال العلماء: ومعنى قوله: {وطور سينين} أي طور البركة لأن الله تعالى وصفه أو وصف ما حوله بالوادي المقدس. {لقد خلقناً الإنسان في أحسن تقويم} هذا هو المقسم عليه، أقسم الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذه الجملة التي فيها المقسم عليه مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، أقسم الله أنه خلق الإنسان {في أحسن تقويم} في أحسن هيئة وخِلقة و{في أحسن تقويم} فطرة وقصداً، لأنه لا يوجد أحد من المخلوقات أحسن من بني آدم خلقة، فالمخلوقات الأرضية كلها دون بني آدم في الخلقة، لأن الله تعالى قال: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} هذه الردة التي ذكرها الله عز وجل تعني أن الله تعالى يرد الإنسان أسفل سافلين خِلقة كما قال الله تعالى: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} [النحل: 70]. فكلما ازدادت السن في الإنسان تغير إلى أردأ في القوة الجسدية، وفي الهيئة الجسدية، وفي نضارة الوجه وغير ذلك يرد أسفل سافلين، وإذا قلنا إن أحسن تقويم تشمل حتى الفطرة التي جبل الله الخلق عليها، والعبادة التي تترتب أو تتبنى على هذه الفطرة، فإن هذا إشارة إلى أن من الناس من تعود به حاله ـ والعياذ بالله ـ إلى أن يكون أسفل سافلين بعد أن كان في الأعلى والقمة من الإيمان والعلم، والاية تشمل المعنيين جميعاً ثم قال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} هذا استثناء من قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} يعني إلا المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يردون إلى أسفل السافلين، لأنهم متمسكون بإيمانهم وأعمالهم، فيبقون عليها إلى أن يموتوا. وقوله: {فلهم أجر} أي ثواب {غير ممنون} غير مقطوع، ولا ممنون به أيضاً فكلمه {ممنون} صالحه لمعنى القطع، وصالحة لمعنى المنة، فهم لهم أجر لا ينقطع، ولا يمن عليهم به، يعني أنهم إذا استوفوا هذا الأجر لا يمن عليهم فيقال أعطيناكم وفعلنا وفعلنا، وإن كانت المنة لله عز وجل عليهم بالإيمان والعمل الصالح والثواب، كلها منّة من الله لكن لا يمن عليهم به، أي: لا يؤذون بالمن كما يجري ذلك في أمور الدنيا، إذا أحسن إليك أحد من الناس فربما يؤذيك بمنه عليك، في كل مناسبة يقول: فعلت بك، أعطيتك وما أشبه ذلك. ثم قال الله تبارك وتعالى: {فما يكذبك بعد بالدين} انتقل الله تعالى من الكلام على وجه الغيبة إلى الكلام على وجه المقابلة والخطاب قال: {فما يكذبك بعد بالدين} أي: أي شيء يكذبك أيها الإنسان بعد هذا البيان {بالدين} أي بما أمر الله به من الدين، ولهذا كلما نظر الإنسان إلى نفسه وأصله وخلقته، وأن الله اجتباه وأحسن خلقته، وأحسن فطرته فإنه يزداد إيماناً بالله عز وجل، وتصديقاً بكتابه وبما أخبرت به رسله. ثم قال: {أليس الله بأحكم الحاكمين} وهذا الاستفهام للتقرير يقرر الله عز وجل أنه أحكم الحاكمين، وأحكم هنا اسم تفضيل وهو مأخوذ من الحكمة، ومن الحكم، فالحكم الأكبر الأعظم الذي لا يعارضه شيء هو حكم الله عز وجل، والحكمة العليا البالغة هي حكمة الله عز وجل فهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين قدراً وشرعاً، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله. نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير

صقر قريش 09-02-2009 07:00 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم العلق محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَـنَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَـنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربـك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} هذه الايات أول ما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن الكريم، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء بالوحي أنه يرى الرؤيا في المنام، فتأتي مثل فلق الصبح يعني يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان ستة شهور، وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث «أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جـزءاً من النبوة»، لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حُبب إليه الخلاء، يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى عليه الصلاة والسلام أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده عليه الصلاة والسلام ويتحنث، يتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليال، ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام وشراب، ثم ينزل ويتزود لمثلها من أهله، ويرجع ويتحنث لله عز وجل، إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال: «ما أنا بقارىء» ومعنى «ما أنا بقارىء» يعني لست من ذوي القراءة، وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع، ليس من ذوي القراءة، إذ أنه صلى الله عليه وسلّم كان أميًّا كما قال الله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} [الأعراف: 58]. وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم} [الجمعة: 2]. فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة، وحتى لا يبقى لشاك شك في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [العنكبوت: 48]. قال له: «ما أنا بقارىء» فغطه مرتين أو ثلاثاً، ثم قال له {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم} خمس آيات نزلت فرجع بها النبي صلى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتداءه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع يقول الله عز وجل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} قوله: {باسم ربك} قيل معناه متلبساً بذلك، وقيل مستعيناً بذلك، يعني اقرأ مستعيناً باسم الله؛ لأن أسماء الله تعالى كلها خير، وكلها إعانة يستعين بها الإنسان، ويستعين بها على وضوئه، ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون، وقال: {باسم ربك} دون أن يقول باسم الله لأن المقام مقام ربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء رسالة فلهذا قال: {باسم ربك} إلا أنه عليه الصلاة والسلام قد رباه الله تعالى تربية خاصة ورباه كذلك ربوبية خاصة. {الذي خلق} أي خلق كل شيء كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2]. وقال تعالى: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} [الزمر: 62]. فما من شيء في السماء ولا في الأرض، من خفي وظاهر، وصغير وكبير إلا وهو مخلوق لله عز وجل ولهذا قال: {خلق} وحذف المفعول إشارة للعموم؛ لأن حذف المفعول يفيد العموم، إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، لو قال خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال {خلق} وأطلق صار عامًّا فهو خالق كل شيء جل وعلا. ثم قال: {خلق الإنسان من علق} خص الله تعالى خلق الإنسان تكريماً للإنسان وتشريفاً له؛ لأن الله تعالى يقول: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} [الإسراء: 70]. فلهذا نص على خلق الإنسان {خلق الإنسان} أي ابتدأ خلقه {من علق} جمع، أو اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا هو المنشأ الذي به الحياة؛ لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك.
وقد بين الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق، ولكنه يتطور، وبين في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آيات أخرى خلقه من طين، وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار، وفي آيات أخرى من ماء دافق، وفي آيات أخرى من ماء مهين، وفي هذه الاية من علق فهل في هذا تناقض؟
الجواب: ليس هناك تناقض، ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى، أو ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلّم شيء من التناقض أبداً، فإن الله يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82]. لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحياناً مبدأ الخلق من وجه، ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب؛ لأن أول ما خلق الإنسان من التراب ثم صب عليه الماء فكان طيناً ثم استمر مدة فكان حمئاً مسنوناً، ثم طالت مدته فكان صلصالاً، يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحماً، وعظماً، وعصباً إلى آخره، هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم. والخلق الاخر من بنيه أول منشئهم من نطفة، وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً، ثم تتحول شيئاً فشيئاً وبتمام الأربعين تتقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دماً علقة، ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئاً فشيئاً، فإذا تمت ثمانين يوماً انتقلت إلى مضغة ـ قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان ـ وتبقى كذلك أربعين يوماً فهذه مائة وعشرون يوماً، وهي بالأشهر أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها، أما الجسد فأصله من التراب، ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح لا نعرف من أي جوهر هي؟ ولا من أي مادة {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]. فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك، لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس، بعد أن تنتفخ فيه الروح يكون آدمياً يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، ولا يبعث؛ لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في المقابر؛ لأنه صار إنساناً، ويسمى أيضاً؛ لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه، ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه، على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشراً، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا.
وبهذه المناسبة أبين أن للإنسان أربع دور:
الدار الأولى: في بطن أمه.
الدار الثانية: في الدنيا.
الدار الثالثة: في البرزخ.
الدار الرابعة: في الجنة أو النار وهي المنتهى.
{اقرأ وربك الأكرم} {اقرأ} تكرار للأولى لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس؟ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} قرنت بما يتعلق بالربوبية، و{اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم} قرنت بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء، يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية.
{كَلاَّ إِنَّ الإِنسَـنَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَـذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب}.
قال الله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى} {كلا} في القرآن الكريم ترد على عدة معاني منها: أن تكون بمعنى حقًّا كما في هذه الاية فـ{كلا} بمعنى حقًّا، يعني أن الله تعالى يثبت هذا إثباتاً لا مرية فيه {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} الإنسان هنا ليس شخصاً معيناً، بل المراد الجنس، كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى، من الطغيان وهو مجاوزة الحد، إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبالِ، إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي، إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض، وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع، إذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري، وهكذا فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى، ولكن هذا يخرج منه المؤمن، لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين، فهو دائماً مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ربه كل حاجة، ويلجأ إليه عند كل مكروه، ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضًّرا، هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان، وهذا كقوله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72]. ثم قال عز وجل مهدداً هذا الطاغية {إن إلى ربك الرجعى} أي المرجع يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى {إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر. إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 23 ـ 26]. وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبداً، ولا من ثواب الله وعدله، وقوله: {إن إلى ربك الرجعى} ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد يعني أنه يشمل الوعيد والتهديد، ويشمل ما هو أعم فيكون المعنى أن إلى الله المرجع في كل شيء في الأمور الشرعية التحاكم إلى الكتاب والسنة {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59]. والأمور الكونية المرجع فيها إلى الله {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} [الأنفال: 9]. فلا رجوع للعبد إلا إلى الله، كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} [البقرة: 253]. إذن {إن إلى ربك الرجعى} يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنياً عن ربه، وفيها أيضاً ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور. ثم قال: {أرأيت الذي ينهى. عبداً إذا صلى} يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وتعجب من حال هذا الرجل الذي ينهى عبداً إذا صلى، ففي الاية ناهي ومنهي، فالناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم؛ لأنهم يتحاكمون إليه، ويرجعون إليه فاغتر بنفسه، وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم. وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد {عبداً إذا صلى} أبو جهل قيل له: إن محمداً يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: لقد نهيتك فلماذا تفعل؟ فانتهره النبي عليه الصلاة والسلام فرجع، ثم قيل لأبي جهل إنه أي محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم مازال يصلي فقال: والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأعفرن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجداً تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقاً من النار وأهوالاً عظيمة، فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبداً إذا صلى يتعجب من حاله كيف يفعل هذا؟ ولهذا جاء في آخر الايات {ألم يعلم بأن الله يرى} وأنه سيجازيه ثم قال: {أرأيت إن كان على الهدى} {أرأيت} يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان هذا الساجد محمد صلى الله عليه وسلّم على الهدى فكيف تنهاه عنه. {أو أمر بالتقوى} قال بعض المفسرين {أو} هنا بمعنى الواو يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع، يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة، أو أمر غيره بالتقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك فهو صالح بنفسه مصلح لغيره. {ألم يعلم بأن الله يرى} يعني يرى المنهي وهو الساجد محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامر بالتقوى ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبداً إذا صلى {ألم يعلم بأن الله يرى} يرى سبحانه وتعالى علماً ورؤية، فهو سبحانه يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد، ومهما كثر أو قل، فيعلم الامر والناهي ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى، ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله، والمقصود من هذا تهديد الذي ينهى عبداً إذا صلى، وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله، وحال من ينهاه، وسيجازي كلاًّ منهما بما يستحق. فهذا تهديد لهذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، يعني ألم يعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله، فيجازيه عليه إما في الدنيا، وإما في الدنيا والاخرة. ثم قال: {كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية} {كلا} هذه بمعنى حقًّا، ويحتمل أن تكون للردع، أي لردعه عن فعله السيىء الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمعنى حقًّا {لنسفعن بالناصية} جملة {لنسفعن} جواب لقسم مقدر والتقدير: والله لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم، لأن هذه هي القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المتأخر، قال ابن مالك في ألفيته:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزموهنا المتأخر هو الشرط {لئن} والقسم مقدر قبله إذ تقديره: والله لئن لم ينته لنسفعن، ومعنى {لنسفعن} أي لنأخذن بشدة و{الناصية} مقدم الرأس و(الـ) فيها أي: في الناصية للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي لنسفعن بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الاخرة يجر بناصيته إلى النار؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار كما قال الله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41]. وإذا كانت الاية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الاخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً كما هو المعروف والذي قررناه سابقاً وهو أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الاخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعاً. قوله تعالى: {ناصية كاذبة خاطئة} ناصية بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة، وهي جائزة في اللغة العربية وإنما قال: {ناصية} من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الاتي بعدها وهو قوله {كاذبة خاطئة} {كاذبة} أي أنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذباً ما يحصل من الكفار الذين يدعون أن مع الله ألهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل، {خاطئة} أي مرتكبة للخطأ عمداً، وليعلم أن هناك فرقاً بين خاطىء ومخطىء، الخاطىء من ارتكب الخطأ عمداً، والمخطىء من ارتكبه جهلاً، والثاني معذور، والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى: {لا يأكله إلا الخاطئون} [الحاقة: 37]. أي المذنبون ذنباً عن عمد، وقال تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. فقال الله قد فعلت، ومثل ذلك القاسط والمقسط، القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، قال الله تعالى: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} [الحجرات: 9]. وقال تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} [الجن: 15]. إذاً {خاطئة} أي مرتكبة للإثم عمداً. {فليدع ناديه} اللام هنا للتحدي، يعني إن كان صادقاً وعنده قوة، وعنده قدرة فليدع ناديه، والنادي هو مجتمع القوم للتحدث بينهم والتخاطب والتفاهم والاستئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله نادي يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شؤونهم فهنا يقول الله عز وجل إن كان صادقاً فليدع ناديه، وهذا لا شك أنه تحدي، كما تقول لعدوك إن كان لك قوم فتقدم وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي. {سندع الزبانية} يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار، وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد، غلاظ في الطباع، شداد في القوة {لا يعصون الله ما أمرهم} [التحريم: 6]. بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به {ويفعلون ما يؤمرون} لا يعجزون عن ذلك فوصفهم بوصفين أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل {لا يعصون الله ما أمرهم} وأنهم في تمام القدرة {ويفعلون ما يؤمرون} وعدم تنفيذ أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للمعصية، فمثلاً الذي لا يصلي الفرض قائماً قد يكون للعجز، وقد يكون للعناد فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، بل عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبداً ولهذا قال: {سندع الزبانية} فإن قال قائل: أين الواو في قوله {سندع}؟ قلنا: إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة والهمزة همزة الوصل ساكنة، وإذا التقى ساكنان فإنه إن كان الحرف صحيحاً كسر، وإن كان غير صحيح حذف، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:
إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن ليناً فحذفه استحقيعني إذا التقى ساكنان إن كان الحرف الأول صحيحاً ليس من حروف العلة كسر مثل قوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا} وأصلها {لم يكنْ} لأن لم إذا دخلت على الفعل جزمته كما في قوله تعالى: {ولم يكن له كفواً أحد} لكن هنا التقى ساكنان، وكان الأول حرفاً صحيحاً فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين، يعني حرف من حروف العلة فإنه يحذف كما في هذه الاية {سندع الزبانية}.
{كلا لا تطعه واسجد واقترب} يقال في {كلا} ما قيل في الأولى التي قبلها والخطاب في قوله: {لا تطعه} أي لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبالي به، وإذا كان الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يطيع هذا الرجل فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، يعني افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا الصلاة، لكن عبر بالسجود عن الصلاة لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح إلا به، فلهذا عبر به عنها. وقوله: {واقترب} أي اقترب من الله عز وجل؛ لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم»، أي حري أن يستجاب لكم.
هذه السورة (العلق) سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بما منّ به على رسوله عليه الصلاة والسلام من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بطاعته والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه على كل شيء قدير

صقر قريش 09-02-2009 07:00 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم القدر محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِنَّا أَنزَلْنَـهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَـئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَـمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إنا أنزلناه في ليلة القدر} {إنا أنزلناه} الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله {أنزلناه} يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة {إنا أنزلناه} لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحياناً بصيغة العظمة مثل هذه الاية الكريمة {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ومثل قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]. ومثل قوله تعالى: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 11]. وأحياناً يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل {إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]. وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد. والضمير في قوله: {أنزلناه} ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر فما معنى إنزاله في ليلة القدر؟ الصحيح أن معناها: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا ودليل ذلك قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185]. فإذا جمعت هذه الاية أعني {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} إلى هذه الاية: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} تبين أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له، ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع، وصفر، ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل: فضائل الأعمال، أو الشهور، أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلّم يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلاً وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي أيام البيض.
وقوله تعالى: {في ليلة القدر} من العلماء من قال: القدر هو الشرف كما يقال (فلان ذو قدر عظيم، أو ذو قدر كبير) أي ذو شرف كبير، ومن العلماء من قال: المراد بالقدر التقدير، لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 3، 4]. أي يفصل ويبين.
والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم، وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك. ثم قال جل وعلا: {وما أدراك ما ليلة القدر} هذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم، وهي مطردة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18]. وقال تعالى: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 1 ـ 3]. {القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة} فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم فهنا قال: {وما أدراك ما ليلة القدر} أي ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، ثم بين هذا بقوله: {ليلة القدر خير من ألف شهر} وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر} الجواب: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، والمراد بالخيرية هنا ثواب العمل فيها، وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة، ولذلك كان من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال: {تنزل الملائكة والروح فيها} أي تنزل شيئاً فشيئاً؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئاً فشيئاً حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلاً على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة كالمكان الذي فيه الصور، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، يعني صورة محرمة؛ لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة، فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعاً، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة، ونزولهم خير وبركة. {والروح} هو جبريل عليه السلام خصه الله بالذكر لشرفه وفضله، وقوله تعالى: {بإذن ربهم} أي بأمره، والمراد به الإذن الكوني؛ لأن إذن الله ـ أي أمره ـ ينقسم إلى قسمين: إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى: {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]. أي ما لم يأذن به شرعاً، لأنه قد أذن به قدراً، فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الاية {بإذن ربهم} أي بأمره القدري وقوله: {من كل أمر} قيل إن {من} بمعنى الباء أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة. {سلام هي} الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم، والتقدير: «هي سلام» أي هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام، لكثرة من يسلم فيها من الاثام وعقوباتها، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها. {حتى مطلع الفجر} أي تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر.
تنبيه: سبق أن قلنا إن ليلة القدر في رمضان، لكن في أي جزء من رمضان أفي أوله، أو وسطه، أو آخره؟
نقول في الجواب على هذا: إن النبي صلى الله عليه وسلّم اعتكف العشر الأول، ثم العشر الأوسط تحرياً لليلة القدر، ثم قيل له: إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، إذاً فليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. وفي أي ليلة منها؟ الله أعلم قد تكون في ليلة إحدى وعشرين، أو في ليلة الثلاثين، أو فيما بينهما، فلم يأت تحديد لها في ليلة معينة كل عام، ولهذا أري النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين ورأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فأمطرت السماء تلك الليلة أي ليلة إحدى وعشرين، فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم في مسجده، وكان مسجده من عريش لا يمنع تسرب الماء من السقف، فسجد النبي صلى الله عليه وسلّم صباحها أي في صلاة الفجر في الماء والطين، ورأى الصحابة رضي الله عنهم على جبهته أثر الماء والطين، ففي تلك الليلة كانت في ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك قال: «التمسوها في العشر الأواخر»، وفي رواية: «في الوتر من العشر الأواخر»، ورآها الصحابة ذات سنة من السنين في السبع الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلّم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»، يعني في تلك السنة، أما في بقية الأعوام فهي في كل العشر، فليست معينة، ولكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، وقد تكون (مثلاً) في هذا العام ليلة سبع وعشرين، وفي العام الثاني ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثالث ليلة خمس وعشرين وهكذا.. وإنما أبهمها الله عز وجل لفائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليال من أجل أن يدركها، والمتكاسل يكسل أن يقوم عشر ليال من أجل ليلة واحدة.
الفائدة الثانية: كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال؛ لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى غلط كثير من الناس في الوقت الحاضر حيث يتحرون ليلة سبع وعشرين في أداء العمرة، فإنك في ليلة سبع وعشرين تجد المسجد الحرام قد غص بالناس وكثروا، وتخصيص ليلة سبع وعشرين بالعمرة من البدع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخصصها بعمرة في فعله، ولم يخصصها أي ليلة سبع وعشرين بعمرة في قوله، فلم يعتمر ليلة سبع وعشرين من رمضان مع أنه في عام الفتح ليلة سبع وعشرين من رمضان كان في مكة ولم يعتمر، ولم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين بالعمرة، وإنما أمر أن نتحرى ليلة سبع وعشرين بالقيام فيها لا بالعمرة، وبه يتبين خطأ كثير من الناس، وبه أيضاً يتبين أن الناس ربما يأخذون دينهم كابراً عن كابر، على غير أساس من الشرع، فاحذر أن تعبد الله إلا على بصيرة، بدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أو عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم.
وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر:
الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والاخرة.
الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {وما أدراك ما ليلة القدر}.
الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.
الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها، وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.
الفضيلة الخامسة: أنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.
الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.
ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه»، فقوله: «إيماناً واحتساباً» يعني إيماناً بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتساباً للأجر وطلب الثواب. وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر. وبهذا انتهى الكلام على سورة القدر.

صقر قريش 09-02-2009 07:00 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم البينة محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
يقول الله عز وجل: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} يعني ما كان الكفار من {أهل الكتاب} وهم اليهود والنصارى، سموا بذلك لأن صحفهم بقيت إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلّم مع ما فيها من التحريف والتبديل والتغيير، ولكن هم أهل الكتاب، فاليهود لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل {والمشركين} المشركون هم عبدة الأوثان من كل جنس من بني إسرائيل ومن غيرهم، لم يكن هؤلاء {منفكين} أي تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر ومنفكين عنه {حتى تأتيهم البينة} والبينة ما يبين به الحق في كل شيء، فكل شيء يبين به الحق فإنه يسمى بينة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي»، فكل ما بان به الحق فهو بينة، ويكون في كل شيء بحسبه، فما هي البينة التي ذكرها الله هنا؟ البينة قال {رسول من الله} وهذا الرسول هو النبي صلى الله عليه وسلّم محمد رسول الله ابن عبدالله الهاشمي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، وجاء بصيغة النكرة {رسول} تعظيماً له؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جدير بأن يعظم التعظيم اللائق به من غير نقص ولا غلو {رسول من الله} يعني أن الله أرسله إلى العالمين بشيراً ونذيراً، قال الله تبارك وتعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} [النساء: 79]. وقال: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} [الفرقان: 1]. فهو محمد عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأن جبريل هو رسول رب العالمين إلى رسله موكل بالوحي ينزل به على من شاء الله من عباده. {يتلو صحفاً مطهرة} يعني يقرأ لنفسه وللناس، {صحفاً} جمع صحيفة وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبه ذلك مما يكتب به {مطهرة} أي منقاة من الشرك، ومن رذائل الأخلاق، ومن كل ما يسوء، لأنها نزيهة مقدسة {فيها} أي في هذه الصحف {كتب قيمة} كتب: أي مكتوبات قيمة، فكتب جمع كتاب، بمعنى مكتوب، والمعنى أن في هذه الصحف مكتوبات قيمة كتبها الله عز وجل، ومن المعلوم أن الإنسان إذا تصفح القرآن وجده كذلك، وجده يتضمن كتباً أي مكتوبات قيمة، انظر إلى ما جاء به القرآن من توحيد الله عز وجل، والثناء عليه، وحمده وتسبيحه تجده مملوءاً بذلك، انظر إلى ما في القرآن من وصف النبي صلى الله عليه وسلّم ووصف أصحابه المهاجرين والأنصار ووصف التابعين لهم بإحسان، انظر إلى ما جاء به القرآن من الأمر بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة تجد أن كل ما جاء به القرآن فهو قيم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره {فيها كتب قيمة}. إذاً أخبر الله في هذه الاية أنه لا يمكن أن ينفك هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والمشركين حتى تأتيهم البينة، فلما جاءتهم البينة هل انفكوا عن دينهم، عن كفرهم وشركهم؟ الجواب قال الله تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} يعني لما جاءتهم البينة اختلفوا، منهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن النصارى من آمن مثل النجاشي ملك الحبشة، ومن اليهود من آمن أيضاً مثل عبدالله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن علم الله منه أنه يريد الخير، ويريد الدين لله آمن ووفق للإيمان، ومن لم يكن كذلك وفق للكفر، كذلك أيضاً من المشركين من آمن، وما أكثر المشركين من قريش الذين آمنوا، فصار الناس قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام لم يزالوا على ما هم عليه من الكفر حتى جاءتهم البينة، ثم لما جاءتهم البينة تفرقوا واختلفوا كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران: 105].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ أُوْلَـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ}.
{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} بين الله تعالى في هذه الاية بياناً مؤكداً بـ(إن) إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين {في نار جهنم} أي في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم، لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الُجهمة، وقيل: إنه اسم أعجمي عربته العرب. وأيًّا كان فإنه أعني لفظ {جهنم} اسم من أسماء النار، وقوله: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} {من} هنا بيان للإبهام، أعني إبهام الإسم الموصول في قوله: {إن الذين كفروا} وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم (اليهود والنصارى)، والأمر كذلك، فإن اليهود والنصارى كفار حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن قالوا: إنهم مؤمنون بالله واليوم الاخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر لامنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم، بل لامنوا برسلهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157]. بل إن عيسى صلى الله عليه وسلّم قال لبني إسرائيل {يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات، قالوا: هذا سحر مبين، وكذبوه ولم يتبعوه إلا نفراً قليلاً من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه. {أولئك هم شر البرية} أي شر الخليقة؛ لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من (اليهود والنصارى والمشركين) شر البرية (شر الخلائق) وقد بين الله ذلك تماماً في قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون} [الأنفال: 55]. وقال تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 22]. فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر، لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبداً أن نحسن الظن بهم، قد نثق بالصادقين منهم كما وثق النبي صلى الله عليه وسلّم بالمشرك، عبدالله بن أريقط، حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق منهم، لأنهم شر، ولما ذكر الله حكم هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ذكر حكم المؤمنين فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} والقرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، فيؤتى بالمعنى وما يقابله، ويأتي بأصحاب النار وأصحاب الجنة، ويأتي بآيات الترهيب وآيات الترغيب، وهلم جرا، لأجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله عز وجل بين الخوف والرجاء، ولئلا يمل، فإن تنويع الأساليب وتنويع المواضيع لا شك أنه يعطي النفس قوة واندفاعاً، بخلاف ما لو كان الكلام على وتيرة واحدة، فإن الإنسان قد يمل ولا تتحرك نفسه {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} فخير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم على طبقات أربع بينها الله في قوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69]. هذه الطبقات الأربع هي طبقات المؤمنين أعلاها: طبقة النبوة، وأعلى طبقات النبوة طبقة الرسالة، ثم بعد النبوة الصديقية، وعلى رأس الصديقين أبو بكر رضي الله عنه. الطبقة الثالثة: الشهداء، قيل: إنهم أُولوا العلم. وقيل: إنهم الذين قتلوا في سبيل الله، والاية تحتمل المعنيين جميعاً بدون مناقضة، والذي ينبغي لمفسر القرآن أن الاية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة أن يحملها على المعنيين جميعاً، فالشهداء هم أولوا العلم، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، وكلهم مرتبتهم عالية فوق سائر المتبعين للرسل إلا الصديقين؛ قال تعالى: {والصالحين} وهم أدنى الطبقات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات على اختلاف طبقاتهم هم خير البرية، أي خير ما خلق الله عز وجل من البرايا، ثم بين جزاءهم فقال {جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} وهنا قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم، لأن ثناء الله عليهم أعظم مرتبة وأعلى منقبة، فلذلك قدمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار} {جنات} جمعها لاختلاف أنواعها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: إن الجنات «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما»، وإلى هذا يشير قول الله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]. ثم ذكـر أوصاف هاتـين الجنتين، ثم قـال: {ومن دونهما جنتان} [الرحمن: 62]. فلهم جنـات والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمـة أعدهـا الله عز وجل للمؤمنين المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن لإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الاخرة أبداً، لأنه أعلى وأجل مما نتصور، قال ابن عباس رضي الله عنهما (ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء)، لكنها الحقائق تختلف اختلافاً عظيماً، قال عز وجل: {جنات عدن} العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولاً عما هو عليه من النعيم، لأنه لا يرى أن أحداً أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل قال الله تبارك وتعالى: {لا يبغون عنها حولاً} [الكهف: 108]. أي لا يبغون تحولاً عما هم عليه لأن الله قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحداً أكمل نعيماً منهم، ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدن {تجري من تحتها الأنهار} {من تحتها} قال العلماء: من تحت قصورها وأشجارها وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة (محمد) فقال: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. وقد جاء في الاثار من وصف هذه الأنهار أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق، ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يميناً وشمالاً، وفي هذا يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه النونية:
أنهارها من غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان {خالدين فيها أبداً} أي ماكثين فيها أبداً، لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا يألمون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائماً وأبداً ـ أبد الابدين ـ {رضي الله عنهم ورضوا عنه} وهذا أكمل نعيم أن الله تعالى يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبداً، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامون في ذلك، أي لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الاخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل. ثم قال عز وجل: {ذلك لمن خشي ربه} أي ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} [فاطر: 28]. أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه، فالخشية أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما بالمثال: إذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا؟ فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية. وبهذا تمت هذه السورة العظيمة وتم ما تيسر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:01 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الزلزلة محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا زُلْزِلَتِ الاَْرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَـنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَـلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إذا زلزلت الأرض زلزالها} المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1، 2]. وقوله: {زلزالها} يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل: {ترى الناس سكارى وما هم بسكارى} يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل. {وأخرجت الأرض أثقالها} المراد بهم: أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. {وقال الإنسان مالها} الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول: ما لها؟ أي شيء لها هذا الزلزال؟ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى: {سكارى} [الحج: 2]. فيقول: ما الذي حدث لها وما شأنها؟ لشدة الهول. {يومئذ} أي في ذلك اليوم إذا زلزلت {تحدث أخبارها} أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا.. لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]. لأنهم إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستيطع أن يبقى على إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت. وقوله: {يومئذ تحدث أخبارها} هو جواب الشرط في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها}. قوله: {بأن ربك أوحى لها} أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير إذا أمر شيئاً بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال الله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65]. فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال: {يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} قوله: {يومئذ} يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها. {يصدر الناس أشتاتاً} أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة ـ جعلنا الله منهم ـ يتجهون إليها، وأهل النار ـ والعياذ بالله ـ يساقون إليها {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً. ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} [مريم: 85 ـ 87]. فيصدر الناس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} [الإسراء: 21]. {ليروا أعمالهم} يعني يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، وأما الكافر ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]. وقوله: {ليروا أعمالهم} هذا مضاف والمضاف يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 64]. ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه. {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره} {من} شرطية تفيد العموم، يعني: أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر {مثقال ذرة} يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة: الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40]. ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}.
وقوله تبارك وتعالى: {مثقال ذرة} يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من قال: إن الذي يوزن العمل.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكل دليل، أما من قال: إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الاية {فمن يعمل مثقال ذرة} لأن تقدير الاية فمن يعمل عملاً مثقال ذرة. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسماً يمكن أن يوضع في الميزان بل العمل عمل انتهى وانقضى.
ويجاب عن هذا بأن يقال:
أولاً: على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلّم من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا؟ فعليه التصديق لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ولا يقول كيف؟ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور.
ثانياً: أن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجساماً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة فيشرئبون ويطلعون ويقال: يا أهل النار فيشرئبون ويطلعون فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش والموت (معنى) ليس جسماً ولكن الله تعالى يجعله جسماً يوم القيامة، فيقولون: هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول.
أما من قال: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال: انظر إلى عملك فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيىء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة وهي لا إله إلا الله قالوا فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الريح تكفئه؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مما تضحكون؟ أو مما تعجبون؟ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد» وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل.
فيقال: نأخذ بالقول الأول: أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول أن الذي يوزن هو العامل هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة؟
فالجواب: لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة»، وقال: اقرؤا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}. [الكهف: 105]. وهذا عبدالله بن مسعود يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد»، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه، ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة. يقول عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره}.
وهذه السورة كلها التحذير والتخويف من زلزلة الأرض، وفيها الحث على الأعمال الصالحة، وفيها أن العمل لا يضيع مهما قل، حتى لو كان مثقال ذرة، أو أقل فإنه لابد أن يراه الإنسان ويطلع عليه يوم القيامة. نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا ممن يحشرون إلى الرحمن وفداً إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:01 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم العاديات محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْعَـدِيَـتِ ضَبْحاً * فَالمُورِيَـتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الإِنسَـنَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والعاديات ضبحاً} هذا قسم، والعاديات صفة لموصوف محذوف فما هو هذا الموصوف؟ هل المراد الخيل يعني (والخيل العاديات) أو المراد الإبل يعني (والإبل العاديات)؟ في هذا قولان للمفسرين: فمنهم من قال: إن الموصوف هي الإبل، والتقدير (والإبل العاديات) ويعني بها الإبل التي تعدوا من عرفة إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وذلك في مناسك الحج، واستدلوا لهذا بأن هذه السورة مكية، وأنه ليس في مكة جهاد على الخيل حتى يقسم بها.
أما القول الثاني لجمهور المفسرين وهو الصحيح فإن الموصوف هو الخيل والتقدير (والخيل العاديات) والخيل العاديات معلومة للعرب حتى قبل مشروعية الجهاد، هناك خيل تعدو على أعدائها سواء بحق أو بغير حق فيما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فالخيل تعدوا على أعدائها بحق. يقول الله تعالى: {والعاديات} والعادي اسم فاعل من العدو وهو سرعة المشي والانطلاق، وقوله: {ضبحاً} الضبح ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدوا بسرعة، يكون لها صوت يخرج من صدورها، وهذا يدل على قوة سعيها وشدته. {فالموريات قدحاً} الموريات من أورى أو وري بمعنى قدح، ويعني بذلك قدح النار حينما يضرب الأحجار بعضها بعضاً، كما هو مشهور عندنا في حجر المرو، فإنك إذا ضربت بعضه ببعض انقدح، هذه الخيل لقوة سعيها وشدته، وضربها الأرض، إذا ضربت الحجر ضرب الحجر الحجر الثاني ثم يقدح ناراً، وذلك لقوتها وقوة سعيها وضربها الأرض. {فالمغيرات صبحاً} أي التي تغير على عدوها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون في الإغارة على العدو أن يكون في الصباح لأنه في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقسم بهذه الخيول أحسن وقت للإغارة وهو الصباح، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يغير على قوم في الليل بل ينتظر فإذا أصبح إن سمع أذان كف وإلا أغار. {فأثرن به} أي أثرن بهذا العدو، وهذه الإغارة {نقعاً} وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي، فإن الخيل إذا سعت إذا اشتد عدوها في الأرض، وصار لها غبار من الكر والفر. {فوسطن به} أي توسطن بهذا الغبار {جمعاً} أي جموعاً من الأعداء أي أنها ليس لها غاية، ولا تنتهي غايتها إلا وسط الأعداء، وهذه غاية ما يكون من منافع الخيل، مع أن الخيل كلها خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». أقسم الله تعالى بهذه العاديات ـ بهذه الخيل التي بلغت الغاية ـ وهو الإغارة على العدو وتوسط العدو، من غير خوف ولا تعب ولا ملل. أما المقسم عليه فهو الإنسان فقال: {إن الإنسان لربه لكنود} والمراد بالإنسان هنا الجنس، أي أن جنس الإنسان، إذا لم يوفق للهداية فإنه {لكنود} أي كفور لنعمة الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72]. وقيل: المراد بالإنسان هو الكافر، فعلى هذا يكون عامًّا أريد به الخاص، والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنوداً لربه عز وجل، والكنود هو الكفر، أي كافر لنعمة الله عز وجل، يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الرزق عتواً ونفوراً، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله عز وجل، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله. {وإنه على ذلك لشهيد} {إنه} الضمير قيل: يعود على الله، أي أن الله تعالى يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله.
وقيل: إنه عائد على الإنسان نفسه، أي أن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله عز وجل.
والصواب أن الاية شاملة لهذا وهذا، فالله شهيد على ما في قلب ابن آدم، وشهيد على عمله، والإنسان أيضاً شهيد على نفسه، لكن قد يقر بهذه الشهادة في الدنيا، وقد لا يقر بها فيشهد على نفسه يوم القيامة كما قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. {وإنه} أي الإنسان {لحب الخير لشديد} الخير هو المال كما قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية} [البقرة: 180]. أي: إن ترك مالاً كثيراً. فالخير هو المال، والإنسان حبه للمال أمر ظاهر، قال الله تعالى: {وتحبون المال حبًّا جًّما} [الفجر: 20]. ولا تكاد تجد أحداً يسلم من الحب الشديد للمال، أما الحب مطلق الحب فهذا ثابت لكل أحد، ما من إنسان إلا ويحب المال، لكن الشدة ليست لكل أحد، بعض الناس يحب المال الذي تقوم به الكفاية، ويستغني به عن عبادالله، وبعض الناس يريد أكثر، وبعض الناس يريد أوسع وأوسع. فالمهم أن كل إنسان فإنه محب للخير أي للمال، لكن الشدة تختلف، ويختلف فيها الناس من شخص لاخر، ثم إن الله تعالى ذكَّر الإنسان حالاً لابد له منها فقال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور} فيعمل لذلك، ولا يكن همه المال {أفلا يعلم} أي يتيقن. {إذا بعثر ما في القبور} أي: نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين، كأنهم جراد منتشر، يخرجون جميعاً بصيحة واحدة {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. {وحصل ما في الصدور} أي ما في القلوب من النيات، وأعمال القلب كالتوكل، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك. وهنا جعل الله عز وجل العمدة ما في الصدور كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق: 9، 10]. لأنه في الدنيا يعامل الناس معاملة الظاهر، حتى المنافق يعامل كما يعامل المسلم حقًّا، لكن في الاخرة العمل على ما في القلب، ولهذا يجب علينا أن نعتني بقلوبنا قبل كل شيء قبل الأعمال؛ لأن القلب هو الذي عليه المدار، وهو الذي سيكون الجزاء عليه يوم القيامة، ولهذا قال: {وحصل ما في الصدور} ومناسبة الايتين بعضهما لبعض أن بعثرة ما في القبور إخراج للأجساد من بواطن الأرض، وتحصيل ما في الصدور إخراج لما في الصدور، مما تكنه الصدور، فالبعثرة بعثرة ما في القبور عما تكنه الأرض، وهنا عما يكنه الصدر، والتناسب بينهما ظاهر. {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} أي إن الله عز وجل بهم: أي: بالعباد لخبير، وجاء التعبير {بهم} ولم يقل (به) مع أن الإنسان مفرد، باعتبار المعنى، أي: أنه أعاد الضمير على الإنسان باعتبار المعنى، لأن معنى {إن الإنسان} أي: أن كل إنسان، وعلق العلم بذلك اليوم {إن ربهم بهم يومئذ} لأنه يوم الجزاء، والحساب، وإلا فإن الله تعالى عليم خبير في ذلك اليوم وفيما قبله، فهو جل وعلا عالم بما كان، وما يكون لو كان كيف يكون.
هذا هو التفسير اليسير لهذه السورة العظيمة، ومن أراد البسط فعليه بكتب التفاسير التي تبسط القول في هذا، ونحن إنما نشير إلى المعاني إشارة موجزة. نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، وأن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير

صقر قريش 09-02-2009 07:01 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم القارعة محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ * فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{القارعة} اسم فاعل من قرع، والمراد: التي تقرع القلوب وتفزعها وذلك عند النفخ في الصور، كما قال تعالى: {ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاءالله وكل أتوه داخرين} [النمل: 87]. فهي تقرع القلوب بعد قرع الأسماع، وهذه القارعة هي قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، كما تسمى الغاشية، والحاقة، وقوله: {ما القارعة} {ما} هنا استفهام بمعنى التعظيم والتفخيم يعني: ما هي القارعة التي ينوه عنها؟ {وما أدراك ما القارعة} هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل، يعني أي شيء أعلمك عن هذه القارعة؟ أي ما أعظمها وما أشدها، ثم بين متى تكون؟ فقال جل وعلا: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} أي: أنها تكون في ذلك الوقت، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم. قال العلماء: يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدي، وتتراكم وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى. و{المبثوث} يعني المنتشر، فهو كقوله تعالى: {يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} [القمر: 7]. لو تصورت هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه لتصورت أمراً عظيماً لا نظير له، هؤلاء العالم من آدم إلى أن تقوم الساعة كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير القبور كالذي ألقي في لجة البحر، وأكلته الحيتان، أو في فلوات الأرض، وأكلته السباع، أو ما أشبه ذلك، كلهم سيخرجون مرة واحدة، يصولون ويجولون في هذه الأرض. أما الجبال وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة فتكون {كالعهن المنفوش} {العهن} الصوف. وقيل: القطن. {المنفوش} المبعثر أي: أن هذه الجبال بعد أن كانت صلبة قوية راسخة تكون مثل العهن الصوف، أو القطن المبعثر ـ سواء نفشته بيدك أو بالمنداف فإنه يكون خفيفاً يتطاير مع أدنى ريح، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى أن الجبال تكون هباء منبثًّا {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثًّا} [الواقعة: 5، 6]. وقال جل وعلا هنا: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش}. {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينة فأمه هاوية. وما أدراك ما هي. نار حامية}. قسم الله تعالى الناس إلى قسمين:
القسم الأول: من ثقلت موازينه وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته. والثاني: من خفت موازينه وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو الذي ليس له حسنة أصلاً كالكافر، يقول الله تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية} العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة، يقال: عاش الرجل زمناً طويلاً، أي: بقي وحيي زمناً طويلاً، والعيشة هنا على وزن فعلة فهي هيئة وليست مصدراً، المصدر الدال على الوحدة أن تقول عيشة، وأما إذا قلت عِيْشَة فهي فعلة تدل على الهيئة، كما قال ابن مالك رحمه الله:
وفعلة لمرة كجَلسةٍ وفعلة لهيئة كجِلسةًالمعنى: أنه في حياة طيبة راضية. {راضية} قيل: إنها اسم فاعل بمعنى اسم المفعول، أي: مرضية. وقيل: إنها اسم فاعل من باب النسبة أي ذات رضى، وكلا المعنيين واحد، والمعنى: أنها عيشة طيبة ليس فيها نكد، وليس فيها صخب، وليس فيها نصب، كاملة من كل وجه، وهذا يعني العيش في الجنة جعلنا الله منهم. هذا العيش لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، لا يحزنون، ولا يخافون، في أنعم عيش، وأطيب بال، وأسر حال فهي عيشة راضية. {وأما من خفت موازينه} إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة، لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا ولا تنفعه في الاخرة، أو أنه مسلم ولكنه مسرف على نفسه وسيئاته أكثر. {فأمه هاوية} أم هنا بمعنى مقصوده، أي: الذي يقصده الهاوية، والهاوية من أسماء النار،يعني أنه مآله إلى نار جهنم ـ والعياذ بالله ـ.
وقيل: إن المراد بالأم هنا: أم الدماغ، والمعنى: أنه يلقى في النار على أم رأسه. نسأل الله السلامة. وإذا كانت الاية تحتمل معنيين لا يترجح أحدهما على الاخر ولا يتنافيان فإنه يؤخذ بالمعنيين جميعاً فيقال: يرمى في النار على أم رأسه، وأيضاً ليس له مأوى ولا مقصد إلا النار. {وما أدراك ما هيه} هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهوية، يسأل ما هي؟ أتدري ما هي؟ إنها لشيء عظيم، إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحمو، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً». إذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب، أو الورق، أو البتغاز أو أشد من ذلك فإن نار جهنم مفضلة عليها بتسعة وستين جزءاً نسأل الله العافية. وفي هذه الاية التخويف والتحذير من هذا اليوم وأن الناس لا يخرجون عن حالين:
إما رجل رجحت حسناته، أو رجل رجحت سيئاته.
وفيها أيضاً دليل على أن يوم القيامة فيه موازين، وقد جاء في بعض النصوص أنه ميزان فهل هو واحد أو متعدد؟
قال بعض أهل العلم: إنه واحد وإنماجمع باعتبار الموزون، لأنه يوزن فيه الحسنات والسيئات، وتوزن فيه حسنات فلان وفلان، وتوزن فيه حسنات هذه الأمة والأمة الأخرى، فهو مجموع باعتبار الموزون لا باعتبار الميزان، وإلا فالميزان واحد.
وقال بعض أهل العلم: إنها موازين متعددة، لكل أمة ميزان، ولكل عمل ميزان فلهذا جمعت.
والأظهر ـ والله أعلم أنه ميزان واحد ـ لكنه جمع باعتبار الموزون على حسب الأعمال، أو على حسب الأمم، أو على حسب الأفراد.
وفي هذه الاية دليل على أن الإنسان إذا تساوت حسناته وسيئاته فإنه قد سكت عنه في هذه الاية، ولكن بين الله تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار وإنما يحبسون في مكان يقال له الأعراف، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين، وأنهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن رجحت حسناته على سيئاته، وأن يغفر لنا، ويعاملنا بعفوه، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:01 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم التكاثر محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{أَلْهَـكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْـَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} هذه الجملة جملة خبرية يخبر الله عز وجل بها العباد مخاطباً لهم يقول: {ألهاكم التكاثر} ومعنى {ألهاكم} أي شغلكم حتى لهوتم عن ما هو أهم من ذكر الله تعالى والقيام بطاعته، والخطاب هنا لجميع الأمة إلا أنه يخصص بمن شغلتهم أمور الاخرة عن أمور الدنيا وهم قليل، وإنما نقول هم قليل لأنه ثبت في الصحيحين أن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة: {يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعين»، واحد في الجنة والباقي في النار، وهذا عدد هائل! إذا لم يكن من بني آدم إلا واحداً من الألف من أهل الجنة والباقون من أهل النار، إذاً فالخطاب بالعموم في مثل هذه الاية جار على أصله، لأن الواحد من الألف ليس بشيء بالنسبة إليه، وأما قوله: {التكاثر} فهو يشمل التكاثر بالمال، والتكاثر بالقبيلة، والتكاثر بالجاه، والتكاثر بالعلم، وبكل ما يمكن أن يقع فيه التفاخر، ويدل لذلك قول صاحب الجنة لصاحبه: {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً} [الكهف: 34]. فالإنسان قد يتكاثر بماله فيطلب أن يكون أكثر من الاخر مالاً وأوسع تجارة، وقد يتكاثر الإنسان بقبيلته، يقول نحن أكثر منهم عدداً، كما قال الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثرأكثر منهم حصى؛ لأنهم كانوا فيما سبق يعدون الأشياء بالحصى. فمثلاً: إذا كان هؤلاء حصاهم عشرة آلاف، والاخرون حصاهم ثمانية آلاف صار الأول أكثر وأعز، فيقول الشاعر:
لست بالأكثر منهم حصى وإنما العزةُ للكاثر كذلك يتكاثر الإنسان بالعلم، فتجده يكاثر على غيره بالعلم لكن إن كان بالعلم الشرعي فهو خير، وإن كان بالعلم غير الشرعي فهو إما مباح وإما محرم. وهذا هو الغالب على بني آدم التكاثر. فيتكاثرون في هذه الأمور عما خلقوا له من عبادة الله عز وجل. وقوله: {حتى زرتم المقابر} يعني إلى أن زرتم المقابر، يعني إلى أن مُتم، فالإنسان مجبول على التكاثر إلى أن يموت، بل كلما ازداد به الكِبر ازداد به الأمل، فهو يشيب في السن ويشب في الأمل، حتى إن الرجل له تسعون سنة مثلاً تجد عنده من الامال وطول الأمل ما ليس عند الشاب الذي له خمس عشرة سنة. هذا هو معنى الاية الكريمة. أي: أنكم تلهوتم بالتكاثر عن الاخرة إلى أن متم.
وقيل: إن معنى {حتى زرتم المقابر} حتى أصبحتم تتكاثرون بالأموات كما تتكاثرون بالأحياء، فيأتي الإنسان فيقول: أنا قبيلتي أكثر من قبيلتك وإذا شئت فاذهب إلى القبور عد القبور منا، وعد القبور منكم فأينا أكثر؟ لكن هذا قول ضعيف بعيد من سياق الاية. والمعنى الأول هو الصحيح أنكم تتكاثرون إلى أن تموتوا. وقوله: {حتى زرتم المقابر} استدل به عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ على أن الزائر لابد أن يرجع إلى وطنه، وأن القبور ليست بدار إقامة، وكذلك يذكر عن بعض الأعراب أنه سمع قارىء يقرأ: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال: «والله ما الزائر بمقيم والله لنبعثن»، لأن الزائر كما هو معروف يزور ويرجع، فقال: والله لنبعثن. وهذا هو الحق. وبهذا نعرف أن ما يذكره بعض الناس الان في الجرائد وغيرها. يقول عن الرجل إذا مات: «إنه انتقل إلى مثواه الأخير»، إن هذا كلام باطل وكذب؛ لأن القبور ليس هي المثوى الخير، بل لو أن الإنسان اعتقد مدلول هذا اللفظ لصار كافراً بالبعث، والكفر بالبعث ردة عن الإسلام، لكن كثيًرا من الناس يأخذون الكلمات ولا يدرون ما معناها، ولعل هذه موروثة عن الملحدين الذين لا يقرون بالبعث بعد الموت، لهذا يجب تجنب هذه العبارة، فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير؛ لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة. ثم قال الله تعالى: {كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون} قيل: إن {كلا} بمعنى الردع يعني: ارتدعوا عن هذا التكاثر، وقيل: إنها بمعنى حقًّا، ومعنى {سوف تعلمون} أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم إذا رجعتم إلى الاخرة، وأن هذا التكاثر لا ينفعكم. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه مسلم «يقول ابن آدم: مالي ومالي ـ يعني: يفتخر به ـ وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» والباقي تاركه لغيرك وهذا هو الحق، أموالنا التي بين أيدينا. إما أن نأكلها فتفنى، وإما أن نلبسها فتبلى، وإما أن نتصدق بها فنمضيها وتكون أمامنا يوم القيامة. وإما أن نتركها لغيرنا لا يمكن أن يخرج المال الذي بأيدينا عن هذه القسمة الرباعية. {كلا سوف تعلمون} أي: سوف تعلمون عاقبة أمركم بالتكاثر الذي ألهاكم عن الاخرة {ثم كلا سوف تعلمون} وهذه الجملة تأكيد للردع مرة ثانية، ثم قال: {كلا لو تعلمون علم اليقين} يعني: حقًّا لو تعلمون علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال، ولكنكم لا تعلمون علم اليقين، لأنكم غافلون لاهون في هذه الدنيا،ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنكم في ضلال وفي خطأ عظيم. ثم قال تعالى: {لترون الجحيم. ثم لترونها عين اليقين} {لترون} هذه الجملة مستقلة ليست جواب «لو» ولهذا يجب على القارىء أن يقف عند قوله: {كلا لو تعلمون علم اليقين} ونحن نسمع كثيراً من الأئمة يصلون فيقولون {كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم} وهذا الوصل إما غفلة منهم ونسيان، وإما أنهم لم يتأملوا الاية حق التأمل، وإلا لو تأملوها حق التأمل لوجدوا أن الوصل يفسد المعنى لأنه إذا قال «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» صار رؤية الجحيم مشروطة بعلمهم، وهذا ليس بصحيح، لذلك يجب التنبه والتنبيه لهذا من سمع أحد يقرأ «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» ينبه ويقول له: يا أخي هذا الوصل يوهم فساد المعنى، فلا تصل وقف، أولاً: لأنها رأس آية، والمشروع أن يقف الإنسان عند رأس كل آية، وثانياً: أن الوصل يفسد المعنى «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم» إذاً {لترون الجحيم} جملة مستأنفة لا صلة لها بما قبلها، وهي جملة قسمية، فيما قسم مقدر والتقدير: والله لترون الجحيم، ولهذا يقول المعربون في إعرابها: إن اللام موطئة للقسم، وجملة «ترون» هي جواب القسم، والقسم محذوف والتقدير «والله لترون الجحيم» و{الجحيم} اسم من أسماء النار {ثم لترونها عين اليقين} تأكيد لرؤيتها، ومتى ترى؟ تُرى يوم القيامة، يؤتى بها تُجر بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، فما ظنك بهذه النار ـ والعياذ بالله ـ إنها نار كبيرة عظيمة لأن فيها سبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، والملائكة عظام شداد فهي نار عظيمة ـ أعاذنا الله منها. {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} يعني: ثم في ذلك الوقت في ذلك الموقف العظيم تسألن عن النعيم، واختلف العلماء رحمهم الله في قوله: {لتسألن يومئذ عن النعيم} هل المراد الكافر، أو المراد المؤمن والكافر؟
والصواب: أن المراد المؤمن والكافر كل يسأل عن النعيم، لكن الكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع، والمؤمن يسأل سؤال تذكير، والدليل على أنه عام ما جرى في قصة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي بكر وعمر، فعن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: الجوع، يا رسول الله! قال: «وأنا، والذي نفسي بيده! لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا» فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً! وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أين فلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصاحبه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بُسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إياك! والحلوب» فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر: «والذي نفسي بيده! لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم». وفي رواية أخرى: «هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد».وهذا دليل على أن الذي يُسأل المؤمن والكافر. ولكن يختلف السؤال، سؤال المؤمن سؤال تذكير بنعمة الله عز وجل عليه حتى يفرح، ويعلم أن الذي أنعم عليه في الدنيا ينعم عليه في الاخرة، بمعنى أنه إذا تكرم بنعمته عليه في الدنيا تكرم عليه بنعمته في الاخرة، أما الكافر فإنه سؤال توبيخ وتنديم. نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعل ما رزقنا عونًا على طاعته، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:02 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم العصر محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَـنَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
يقول الله عز وجل: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر} أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.
وقيل: إن العصر هو الزمان. وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب. فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع. أقسم الله به على قوله: {إن الإنسان لفي خسر} والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل «ال» كلمة «كل» فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الاية الكريمة أن الله أقسم قسماً على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: (إنّ) والثالث: (اللام) وأتى بقوله {لفي خسر} ليكون أبلغ من قوله: (لخاسر) وذلك أن «في» للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع:
الصفة الأولى: الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول صلى الله عليه وسلّم حين سأله جبريل عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيماناً لا شك معه ولا تردد. بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين. والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مؤمن خالص الإيمان؛ إيماناً لا شك فيه ولا تردد.
والقسم الثاني: كافر جاحد منكر.
والقسم الثالث: متردد. والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيماناً لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل عليه الصلاة والسلام مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات. وإسرافيل: موكل بالنفخ بالصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة. ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضاً، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد»، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالاً؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78]. واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلاً، بهماً. فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا. والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم عراة قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «الأمر أعظم من ذلك» أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا «أن تؤمن بالله واليوم الاخر» والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. إذاً فالإيمان في قوله: {إلا الذين آمنوا} يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام. أما قوله: {وعملوا الصالحات} فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و{الصالحات} هي التي اشتملت على شيئين:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
والثاني: المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.
وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصاً لله فهو مردود. قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحاً في ظاهره. كذلك الاتباع لو أنك عملت عملاً لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». إذاً العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وتواصوا بالحق} أي: صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطاً في واجب. أوصاه وقال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلاً لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، {وتواصوا بالصبر} أي: يوصي بعضهم بعضاً بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على طاعة الله.
القسم الثاني: صبر عن محارم الله.
القسم الثالث: صبر على أقدار الله.
الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلاً: لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد. أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك. فيقال له: يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]. أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلاً تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له: اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضاً يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشياً في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له: يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء.
ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئاً، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب». الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط.
فإن قيل: أي أنواع الصبر أشق على النفوس؟
فالجواب: هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جداً، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11]. إذاً نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: «لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم». يعني: كفتهم موعظة وحثاً على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك. وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران. نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:02 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الهمزة محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ويل لكل همزة} في هذه السورة يبتدىء الله سبحانه وتعالى بكلمة {ويل} وهي كلمة وعيد، أي أنها تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات. {همزة لمزة} إلى آخره، وقيل: إن {ويل} اسم لوادٍ في جهنم ولكن الأول أصح. {لكل همزة لمزة} كل من صيغ العموم، والهمزة واللمزة وصفان لموصوف واحد، فهل هما بمعنى واحد؟ أو يختلفان في المعنى؟
قال بعض العلماء: إنهما لفظان لمعنى واحد، يعني أن الهمزة هو اللمزة. وقال بعضهم: بل لكل واحد منهما معنى غير المعنى الاخر.
وثم قاعدة أحب أن أنبه عليها في التفسير وغير التفسير وهي: أنه إذا دار الأمر بين أن تكون الكلمة مع الأخرى بمعنى واحد، أو لكل كلمة معنى، فإننا نجعل لكل واحدة معنى، لأننا إذا جعلنا الكلمتين بمعنى واحد صار في هذا تكرار لا داعي له، لكن إذا جعلنا كل واحدة لها معنى صار هذا تأسيسًا وتفريقًا بين الكلمتين، والصحيح في هذه الاية {لكل همزة لمزة} أن بينهما فرقًا: فالهمزة: بالفعل. واللمز: باللسان، كما قال الله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]. فالهمز بالفعل يعني أنه يسخر من الناس بفعله إما أن يلوي وجهه، أو يعبس بوجهه. أو ما أشبه ذلك، أو بالإشارة يشير إلى شخص، انظروا إليه ليعيبه أو ما أشبه ذلك، فالهمز يكون بالفعل، واللمز باللسان، وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ مشغوف بعيب البشر إما بفعله وهو الهمَّاز، وإما بقوله وهو اللمَّاز، وهذا كقوله تعالى: {ولا تطع كل حلاَّف مهين. هَّماز مشاء بنميم} [القلم: 10، 11]. {الذي جمع مالاً وعدده} هذه أيضاً من أوصافه القبيحة جماع مناع، يجمع المال، ويمنع العطاء، فهو بخيل لا يعطي يجمع المال ويعدده. {وعدده} وقيل: معنى التعديد يعني الإحصاء يعني لشغفه بالمال كل مرة يذهب إلى الصندوق ويعد، يعد الدراهم في الصندوق في الصباح، وفي آخر النهار يعدها، وهو يعرف أنه لم يأخذ منه شيئاً ولم يضف إليه شيئاً لكن لشدة شغفه بالمال يتردد عليه ويعدده، ولهذا جاءت بصيغة المبالغة {عدده} يعني أكثر تعداده لشدة شغفه ومحبته له يخشى أن يكون نقص، أو يريد أن يطمئن زيادة على ما سبق فهو دائماً يعدد المال.
وقيل معنى {عدده} أي جعله عُدة له يعني ادخره لنوائب الدهر، وهذا وإن كان اللفظ يحتمله لكنه بعيد، لأن إعداد المال لنوائب الدهر مع القيام بالواجب بأداء ما يجب فيه من زكاة وحقوق ليس مذموماً، وإنما المذموم أن يكون أكبر هم الإنسان هو المال، يتردد إليه ويعدده، وينظر هل زاد، هل نقص، فالقول بأن المراد عدده أي: جمعه للمستقبل قول ضعيف. {يحسب أن ماله أخلده} يعني يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه، إما بجسمه وإما بذكره، لأن عمر الإنسان ليس ما بقي في الدنيا، بل عمر الإنسان حقيقة ما يخلده بعد موته، ويكون ذكراه في قلوب الناس وعلى ألسنتهم، فيقول في هذه الاية: {يحسب أن ماله أخلده} أي: أخلد ذكره أو أطال عمره، والأمر ليس كذلك. فإن أهل الأموال إذا لم يُعرفوا بالبذل والكرم فإنهم يخلدون لكن بالذكر السيىء. فيقال: أبخل من فلان، وأبخل من فلان ويذكر في المجالس ويعاب، ولهذا قال: {كلا لينبذن في الحطمة} {كلا} هنا يسميها العلماء حرف ردع أي: تردع هذا القائل أو هذا الحاسب عن قوله أو عن حسبانه. ويحتمل أن تكون بمعنى حقًّا «يعني حقاً لينبذن» وكلاهما صحيح، هذا الرجل لن يخلده ماله، ولن يخلد ذكراه، بل سينسى ويطوى ذكره، وربما يذكر بالسوء لعدم قيامه بما أوجب الله عليه من البذل. {لينبذن في الحطمة} اللام هذه واقعة في جواب القسم المقدر، والتقدير «والله لينبذن في الحطمة» أي: يطرح طرحاً. وإذا قلنا: أن اللام لجواب القسم صارت هذه الجملة مؤكدة باللام، ونون التوكيد، والقسم المحذوف. ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، أي تأكيد الشيء باليمين، واللام، والنون. والله تعالى يقسم بالشيء تأكيداً له وتعظيماً لشأنه. وقوله: {لينبذن} ما الذي يُنبذ هل هو صاحب المال أو المال؟ كلاهما ينبذ، أما صاحب المال فإن الله يقول في آية أخرى: {يوم يدَّعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13]. أي: يدفعون، وهنا يقول: «ينبذ» أي يطرح في الحطمة، والحطمة هي التي تحطم الشيء، أي: تفتته وتكسره فما هي؟ قال الله تعالى: {وما أدراك ما الحطمة} وهذه الصيغة للتعظيم والتفخيم {نار الله الموقدة} هذا الجواب أي: هي نار الله الموقدة. وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه؛ لأنه يعذب بها من يستحق العذاب فهي عقوبة عدل وليست عقوبة ظلم. أي: نار يحرق الله بها من يستحق أن يُعذب بها، إذاً هي نار عدل وليست نار ظلم. لأن الإحراق بالنار قد يكون ظلماً وقد يكون عدلاً، فتعذيب الكافرين في النار لا شك أنه عدل، وأنه يُثنى به على الرب عز وجل حيث عامل هؤلاء بما يستحقون. وتأمل قوله: {الحطمة} مع فعل هذا الفاعل {همزة لمزة} حطمة، وهمزة لمزة، على وزن واحد ليكون الجزاء مطابقاً للعمل حتى في اللفظ {نار الله الموقدة} أي: المسجّرة المسعرة. {التي تطلع على الأفئدة} الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب. والمعنى: أنها تصل إلى القلوب ـ والعياذ بالله ـ من شدة حرارتها، مع أن القلوب مكنونة في الصدور وبينها وبين الجلد الظاهر ما بينها من الطبقات لكن مع ذلك تصل هذه النار إلى الأفئدة. {إنها عليهم} أي: الحطمة وهي نار الله الموقدة أي على الهمَّاز واللمَّاز الجمَّاع للمال المناع للخير، وأعاد الضمير بلفظ الجمع مع أن المرجع مفرد باعتبار المعنى، لأن {لكل همزة} عام يشمل جميع الهمَّازين وجميع اللمَّازين {مؤصدة} أي: مغلقة، مغلقة الأبواب لا يُرجى لهم فرج ـ والعياذ بالله ـ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} يعني: يرفعون إلى أبوابها حتى يطمعوا في الخروج ثم بعد ذلك يركسون فيها ويعادون فيها، كل هذا لشدة التعذيب؛ لأن الإنسان إذا طمع في الفرج وأنه سوف ينجو ويخلص يفرح، فإذا أعيد صارت انتكاسة جديدة، فهكذا يعذبون بضمائرهم وأبدانهم، وعذاب أهل النار مذكور مفصل في القرآن الكريم والسنة النبوية. تأمل الان لو أن إنسانًا كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مهرب، الأبواب مغلقة ماذا يكون؟ في حسرة عظيمة لا يمكن أن يماثلها حسرة. فهم ـ والعياذ بالله ـ هكذا في النار، النار عليهم مؤصدة {في عمد ممددة} أي: أن هذه النار مؤصدة، وعليها أعمدة ممدة أي ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها.
حكى الله سبحانه وتعالى ذلك علينا وبينه لنا في هذه السورة لا لمجرد أن نتلوه بألسنتنا، أو نعرف معناه بأفهامنا، لكن المراد أن نحذر من هذه الأوصاف الذميمة: عيب الناس بالقول، وعيب الناس بالفعل، والحرص على المال حتى كأن الإنسان إنما خلق للمال ليخلد له، أو يخلد المال له، ونعلم أن من كانت هذه حاله فإن جزاءه هذه النار التي هي كما وصفها الله، الحطمة، تطلع على الأفئدة، مؤصدة، في عمد ممدة. نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والاستقامة على دينه

صقر قريش 09-02-2009 07:02 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الفيل محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَـبِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه، فعلى الأول يكون خطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطاب له وللأمة؛ لأن أمته تابعة له، وعلى الثاني يكون الخطاب عام له ولأمته، ابتداءً، وعلى كلٍّ فإن الله تعالى يقرر ما فعل سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل هم أهل اليمن الذين جاؤوا لهدم الكعبة بفيل عظيم أرسله إليهم ملك الحبشة، وسبب ذلك أن ملك اليمن أراد أن يصد الناس عن الحج إلى الكعبة، بيت الله عز وجل فبنى بيتاً يشبه الكعبة، ودعى الناس إلى حجه ليصدهم عن حج بيت الله فغضب لذلك العرب، وذهب رجل منهم إلى هذا البيت الذي جعله ملك اليمن بدلاً عن الكعبة وتغوَّط فيه، ولطخ جدرانه بالقذر، فغضب ملك اليمن غضباً شديداً، وأخبر ملك الحبشة بذلك فأرسل إليه هذا الفيل العظيم قيل: وكان معه ستة فيلة لتساعده فجاء ملك اليمن بجنوده ليهدم الكعبة على زعمه، ولكن الله سبحانه حافظ بيته، فلما وصلوا إلى مكان يسمى المغمَّس وقف الفيل وحرن، وأبى أن يتجه إلى الكعبة فزجره سايسه ولكنه أبى، فإذا وجهوه إلى اليمن انطلق يهرول، وإن وجهوه إلى مكة وقف، وهذه آية من آيات الله عز وجل، ثم بقوا حتى أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل {ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل} قال العلماء: {طيراً أبابيل} يعني: جماعات متفرقة، كل طير في منقاره حجر صلب {من سجيل} وهو الطين المشوي؛ لأنه يكون أصلب، وهذا الحجر ليس كبيراً، بل هو صغير يضرب الواحد من هؤلاء مع رأسه ويخرج من دبره ـ والعياذ بالله ـ {فجعلهم كعصف مأكول} أي: كزرع أكلته الدواب ووطئته بأقدامها حتى تفتت.
هذا مجمل هذه السورة العظيمة التي بين الله سبحانه وتعالى فيها ما فعل بأصحاب الفيل وأن كيدهم صار في نحورهم، وهكذا كل من أراد الحق بسوء فإن الله تعالى يجعل كيده في نحره، وإنما حمى الله عز وجل الكعبة عن هذا الفيل مع أنه في آخر الزمان سوف يُسلط عليها رجل من الحبشة يهدمها حجراً حجراً حتى تتساوى بالأرض لأن قصة أصحاب الفيل مقدمة لبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي يكون فيها تعظيم البيت. أما في آخر الزمان فإن أهل البيت إذا أهانوه وأرادوا فيه بإلحاد بظلم، ولم يعرفوا قدره حينئذ يسلط الله عليهم من يهدمه حتى لا يبقى على وجه الأرض، ولهذا يجب على أهل مكة خاصة أن يحترزوا من المعاصي والذنوب والكبائر، لئلا يُهينوا الكعبة فيذلهم الله عز وجل. نسأل الله تعالى أن يحمي ديننا وبيته الحرام من كيد كل كائد، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:02 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم قريش محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{لإِيلَـفِ قُرَيْشٍ * إِيلَـفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة لها صلة بالسورة التي قبلها، إذ أن السورة التي قبلها فيها بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبين الله في هذه السورة نعمة أخرى كبيرة على أهل مكة، (على قريش) وهو إلا فهم مرتين في السنة، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، {لإيلف قريش. إلا فهم رحلة الشتاء والصيف} والإلـف بمعنى الجمع والضم، ويراد به التجارة التي كانوا يقومون بها مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، أما في الشتاء فيتجهون نحو اليمن للمحصولات الزراعية فيه، ولأن الجو مناسب، وأما في الصيف فيتجهون إلى الشام لأن غالب تجارة الفواكه وغيرها تكون في هذا الوقت في الصيف مع مناسبة الجو البارد، فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى على قريش في هاتين الرحلتين؛ لأنه يحصل منها فوائد كثيرة ومكاسب كبيرة من هذه التجارة، أمرهم الله أن يعبدوا رب هذا البيت قال: {فليعبدوا رب هذا البيت} شكراً له على هذه النعمة، والفاء هذه إما أن تكون فاء السببية، أي فبسبب هاتين الرحلتين ليعبدوا رب هذا البيت، أو أن تكون فاء التفريع، وأيًّا كان فهي مبنية على ما سبق، أي فبهذه النعم العظيمة يجب عليهم أن يعبدوا الله، والعبادة هي التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً. أن يتعبد الإنسان لله يتذلل له بالسمع والطاعة، فإذا بلغه عن الله ورسوله أمر قال: سمعنا وأطعنا، وإذا بلغه خبر قال: سمعنا وآمنا، على وجه المحبة والتعظيم، فبالمحبة يقوم الإنسان بفعل الأوامر، وبالتعظيم يترك النواهي خوفاً من هذا العظيم عز وجل، هذا معنى من معاني العبادة، وتطلق العبادة على نفس المتعبد به، وقد حدّها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بهذا المعنى فقال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة. وقوله: {رب هذا البيت} يعني به الكعبة المعظمة، وقد أضافها الله تعالى إلى نفسه في قوله تعالى: {وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} [الحج: 26]. وهنا أضاف ربوبيته إليه قال: {رب هذا البيت} وإضافة الربوبية إليه على سبيل التشريف والتعظيم {طهر بيتي للطائفين} أضاف الله البيت إليه تشريفاً وتعظيماً، إذاً خصص البيت بالربوبية مرة، وأضافه إلى نفسة مرة أخرى تشريفاً وتعظيماً، وفي آية ثانية قال: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} وبعدها قال: {وله كل شيء} احتراز من أن يتوهم واهم بأنه رب البلدة وحدها فقال: {وله كل شيء}، ولكل مقام صيغة مناسبة، ففي قوله: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} [النمل: 91]. مناسبة بيان عموم ملكه، لئلا يدعي المشركون أنه رب للبلدة فقط، أما هنا فالمقام مقام تعظيم للبيت فناسب ذكره وحده قوله: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} {الذي} هذه صفة للرب، إذاً فمحلها النصب، ولهذا يحسن أن تقف فتقول {فليعبدوا رب هذا البيت} ثم تقول: {الذي أطعمهم} لأنك لو وصلت فقلت: «رب هذا البيت الذي أطعمهم» لظن السامع أن «الذي» صفة للبيت، وهذا بعيد من المعنى ولا يستقيم به المعنى. {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} بين الله نعمته عليهم، النعمة الظاهرة والباطنة، فإطعامهم من الجوع وقاية من الهلاك في أمر باطن، وهو الطعام الذي يأكلونه، {وآمنهم من خوف} وقاية من الخوف في الأمر الظاهر؛ لأن الخوف ظاهر، إذا كانت البلاد محوطة بالعدو، وخاف أهلها وامتنعوا عن الخروج، وبقوا في ملاجئهم، فذكرهم الله بهذه النعمة، {وآمنهم من خوف} آمن مكان في الأرض هو مكة، ولذلك لا يُقطع شجرها، ولا يُحش حشيشها، ولا تُلتقط ساقطتها، ولا يصاد صيدها، ولا يسفك فيها دم، وهذه الخصائص لا توجد في البلاد الأخرى حتى المدينة، محرمة ولها حرم، لكن حرمها دون حرم مكة بكثير، حرم مكة لا يمكن أن يأتيه أحد من المسلمين لم يأتها ولا مرة إلا محرماً، والمدينة ليست كذلك، حرم مكة يحرم حشيشه وشجره مطلقاً، وأما حرم المدينة فرخص في بعض شجره للحرث ونحوه. صيد مكة حرام وفيه الجزاء، وصيد المدينة ليس فيه الجزاء، فأعظم مكان آمن هو مكة، حتى الأشجار آمنة فيه، وحتى الصيود آمنة فيه، ولولا أن الله تعالى يسر على عباده لكان حتى البهائم التي ليست صيوداً تحرم، لكن الله تعالى رحم العباد وأذن لهم أن يذبحوا وينحروا في هذا المكان. وهذه النعمة ذكرهم الله بها في قوله: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} [العنكبوت: 67]. يعني أفلا يشكرون الله على هذا؟! فهذه السورة كلها تذكير لقريش بما أنعم الله عليهم في هذا البيت العظيم، وفي الأمن من الخوف، وفي الإطعام من الجوع.
فإذا قال قائل: ما واجب قريش نحو هذه النعمة؟ وكذلك ما واجب من حلّ في مكة الان من قريش أو غيرهم؟
قلنا: الواجب الشكر لله تعالى بالقيام بطاعته، بامتثال أمره واجتناب نهيه. ولهذا إذا كثرت المعاصي في الحرم فالخطر على أهله أكثر من الخطر على غيرهم، لأن المعصية في مكان فاضل أعظم من المعصية في مكان مفضول، ولهذا قال الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25]. فتوعد الله تعالى من أراد فيه أي من هم به فيه بإلحاد فضلاً عمن ألحد. والواجب على المرء أن يذكر نعمة الله عليه في كل مكان، لا في مكة فحسب، فبلادنا ـ ولله الحمد ـ اليوم من آمن بلاد العالم، وهي من أشد بلاد العالم رغداً وعيشاً. أطعمنا الله تعالى من الجوع، وآمننا من الخوف، فعلينا أن نشكر هذه النعمة، وأن نتعاون على البر والتقوى، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الدعوة إلى الله على بصيرة وتأنٍ وتثبت، وأن نكون إخوة متآلفين، والواجب علينا ولاسيما على طلبة العلم إذا اختلفوا فيما بينهم أن يجلسوا للتشاور، وللمناقشة الهادئة التي يقصد منها الوصول إلى الحق، ومتى تبين الحق للإنسان وجب عليه اتباعه، ولا يجوز أن ينتصر لرأيه؛ لأنه ليس مشرعاً معصوماً حتى يقول إن رأيه هو الصواب، وأن ما عداه هو الخطأ. الواجب على الإنسان المؤمن أن يكون كما أراد الله منه، {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} [الأحزاب: 36]. أما كون الإنسان ينتصر لرأيه ويصر على ما هو عليه، ولو تبين له أنه باطل فهذا خطأ، وهذا من دأب المشركين الذين أبوا أن يتبعوا الرسول وقالوا: {إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]. نسأل الله أن يديم علينا نعمة الإسلام، والأمن في الأوطان، وأن يجعلنا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:03 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الماعون محمد بن صالح العثيمين
تفسير سورة الماعون
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
يقول الله تبارك وتعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين} {أرأيت} الخطاب هل هو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه الذي أنزل عليه القرآن؟ أو هو عام لكل من يتوجه إليه الخطاب؟ العموم أولى فنقول: {أرأيت الذي} عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، {أرأيت الذي يكذب بالدين} أي بالجزاء، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث ويقولون: {أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون. أوءاباؤنا الأولون} [الصافات: 16، 17]. ويقول القائل منهم: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: 78]. هؤلاء يكذبون بيوم الدين أي: بالجزاء. {فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين} فجمع بين أمرين:
الأمر الأول: عدم الرحمة بالأيتام الذين هم محل الرحمة؛ لأن الأيتام هم الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا، وهم محل الشفقة والرحمة؛ لأنهم فاقدون لابائهم فقلوبهم منكسرة يحتاجون إلى جابر. ولهذا وردت النصوص بفضل الإحسان إلى الأيتام. لكن هذا ـ والعياذ بالله ـ {يدع اليتيم} أي: يدفعه بعنف، لأن الدع هو الدفع بعنف كما قال الله تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13]. أي: دفعاً شديداً، فتجد اليتيم إذا جاء إليه يستجديه شيئاً، أو يكلمه في شيء يحتقره ويدفعه بشدة فلا يرحمه.
الأمر الثاني: لا يحثون على رحمة الغير {ولا يحض على طعام المسكين} فالمسكين الفقير المحتاج إلى الطعام لا يحض هذا الرجل على إطعامه؛ لأن قلبه حجر قاسٍ، فقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة. إذاً ليس فيه رحمة لا للأيتام ولا للمساكين، فهو قاسي القلب.
ثم قال عز وجل: {فويل للمصلين} ويل: هذه كلمة وعيد وهي تتكرر في القرآن كثيراً، والمعنى الوعيد الشديد على هؤلاء، {الذين هم عن صلاتهم ساهون} هؤلاء مصلون يصلون مع الناس أو أفراداً لكنهم {عن صلاتهم ساهون} أي: غافلون عنها، لا يقيمونها على ما ينبغي، يؤخرونها عن الوقت الفاضل، لا يقيمون ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا قعودها، لا يقرأون ما يجب فيها من قراءة سواء كانت قرآناً أو ذكراً، إذا دخل في صلاته هو غافل، قلبه يتجول يميناً وشمالاً، فهو ساهٍ عن صلاته، وهذا مذموم، الذي يسهو عن الصلاة ويغفل عنها ويتهاون بها لا شك أنه مذموم. أما الساهي في صلاته فهذا لا يُلام، والفرق بينهما أن الساهي في الصلاة معناه أنه نسي شيئاً، نسي عدد الركعات، نسي شيئًا من الواجبات وما أشبه ذلك. ولهذا وقع السهو من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أشد الناس إقبالاً على صلاته بل إنه قال عليه الصلاة والسلام: «جعلت قرة عيني في الصلاة»، ومع ذلك سهى في صلاته لأن السهو في الشيء معناه أنه نسي شيئًا على وجه لا يلام عليه. أما الساهي عن صلاته فهو متعمد للتهاون في صلاته، ومن السهو عن الصلاة أولئك القوم الذين يدعون للصلاة مع الجماعة، فإنهم لا شك عن صلاتهم ساهون فيدخلون في هذا الوعيد. {فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يرآءون} أيضاً إذا فعلوا الطاعة فإنما يقصدون بها التزلف إلى الناس، وأن يكون لهم قيمة في المجتمع، ليس قصدهم التقرب إلى الله عز وجل، فهذا المرائي يتصدق من أجل أن يقول الناس ما أكرمه، هذا المصلي يحسن صلاته من أجل أن يقول الناس ما أحسن صلاته وما أشبه ذلك. هؤلاء يراءون، فأصل العبادة لله، لكن يريدون مع ذلك أن يحمدهم الناس عليها، ويتقربون إلى الناس بتقربهم إلى الله، هؤلاء هم المراءون. أما من يصلي لأجل الناس بمعنى أنه يصلي بين يدي الملك مثلاً أو غيره يخضع له ركوعاً، أو سجوداً فهذا مشرك كافر قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار. لكن هذا يصلي لله مع مراعاة أن يحمده الناس على عبادته، على أنه عابد لله عز وجل. وهذا يقع كثيراً في المنافقين. كما قال الله تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142]. انظر إلى هذا الوصف إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذاً هم عن صلاتهم ساهون. يراءون الناس. وهنا يقول الله عز وجل: {الذين هم يراؤن} فهل الذين يسمّعون مثلهم؟ يعني إنسان يقرأ قرآنًا ويجهر بالقراءة ويحسن القراءة، ويحسن الأداء والصوت من أجل أن يقال ما أقرأه. هل يكون مثل الذي يرائي؟ الجواب: نعم كما جاء في الحديث، «من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به»، المعنى من سمّع فضحه الله وبين للناس أن الرجل ليس مخلصاً، ولكنه يريد أن يسمعه الناس: فيمدحوه على عبادته، ومن راءى كذلك راءى الله به، فالإنسان الذي يرائي الناس، أو يسمّع الناس سوف يفضحه الله، وسوف يتبين أمره إن عاجلاً أم آجلاً. {ويمنعون الماعون} أي: يمنعون ما يجب بذله من المواعين وهي الأواني، يعني يأتي الإنسان إليهم يستعير آنية. يقول: أنا محتاج إلى دلو، أو محتاج إلى إناء أشرب به، أو محتاج إلى مصباح كهرباء وما أشبه ذلك، فيمنع. فهذا أيضاً مذموم. ومنع الماعون ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قسم يأثم به الإنسان.
القسم الثاني: قسم لا يأثم به، لكن يفوته الخير.
فما وجب بذله فإن الإنسان يأثم بمنعه، وما لم يجب بذله فإن الإنسان لا يأثم بمنعه لكن يفوته الخير. مثال ذلك: إنسان جاءه رجل مضطر يقول: أعطني ماءً أشربه، فإن لم أشرب مت، فبذل الإناء له واجب يأثم بتركه الإنسان، حتى إن بعض العلماء يقول: لو مات هذا الإنسان فإنه يضمنه بالدية، لأنه هو سبب موته ويجب عليه بذل ما طلبه.
فيجب على المرء أن ينظر في نفسه هل هو ممن اتصف بهذه الصفات أو لا؟ إن كان ممن اتصف بهذه الصفات قد أضاع الصلاة وسها عنها، ومنع الخير عن الغير فليتب وليرجع إلى الله، وإلا فليبشر بالويل ـ والعياذ بالله ـ وإن كان قد تنزه عن ذلك فليبشر بالخير، والقرآن الكريم ليس المقصود منه أن يتلوه الإنسان، ليتعبد لله تعالى بتلاوته فقط، المقصود أن يتأدب به ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن». خُلقه يعني أخلاقه التي يتخلق بها يأخذها من القرآن. وفقنا الله لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والاخرة. إنه على كل شيء قدير.

صقر قريش 09-02-2009 07:03 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الكوثر محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِنَّآ أَعْطَيْنَـكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَرُ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة قيل إنها مكية، وقيل: إنها مدنية. والمكي هو الذي نزل قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة سواء نزل في مكة، أو في المدينة، أو في الطريق في السفر، فكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبلها فهو مكي، هذا هو القول الراجح من أقوال العلماء، يقول الله عز وجل مخاطباً النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إنا أعطيناك الكوثر} الكوثر: في اللغة العربية هو الخير الكثير. وهكذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه الله تعالى خيراً كثيراً في الدنيا والاخرة. فمن ذلك النهر العظيم الذي في الجنة والذي يصبّ منه ميزابان على حوضه المورود صلى الله عليه وسلّم، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى مذاقاً من العسل، (وأطيب رائحة من المسك)، وهذا الحوض في القيامة في عرصات القيامة يرده المؤمنون من أمة النبي صلى الله عليه وسلّم. وآنيته كنجوم السماء كثرة وحسناً، فمن كان وارداً على شريعته في الدنيا كان وارداً على حوضه في الاخرة، ومن لم يكن وارداً على شريعته فإنه محروم منه في الاخرة. ومن الخيرات الكثيرة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلّم في الدنيا ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمساً لم يُعطهن أحداً من الأنبياء قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلاً من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وأحلت لي المغانم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة». هذا من الخير الكثير، لأن بعثه إلى الناس عامة يستلزم أن يكون أكثر الأنبياء اتباعاً وهو كذلك فهو أكثرهم أتباعاً عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن الدال على الخير كفاعل الخير، والذي دل هذه الأمة العظيمة التي فاقت الأمم كثرة هو محمد صلى الله عليه وسلّم، وعلى هذا فيكون للرسول عليه الصلاة والسلام من أجر كل واحد من أمته نصيب. ومن يحصي الأمة إلا الله عز وجل، ومن الخير الذي أعطيه في الاخرة المقام المحمود، ومنه الشفاعة العظمى، فإن الناس في يوم القيامة يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون، فيطلبون الشفاعة، فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليه الصلاة والسلام حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقوم ويشفع، ويقضي الله تعالى بين العباد بشفاعته، وهذا مقام يحمده عليه الأولون والاخرون وداخل في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79]. إذاً الكوثر يعني الخير الكثير، ومنه النهر الذي في الجنة، فالنهر الذي في الجنة هو الكوثر لا شك، ويسمى كوثراً لكنه ليس هو فقط الذي أعطاه الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخير، ولما ذكر منته عليه بهذا الخير الكثير قال: {فصل لربك وانحر} شكراً لله على هذه النعمة العظيمة، أن تصلي وتنحر لله، والمراد بالصلاة هنا جميع الصلوات، وأول ما يدخل فيها الصلاة المقرونة بالنحر وهي صلاة عيد الأضحى لكن الاية شاملة عامة {فصل لربك} الصلوات المفروضة والنوافل. صلوات العيد والجمعة {وانحر} أي: تقرب إليه بالنحر، والنحر يختص بالإبل، والذبح للبقر والغنم، لكنه ذكر النحر، لأن الإبل أنفع من غيرها بالنسبة للمساكين، ولهذا أهدى النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع مائة بعير، ونحر منها ثلاثة وستين بيده، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فنحرها. وتصدق بجميع أجزائها إلا بضعة واحدة من كل ناقة، فأخذها وجعلت في قدر، فطبخها فأكل من لحمها، وشرب من مرقها، وأمر بالصدقة حتى بجلالها وجلودها عليه الصلاة والسلام، والأمر في الاية أمر له وللأمة، فعلينا أن نخلص الصلاة لله، وأن نخلص النحر لله كما أُمر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلّم ثم قال {إن شانئك هو الأبتر} هذا في مقابل إعطاء الكوثر قال: {إن شانئك هو الأبتر} {شانئك} أي مبغضك، والشنئان هو البغض، ومنه قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [المائدة: 2]. أي: لا يحملنكم بغضهم أن تعتدوا. {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا} [المائدة: 8]. أي: لا يحملنكم بغضهم على ترك العدل {اعدلوا هو أقرب للتقوى} فشانئك في قوله: {إن شانئك} يعني مبغضك {هو الأبتر} الأبتر: اسم تفضيل من بتر بمعنى قطع، يعني هو الأقطع. المنقطع من كل خير، وذلك أن كفار قريش يقولون: محمد أبتر، لا خير فيه ولا بركة فيه ولا في اتباعه، أبتر لما مات ابنه القاسم رضي الله عنه قالوا: محمد أبتر، لا يولد له، ولو ولد له فهو مقطوع النسل، فبين الله عز وجل أن الأبتر هو مبغض الرسول عليه الصلاة والسلام فهو الأبتر المقطوع عن كل خير. الذي ليس فيه بركة، وحياته ندامة عليه، وإذا كان هذا في مبغضه فهو أيضاً في مبغض شرعه. فمن أبغض شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أبغض شعيرة من شعائر الإسلام، أو أبغض أي طاعة مما يتعبد به الناس في دين الإسلام فإنه كافر، خارج عن الدين لقول الله تعالى: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} [محمد: 9]. ولا حبوط للعمل إلا بالكفر، فمن كره فرض الصلوات فهو كافر ولو صلى، ومن كره فرض الزكاة فهو كافر ولو صلى، لكن من استثقلها مع عدم الكراهة فهذا فيه خصلة من خصال النفاق لكنه لا يكفر. وفرق بين من استثقل الشيء ومن كره الشيء.
إذاً هذه السورة تضمنت بيان نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعطائه الخير الكثير، ثم الأمر بالإخلاص لله عز وجل في الصلوات والنحر، وكذلك في سائر العبادات، ثم بيان أن من أبغض الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أبغض شيئاً من شريعته فإنه هو الأقطع الذي لا خير فيه ولا بركة فيه، نسأل الله العافية والسلامة.

صقر قريش 09-02-2009 07:04 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الكافرون محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ يأَيُّهَا الْكَـفِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَـبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَـبِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذه السورة هي إحدى سورتي الإخلاص، لأن سورتي الإخلاص {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يقرأ بهما في سُنة الفجر وفي سنة المغرب، وفي ركعتي الطواف لما تضمنتاه من الإخلاص لله عز وجل، والثناء عليه بالصفات الكاملة في سورة {قل هو الله أحد}. {قل يا أيها الكافرون} يناديهم يعلن لهم بالنداء {يا أيها الكافرون} وهذا يشمل كل كافر سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من الشيوعيين أو من غيرهم. كل كافر يجب أن تناديه بقلبك أو بلسانك إن كان حاضراً لتتبرأ منه ومن عبادته {قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} كُررت الجمل على مرتين مرتين {لا أعبد ما تعبدون} أي: لا أعبد الذين تعبدونهم، وهم الأصنام {ولا أنتم عابدون ما أعبد} وهو الله، و«ما» هنا في قوله: {ما أعبد} بمعنى «من» لأن اسم الموصول إذا عاد إلى الله فإنه يأتي بلفظ «من» {لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني: أنا لا أعبد أصنامكم وأنتم لا تعبدون الله. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} قد يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد، وليس كذلك لأن الصيغة مختلفة {لا أعبد ما تعبدون} فعل. {ولا أنا عابد ما عبدتم} «عابد» و«عابدون» اسم، والتوكيد لابد أن تكون الجملة الثانية كالأولى. إذاً القول بأنه كرر للتوكيد ضعيف، إذاً لماذا هذا التكرار؟
قال بعض العلماء: {لا أعبد ما تعبدون} أي: الان {ولا أنا عابد ما عبدتم} في المستقبل، فصار {لا أعبد ما تعبدون} أي: في الحال، {ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني في المستقبل؛ لأن الفعل المضارع يدل على الحال، واسم الفاعل يدل على الاستقبال. بدليل أنه عمل، واسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان للاستقبال، {لا أعبد ما تعبدون} الان {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني الان. {ولا أنا عابد ما عبدتم} يعني في المستقبل {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يعني في المستقبل.
لكن أورد على هذا القول إيراد كيف قال: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} مع أنهم قد يؤمنون فيعبدون الله؟! وعلى هذا فيكون في هذا القول نوع من الضعف.
وأجابوا عن ذلك بأن قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} يخاطب المشركين الذين عَلِم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا. فيكون الخطاب ليس عامًّا، وهذا مما يضعف القول بعض الشيء.
فعندنا الان قولان:
الأول: إنها توكيد.
والثاني: إنها في المستقبل.
القول الثالث: {لا أعبد ما تعبدون} أي: لا أعبد الأصنام التي تعبدونها. {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي: لا تعبدون الله. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي: في العبادة يعني ليست عبادتي كعبادتكم، ولا عبادتكم كعبادتي، فيكون هذا نفي للفعل لا للمفعول به، يعني ليس نفيًا للمعبود. لكنه نفي للعبادة أي لا أعبد كعبادتكم، ولا تعبدون أنتم كعبادتي، لأن عبادتي خالصة لله، وعبادتكم عبادة شرك.
القول الرابع: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن قوله {لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد} هذا الفعل. فوافق القول الأول في هذه الجملة. {ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي: في القبول، بمعنى ولن أقبل غير عبادتي، ولن أقبل عبادتكم، وأنتم كذلك لن تقبلوا. فتكون الجملة الأولى عائدة على الفعل. والجملة الثانية عائدة على القبول والرضا، يعني لا أعبده ولا أرضاه، وأنتم كذلك. لا تعبدون الله ولا ترضون بعبادته.
وهذا القول إذا تأملته لا يرد عليه شيء من الهفوات السابقة، فيكون قولاً حسناً جيداً، ومن هنا نأخذ أن القرآن الكريم ليس فيه شيء مكرر لغير فائدة إطلاقاً، ليس فيه شيء مكرر إلا وله فائدة. لأننا لو قلنا: إن في القرآن شيئاً مكرراً بدون فائدة لكان في القرآن ما هو لغو، وهو منزه عن ذلك، وعلى هذا فالتكرار في سورة الرحمن {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وفي سورة المرسلات {ويل يومئذ للمكذبين} تكرار لفائدة عظيمة، وهي أن كل آية مما بين هذه الاية المكررة، فإنها تشمل على نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، ثم إن فيها من الفائدة اللفظية التنبيه للمخاطب حيث يكرر عليه {فبأي آلاء ربكما تكذبان} ويكرر عليه {ويل يومئذ للمكذبين}.
ثم قال عز وجل: {لكم دينكم ولي دين} {لكم دينكم} الذي أنتم عليه وتدينون به. ولي ديني، فأنا برىء من دينكم، وأنتم بريؤون من ديني.
قال بعض أهل العلم: وهذه السورة نزلت قبل فرض الجهاد؛ لأنه بعد الجهاد لا يقر الكافر على دينه إلا بالجزية إن كانوا من أهل الكتاب. وعلى القول الراجح أو من غيرهم.
ولكن الصحيح أنها لا تنافي الأمر بالجهاد حتى نقول إنها منسوخة، بل هي باقية ويجب أن نتبرأ من دين اليهود والنصارى والمشركين، في كل وقت وحين، ولهذا نقر اليهود والنصارى على دينهم بالجزية، ونحن نعبد الله، وهم يعبدون ما يعبدون، فهذه السورة فيها البراءة والتخلي من عبادة غير الله عز وجل، سواء في المعبود أو في نوع الفعل، وفيها الإخلاص لله عز وجل، وأن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له. وإلى هنا ينتهي ما تيسر من الكلام على هذه السورة.

صقر قريش 09-02-2009 07:04 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم النصر محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوِبَا}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إذا جاء نصر الله والفتح} الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، {نصر الله} النصر هو تسليط الله الإنسان على عدوه بحيث يتمكن منه ويخذله ويكبته، والنصر أعظم سرور يحصل للعبد في أعماله، لأن المنتصر يجد نشوة عظيمة، وفرحاً وطرباً، لكنه إذا كان بحق فهو خير، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» أي أن عدوه مرعوب منه إذا كان بينه وبينه مسافة شهر، والرعب أشد شيء يفتك بالعدو، لأن من حصل في قلبه الرعب لا يمكن أن يثبت أبداً، بل سيطير طيران الريح فقوله: {إذا جاء نصر الله} أي نصر الله إياك على عدوك {والفتح} معطوف على النصر، وعطفه على النصر مع أن الفتح من النصر تنويه بشأنه، وهو من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4]. أي في ليلة القدر فجبريل من الملائكة وخصه لشرفه، و(ال) في الفتح للعهد الذهني، أي: الفتح المعهود المعروف في أذهانكم، وهو فتح مكة، وكان فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، وسببه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما صالح قريش في الحديبية في السنة السادسة ـ الصلح المشهور ـ نقضت قريش العهد فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلّم وخرج إليهم من المدينة بنحو عشرة آلاف مقاتل خرج مختفياً وقال: «اللهم عمي أخبارنا عنهم» فلم يفاجأهم إلا وهو محيط بهم ودخل مكة في العشرين من رمضان، من السنة الثامنة للهجرة، مظفراً منصوراً مؤيداً، حتى إنه في النهاية اجتمع إليه كفار قريش حول الكعبة فوقف على الباب وقريش تحته ينتظرون ما يفعل، فأخذ بعضادتي الباب وقال: يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ وهو الذي كان قبل ثمان سنوات هارباً منهم وكانوا الان في قبضته وتحت تصرفه، قال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [يوسف: 92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفى عنهم عليه الصلاة والسلام، هذا الفتح سماه الله فتحاً مبيناً، فقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} [الفتح: 1]. أي بيناً عظيماً واضحاً، ولما حصل عرف الناس جميعاً أن العاقبة لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأن دور قريش واتباعه قد انقضى فصار الناس {يدخلون في دين الله أفواجاً} أي جماعات بعد أن كانوا يدخلون فيه أفراداً، ولا يدخل فيه الإنسان في بعض الأحوال إلا مختفياً، صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً، وصارت الوفود ترد على النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة من كل جانب حتى سمي العام التاسع (عام الوفود) يقول الله عز وجل إذا رأيت هذه العلامة {فسبح بحمد ربك واستغفره} كان المتوقع أن يكون الجواب فاشكر الله على هذه النعمة واحمد الله عليها ولكن {فسبح بحمد ربك واستغفره} وهذا نظير قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً. فاصبر لحكم ربك} [الإنسان: 23، 24]. كان المتوقع فاشكر ربك على هذا التنزيل وقم بحقه، ولكن قال: {فاصبر لحكم ربك} إيذاناً بأنه سوف ينال أذىً بواسطة إبلاغ هذا القرآن ونشره بين الأمة {فسبح بحمد ربك واستغفره} عند التأمل تتبين الحكمة فالمعنى أنه إذا جاء نصر الله والفتح فقد قرب أجلك وما بقي عليك إلا التسبيح بحمد ربك والاستغفار {فسبح بحمد ربك} أي سبحه تسبيحاً مقروناً بالحمد. والتسبيح: تنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله. والحمد: هو الثناء عليه بالكمال مع المحبة والتعظيم. اجمع بين التنزيه وبين الحمد {واستغفره} يعني اسأله المغفرة. فأمره الله تعالى بأمرين:
الأمر الأول: التسبيح المقرون بالحمد.
والثاني: الاستغفار. والاستغفار هو طلب المغفرة. والمغفرة ستر الله تعالى على عبده ذنوبه مع محوها والتجاوز عنها. وهذا غاية ما يريد العبد، لأن العبد كثير الذنب يحتاج إلى مغفرة إن لم يتغمده الله برحمته هلك، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته». لأن عملك هذا لو أردت أن تجعله في مقابلة نعمة من النعم، نعمة واحدة لأحاطت به النعم، فكيف يكون عوضاً تدخل به الجنة؟ ولهذا قال بعض العارفين في نظم له:
إذا كان بشكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكرفكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر{إنه كان تواباً} أي: لم يزل عز وجل تواباً على عباده، فإذا استغفرته تاب عليك، هذا هو معنى السورة.
لكن السورة لها مغزى عظيم لا يتفطن له إلا الأذكياء، ولهذا لما سمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن الناس انتقدوه في كونه يُدني عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع صغر سنه ولا يدني أمثاله من شباب المسلمين، وعمر ـ رضي الله عنه ـ من أعدل الخلفاء أراد أن يبين للناس أنه لم يحابِ ابن عباس في شيء، فجمع كبار المهاجرين والأنصار في يوم من الأيام ومعهم عبدالله بن عباس وقال لهم: ما تقولون في هذه السورة {إذاجاء نصر الله والفتح} حتى ختم السورة ففسروها بحسب ما يظهر فقط، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً. فقال: ما تقول ياابن عباس قال: يا أمير المؤمنين هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أعلمه الله له: {إذا جاء نصر الله والفتح} فتح مكة فذاك علامة أجلك، {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} فقال عمر: «والله ما أعلم منها إلا ما تعلم». فتبين بذلك فضل ابن عباس وتميزه، وأن عنده من الذكاء والمعرفة بمراد الله عز وجل.
لما نزلت هذه السورة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي هو أشد الناس عبادة لله وأتقاهم لله جعل يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي». فنقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين

صقر قريش 09-02-2009 07:04 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم المسد محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
هذا القرآن فيه من الدلالات الكثيرة ما يدل دلالة واضحة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حق، ليس يدعو لملك ولا لجاه، ولا لرئاسة قومه، وأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام انقسموا في معاملته ومعاملة ربه عز وجل إلى ثلاثة أقسام:
قسم آمن به وجاهد معه، وأسلم لله رب العالمين.
وقسم ساند وساعد، لكنه باق على الكفر.
وقسم عاند وعارض، وهو كافر.
فأما الأول: فالعباس بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب. والثاني: أفضل من الأول؛ لأن الثاني من أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ووصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه أسد الله، وأسد رسوله، واستشهد رضي الله عنه في أحد في السنة الثانية من الهجرة.
أما الذي ساند وساعد مع بقائه على الكفر فهو أبو طالب، فأبو طالب قام مع النبي صلى الله عليه وسلّم خير قيام في الدفاع عنه ومساندته ولكنه ـ والعياذ بالله ـ قد سبقت له كلمة العذاب، لم يُسلم حتى في آخر حياته في آخر لحظة من الدنيا عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلّم أن يسلم لكنه أبى بل ومات على قوله: إنه على ملة عبدالمطلب، فشفع له النبي عليه الصلاة والسلام حتى كان في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه.
أما الثالث: الذي عاند وعارض فهو أبو لهب. أنزل الله فيه سورة كاملة تُتلى في الصلوات فرضها ونفلها، في السر والعلن، يُثاب المرء على تلاوتها، على كل حرف عشر حسنات. يقول الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب} وهذا رد على أبي لهب حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلّم ليدعوهم إلى الله فبشر وأنذر، قال أبو لهب: تبًّا لك ألهذا جمعتنا، قوله: «ألهذا جمعتنا» إشارة للتحقير، يعني هذا أمر حقير ما يحتاج أن يُجمع له زعماء قريش وهذا كقوله: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36]. والمعنى تحقيره، فليس بشيء ولا يهتم به كما قالوا: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]. فالحاصل أن أبا لهب قال: تبًّا لك ألهذا جمعتنا، فرد الله عليه بهذه السورة: {تبت يدا أبي لهب وتب} والتباب الخسار. كما قال تعالى: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37]. أي: خسار. وبدأ بيديه قبل ذاته؛ لأن اليدين هما آلتا العمل والحركة، والأخذ والعطاء وما أشبه ذلك. وهذا اللقب أبو لهب، لقب مناسب تماماً لحاله ومآله، وجه المناسبة أن هذا الرجل سوف يكون في نار تلظى، تتلظى لهباً عظيماً مطابقة لحاله ومآله. يقول الشاعر:
قل إن أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
ولما أقبل سهيل بن عمرو في قصة غزوة الحديبية قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «هذا سهيل بن عمرو، وما أراه إلا سهل لكم من أمركم»، لأن الاسم مطابق للفعل. يقول الله عز وجل: {ما أغنى عنه ماله} «ما» هذه يحتمل أن تكون استفهامية والمعنى: أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب؟ والجواب: لا شيء، ويحتمل أن تكون (ما) نافية. أي ما أغنى عنه، أي لم يغنِ عنه ماله وما كسب شيئاً، وكلا المعنيين متلازمان، ومعناهما: أن ماله وما كسب لم يغنِ عنه شيئاً، مع أن العادة أن المال ينفع، فالمال يفدي به الإنسان نفسه لو تسلط عليه عدو وقال: أنا أعطيك كذا وكذا من المال وأطلقني، يطلقه، لكن قد يطلب مالاً كثيراً أو قليلاً، ولو مرض انتفع بماله، ولو جاع انتفع بماله، فالمال ينفع، لكن النفع الذي لا ينجي صاحبه من النار، ليس بنفع. ولهذا قال: {ما أغنى عنه ماله}. يعني من الله شيئاً قوله: {وما كسب} قيل المعنى: وما كسب من الولد. كأنه قال: ما أغنى عنه ماله وولده. كقول نوح: {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} [نوح: 21]. فجعلوا قوله: {وما كسب} يعني بذلك الولد. وأيدوا هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم».
والصواب أن الاية أعم من هذا، وأن الاية تشمل الأولاد، وتشمل المال المكتسب الذي ليس في يده الان، وتشمل ما كسبه من شرف وجاه. كل ما كسبه مما يزيده شرفاً وعزًّا فإنه لا يُغني عنه شيئاً {ما أغنى عنه ماله وما كسب}. {سيصلى ناراً ذات لهب} السين في قوله: {سيصلى} للتنفيس المفيد للحقيقة والقرب. يعني أن الله تعالى توعده بأنه سيصلى ناراً ذات لهب عن قريب؛ لأن متاع الدنيا والبقاء في الدنيا مهما طال فإن الاخرة قريبة، حتى الناس في البرزخ وإن مرت عليهم السنين الطوال فكأنها ساعة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} [الأحقاف: 35]. وشيء مقدر بساعة من نهار فإنه قريب. {وامرأتـه حمالة الحطب} يعني كذلك امرأته معه، وهي امـرأة من أشراف قريش لكن لم يغنِ عنها شرفها شيئاً لكونها شاركت زوجها في العداء والإثم، والبقاء على الكفر. وقوله: {حمالة الحطب} قُـرأت بالنصب والرفع، أما النصب فإنها تكون حالاً لامرأة، يعني وامرأته حال كونها حمالة الحطب. أو تكون منصوبة على الذم لأن النعت المقطوع يجوز نصبه على الذم. أي أذم حمالة الحطب. وأما على قراءة الرفع فهي صفة لامرأة {حمالة الحطب} {حمالة} صيغة مبالغة أي تحمله بكثرة، وذكروا أنها تحمل الحطب الذي فيه الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلّم من أجل أذى الرسول صلى الله عليه وسلّم. {في جيدها حبل من مسد} الجيد: العنق، والحبل معروف، والمسد: الليف. يعني أنها متقلدة حبلاً من الليف تخرج به إلى الصحراء لتربط به الحطب الذي تأتي به لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلّم، نعوذ بالله من ذلك، وهو إشارة إلى دنو نظرتها، وأنها أهانت نفسها، امرأة من قريش من أكابر قبائل قريش تخرج إلى الصحراء وتضع هذا الحبل في عنقها، وهو من الليف مع ما فيـه من المهانة، لكن من أجل أذية الرسول عليه الصلاة والسلام. نسأل الله العافية. وبهذا ينتهي الكلام بما يسر الله عز وجل على هذه السورة

صقر قريش 09-02-2009 07:05 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الإخلاص محمد بن صالح العثيمين
تفسير سورة الإخلاص
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
البسملة سبق الكلام عليها.
ذكر في سبب نزول هذه السورة: أن المشركين أو اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: صف لنا ربك؟ فأنزل الله هذه السورة.
{قل} الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، وللأمة أيضاً و{هو الله أحد} {هو} ضمير الشأن عند المعربين. ولفظ الجلالة {الله} هو خبر المبتدأ و{أحد} خبر ثان. {الله الصمد} جملة مستقلة. {الله أحد} أي هو الله الذي تتحدثون عنه وتسألون عنه {أحد} أي: متوحد بجلاله وعظمته، ليس له مثيل، وليس له شريك، بل هو متفرد بالجلال والعظمة عز وجل. {الله الصمد} جملة مستقلة، بين الله تعالى أنه {الصمد} أجمع ما قيل في معناه: أنه الكامل في صفاته، الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته. فقد روي عن ابن عباس أن الصمد هو الكامل في علمه، الكامل في حلمه، الكامل في عزته، الكامل في قدرته، إلى آخر ما ذكر في الأثر. وهذا يعني أنه مستغنٍ عن جميع المخلوقات لأنه كامل، وورد أيضاً في تفسيرها أن الصمد هو الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا يعني أن جميع المخلوقات مفتقرة إليه، وعلى هذا فيكون المعنى الجامع للصمد هو: الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته. {لم يلد} لأنه جل وعلا لا مثيل له، والولد مشتق من والده وجزء منه كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فاطمة: «إنها بَضْعَةٌ مني»، والله جل وعلا لا مثيل له، ثم إن الولد إنما يكون للحاجة إليه إما في المعونة على مكابدة الدنيا، وإما في الحاجة إلى بقاء النسل. والله عز وجل مستغنٍ عن ذلك. فلهذا لم يلد لأنه لا مثيل له؛ ولأنه مستغنٍ عن كل أحد عز وجل. وقد أشار الله عز وجل إلى امتناع ولادته أيضاً في قوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101]. فالولد يحتاج إلى صاحبة تلده، وكذلك هو خالق كل شيء، فإذا كان خالق كل شيء فكل شيء منفصل عنه بائن منه. وفي قوله: {لم يلد} رد على ثلاث طوائف منحرفة من بني آدم، وهم: المشركون، واليهود، والنصارى، لأن المشركين جعلوا الملائكة الذين هم عبادالرحمن إناثاً، وقالوا: إن الملائكة بنات الله. واليهود قالوا: عزير ابن الله. والنصارى قالوا: المسيح ابن الله. فكذبهم الله بقوله: {لم يلد ولم يولد} لأنه عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكيف يكون مولوداً؟! {ولم يكن له كفواً أحد} أي لم يكن له أحد مساوياً في جميع صفاته، فنفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه أن يكون والداً، أو مولوداً، أو له مثيل، وهذه السورة لها فضل عظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنها تعدل ثلث القرآن»، لكنها تعدله ولا تقوم مقامه، فهي تعدل ثلث القرآن لكن لا تقوم مقام ثلث القرآن. بدليل أن الإنسان لو كررها في الصلاة الفريضة ثلاث مرات لم تكفه عن الفاتحة، مع أنه إذا قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله، لكنها لا تجزىء عنه، ولا تستغرب أن يكون الشيء معادلاً للشيء ولا يجزىء عنه. فها هو النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن من قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فكأنما أعتق أربعة أنفس من بني إسماعيل، أو من ولد إسماعيل»، ومع ذلك لو كان عليه رقبة كفارة، وقال هذا الذكر، لم يكفه عن الكفارة فلا يلزم من معادلة الشيء للشيء أن يكون قائماً مقامه في الإجزاء.
هذه السورة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الثانية في سنة الفجر، وفي سنة المغرب، وفي ركعتي الطواف، وكذلك يقرأ بها في الوتر، لأنها مبنية على الإخلاص التام لله، ولهذا تسمى سورة الإخلاص.

صقر قريش 09-02-2009 07:05 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الفلق محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّـثَـتِ فِى الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{قل أعوذ برب الفلق} رب الفلق هو الله، والفلق: الإصباح. ويجوز أن يكون أعم من ذلك أن الفلق كل ما يطلقه الله تعالى من الإصباح، والنوى، والحب. كما قال الله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} وقال: {فالق الإصباح}. {من شر ما خلق} أي من شر جميع المخلوقات حتى من شر نفسه، لأن النفس أمارة بالسوء، فإذا قلت من شر ما خلق فأول ما يدخل فيه نفسك، كما جاء في خطبة الحاجة «نعوذ بالله من شرور أنفسنا»، وقوله: {من شر ما خلق} يشمل شياطين الإنس والجن والهوام وغير ذلك. {ومن شر غاسق إذا وقب} الغاسق قيل: إنه الليل. وقيل: إنه القمر، والصحيح إنه عام لهذا وهذا، أما كونه الليل، فلأن الله تعالى قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78]. والليل تكثر فيه الهوام والوحوش، فلذلك استعاذ من شر الغاسق أي: الليل.
وأما القمر فقد جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أن النبي صلى الله عليه وسلّم أرى عائشة القمر. وقال: «هذا هو الغاسق»، وإنما كان غاسقاً لأن سلطانه يكون في الليل. وقوله: {من شر غاسق إذا وقب} هو معطوف على {من شر ما خلق} من باب عطف الخاص على العام، لأن الغاسق من مخلوقات الله عز وجل وقوله: {إذا وقب} أي: إذا دخل. فالليل إذا دخل بظلامه غاسق، وكذلك القمر إذا أضاء بنوره فإنه غاسق، ولا يكون ذلك إلا بالليل. {ومن شر النفاثات في العقد} {النفاثات في العقد} هن الساحرات. يعقدن الحبال وغيرها، وتنفث بقراءة مطلسمة فيها أسماء الشياطين على كل عقدة تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، تعقد ثم تنفث، وهي بنفسها الخبيثة تريد شخصاً معيناً، فيؤثر هذا السحر بالنسبة للمسحور. وذكر الله النفاثات دون النفاثين؛ لأن الغالب أن الذي يستعمل هذا النوع من السحر هن النساء، فلهذا قال: {النفاثات في العقد} ويحتمل أن يقال: إن النفاثات يعني الأنفس النفاثات فيشمل الرجال والنساء. {ومن شر حاسد إذا حسد} الحاسد هو الذي يكره نعمة الله على غيره، فتجده يضيق ذرعاً إذا أنعم الله على هذا الإنسان بمال، أو جاه، أو علم أو غير ذلك. فيحسده ولكن الحسّاد نوعان: نوع يحسد ويكره في قلبه نعمة الله على غيره، لكن لا يتعرض للمحسود بشيء، تجده مهموماً مغموماً من نعم الله على غيره، لكنه لا يعتدي على صاحبه. والشر والبلاء إنما هو بالحاسد إذا حسد. ولهذا قال: {إذا حسد}. ومن حسد الحاسد العين التي تصيب الُمعان يكون هذا الرجل عنده كراهة لنعم الله على الغير فإذا أحس بنفسه أن الله أنعم على فلان بنعمة خرج من نفسه الخبيثة (معنى) لا نستطيع أن نصفه لأنه مجهول، فيصيب بالعين، ومن تسلط عليه أحياناً يموت، وأحياناً يمرض، وأحياناً يُجن، حتى الحاسد يتسلط على الحديد فيوقف اشتغاله، وربما يصيب السيارة بالعين وتنكسر أو تتعطل، وربما يصيب رفَّاعة الماء، أو حراثة الأرض، فالعين حق تصيب بإذن الله عز وجل، وذكر الله عز وجل الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد؛ لأن البلاء كله في هذه الأحوال الثلاثة يكون خفيًّا. الليل ستر وغشاء. {والليل إذا يغشى} [الليل: 1]. يكمن به الشر ولا يعلم به. {النفاثات في العقد} أيضاً السحر خفي لا يعلم. {الحاسد إذا حسد} العائن أيضاً خفي تأتي العين من شخص تظن أنه من أحب الناس إليك وأنت من أحب الناس إليه ومع ذلك يصيبك بالعين. لهذا السبب خص الله هذه الأمور الثلاثة. الغاسق إذا وقب، والنفاثات في العقد، والحاسد إذا حسد، وإلا فهي داخلة في قوله: {من شر ما خلق}.
فإذا قال قائل: ما هو الطريق للتخلص من هذه الشرور الثلاثة؟
قلنا: الطريق للتخلص أن يعلق الإنسان قلبه بربه، ويفوض أمره إليه، ويحقق التوكل على الله، ويستعمل الأوراد الشرعية التي بها يحصن نفسه ويحفظها من شر هؤلاء، وما كثر الأمر في الناس في الاونة الأخير من السحرة والحساد وما أشبه ذلك إلا من أجل غفلتهم عن الله، وضعف توكلهم على الله عز وجل، وقلة استعمالهم للأوراد الشرعية التي بها يتحصنون، وإلا فنحن نعلم أن الأوراد الشرعية حصن منيع، أشد من سد يأجوج ومأجوج. لكن مع الأسف أن كثيًرا من الناس لا يعرف عن هذه الأوراد شيئاً، ومن عرف فقد يغفل كثيراً، ومن قرأها فقلبه غير حاضر، وكل هذا نقص، ولو أن الناس استعملوا الأوراد على ما جاءت به الشريعة لسلموا من شرور كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة

صقر قريش 09-02-2009 07:05 PM

رد: تفسير جزء عم لابن عثيمين
 
تفسير جزء عم الناس محمد بن صالح العثيمين
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَـهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{قل أعوذ برب الناس} وهو الله عز وجل، وهو رب الناس وغيرهم، رب الناس، ورب الملائكة، ورب الجن، ورب السموات، ورب الأرض، ورب الشمس، ورب القمر، ورب كل شيء، لكن للمناسبة خص الناس. {ملك الناس} أي الملك الذي له السلطة العليا في الناس، والتصرف الكامل هو الله عز وجل. {إله الناس} أي مألوههم ومعبودهم، فالمعبود حقًّا الذي تألهه القلوب وتحبه وتعظمه هو الله عز وجل. {من شر الوسواس الخناس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس} {الوسواس} قال العلماء: إنها مصدر يراد به اسم الفاعل أي: الموسوس. والوسوسة هي: ما يلقى في القلب من الأفكار والأوهام والتخيلات التي لا حقيقة لها. {الخناس} الذي يخنس وينهزم ويولي ويدبر عند ذكر الله عز وجل وهو الشيطان. ولهذا إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب للصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى. ولهذا جاء في الأثر: «إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان»، والغيلان هي الشياطين التي تتخيل للمسافر في سفره وكأنها أشياء مهولة، أو عدو أو ما أشبه ذلك فإذا كبر الإنسان انصرفت. وقوله: {من الجنة والناس} أي أن الوساوس تكون من الجن، وتكون من بني آدم، أما وسوسة الجن فظاهر لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأما وسوسة بني آدم فما أكثر الذين يأتون إلى الإنسان يوحون إليه بالشر، ويزينونه في قلبه حتى يأخذ هذا الكلام بلبه وينصرف إليه.
هذه السور الثلاث: الإخلاص، والفلق، والناس كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه ومسح بذلك وجهه، وما استطاع من بدنه، وربما قرأها خلف الصلوات الخمس. فينبغي للإنسان أن يتحرى السنة في تلاوتها في مواضعها كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا نختم آخر جزء من القرآن وهو جزء النبأ. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الساعة الآن 06:31 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc. Trans by