من نظرات الناس إلى الحياة (٢ من ٤)
من نظرات الناس إلى الحياة (٢ من ٤)
محمد بن أحمد الرشيد ليت الإنسان يعرف قدر نفسه، وحقيقة مكانته في الحياة، ويعرف الفرق بين الشعور بالسعادة والرضا، وبين الشقاء والقنوط. يا بعض جيل اليوم.. لماذا هذا الذي أنتم فيه من تشاؤم، وتذمر؟ رحم الله زمان صباي، وكيف لي أن أنسى المسنين في بلدتنا الذين كانوا مع شدة عوزهم، وضيق حياتهم يرددون أن يديم الله عليهم ما هم فيه من نعمة وألا يغير عليهم حالهم. - مالكم غير راضين بكل هذا الخير الذي أنعم الله به عليكم؟ - ما بالكم دائماً غير مستقرين في أحوالكم.. في قلق وعدم رضا بحياتكم، رغم ما أنتم فيه من راحة، ورزق، ونعيم يعادل عشرات المرات لما عاش عليه سابقوكم. *** لتعرفوا الحقيقة أسوق لكم قصة هذا الرجل الصياد المبتسم دائماً - الراضي بقناعة - كان عمله صيد القطا بطريقة بدائية - إذ كان يخرج بعد صلاة الفجر مباشرة ويصنع مكاناً يسمى (المدي) وهو عبارة عن بقعة يضع فيها بعض الماء ليغري الطيور بالشرب منها - فإذا ما وقعت وجاءت لتشرب سحب شبكته التي وضعها - وهو على بعد منها - فصاد ما قُدِّر له من القطا وباعه بريالات قليلة، واشترى بثمنه قوتاً لأولاده.. وكان مع هذا العمل المتواضع والرزق القليل يشعر بأنه أسعد الناس حظاً، وأغناهم نصيباً. سألني مرة: لماذا تتعلم وتسافر للرياض؟ دعني أخبرك بما يسعدك ويغنيك.. إنها مهنتي - كم هي عظيمة ومغرية، ولا تكلفك مشقة ولا رأس مال. *** هذه هي مشاعر الراحة في الحياة.. هذه هي أسس السعادة والرضا عند جيل من الناس. أريد أن أقول إن المال والجاه والمنصب ليس أي منها أو كلها بالضرورة مصدراً للسعادة الحقيقية - كما تتوهمون - لأن حقيقة السعادة في الرضا والقناعة.. ولن يحقق الطموح مهما علا إلا الشعور بالسعادة - والكد الجاد - دون تذمر.. ودائماً يجب أن نردد (إرض بما قسم الله لك تكن أسعد الناس). ما أجمل دعوات أمهاتنا حين كانت تحدث مشكلة، أو يصاب أحد بمرض.. يقلن بقناعة: (ما دافع الله كان أعظم).. بمعنى أن ما جنبك الله أيها الإنسان من الشرور أعظم بكثير مما حل بك. *** هذه هي الحياة عند هؤلاء الطيبين البسطاء.. وهذه هي السعادة الحقيقية التي كانت تملأ حياة هؤلاء من الناس ذوي القناعة والرضا.. لكنهم مع هذا المستوى من الحياة كانوا أهل مروءة وكرامة وكرم، وعزة وأنفة وإباء.. وشهامة ونخوة.. حتى ظهرت ما عُرف في حياتنا (بالفزعة العربية). بساطة في العيش.. مع كرامة في النفس. رضاء بالرزق.. مع أريحية وجود وعطاء. هذه هي الحياة الحقيقية.. الحياة الدنيا.. وسميت الدنيا لدنو زوالها. *** إنني أتأمل كثيراً في هذه الحياة، وأجدها في قصرها كما وصفها نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - بما معناه: "إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها". هذه الحياة، قصيرة بكل المعايير. فلماذا تضيعها أو حتى جزء صغير منها في كبد وشقاء، وهَمّ وعناء. ماذا يفيد كل هذا العناء؟ عجيب أمر هذا الإنسان، لم يدرك المعنى الحقيقي للحياة.. ليته سأل: هل الحياة هي الامتداد الزمني للبشرية.. والعمر المحدد للإنسان؟ هل الحياة هي ما حولنا من الظروف المختلفة. لماذا سميت بالحياة.. وسمي الإنسان وكل من يعيش حياً. *** الحياة في التقدير الزمني هي امتداد الدهر لهذا الكون الذي خلقه الله حياً.. حتى يرث الله الأرض ومن عليها.. أقول حتى الجمادات؛ لأنها تسبح الله سبحانه وتعالى. لكن الحياة بمفهومنا نحن البشر - ذلك المفهوم الفردي.. هي ما نعيشه من العمر - وما يحيط بنا من ظروف. وما نشعر به خلال حياتنا من مشاعر الأمل أو الخيبة، الطموح أو الجمود، الراحة أو التعب، السعادة أو التعاسة، أو هي موقفنا من كل ما حولنا من الناس، والطبيعة، والظروف الفردية، والاجتماعية، والإنسانية. وحتى لا تلتبس المعاني فإن دعوتي لأن يسعد الإنسان بأي مستوى من المعيشة في حياته.. فليس معنى ذلك أني أدعو إلى: - الحد من الطموح. - قبول الهوان في الحياة لأجل كسب أكبر، أو عيش أرغد. من هنا أجد أن الشعور بالتعاسة والإحباط هو الموت الحقيقي للإنسان وإن عاش حياً، والطموح الدؤوب الواقعي - بمعنى الاعتدال - ليس بالخنوع أو الشطط - أخذاً بالحكمة (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه). وجدت أن كثيراً من التعساء في حياتهم مصدر تعاستهم هو شموخهم الخارق، وتطلعهم إلى ما فوق حدود طاقاتهم وإمكاناتهم. ما أسعد ذلك الإنسان الأمي الذي كنت معه في إحدى أمسيات صيف الرياض، ومعنا إخوة كرام، أنسنا بالسهر على كثبان ذلك الرمل خارج المدينة، وجرى الحديث عن الأمنيات والطموحات فقال ذلك الرجل البسيط بكل جدية وثقة حين جاء دوره في الحديث عن طموحه: (إني أتمنى أن يصبح كل الحمالين في سوق مدينتنا وبالذات في سوق (المقيبرة) ذلك المكان المعروف لبيع الخضروات والفواكه والمواد الغذائية - آنذاك - يصبحوا أغنياء، ويتركوا مجال الحمالة لي وحدي، حتى يكثر زبائني، ومرات حملي بضائعهم.. وتتضاعف أجرتي). وضحكنا جميعاً من هذا الطموح العالي بالنسبة لهذا الرجل!! *** فأضحكنا آخر بقصة طموح أعجب، شهدها وسمع أحداثها قال: (كنا على كثبان رمل في منطقة القصيم وجرى الحديث عن الأمنيات - كما حدث الآن معنا - فقال رجل أمي من بيننا: أتمنى أن تنقلب هذه الكثبان الرملية إلى كثبان من القمح، ويستأجرني أعمامي (ويقصد بأعمامه من يعمل معهم) لأنقل لهم كل هذا القمح على حماري وحدي - وبذلك يكبر دخلي ويتضاعف أجري). إنه لم يطلب القمح لنفسه، بل تمناه لغيره، وغاية سعادته أن ينال أجر نقله؛ لأنه لا يظن نفسه أنه أهل لأن يمتلك الكثير. وإن كانت هاتان الواقعتان نوعا من السذاجة، والبساطة إلا أن غبطتي هي بسعادتها على هذا الحال. ومن هذه المواقف: هل ما هو الآن من طموح عند كثير من الناس نوع من المغالاة التي نبتغي تحاشيها - عملاً بمطلب التوسط في الحياة. قال المعري: إذا كنت تبغ العيش فابغ توسطاً فعند التناهي يقصر المتطاول توقّى البدور النقص وهي أهلة ويدركها النقصان وهي كوامل وقال آخر: اقنع بأيسر رزق أنت نائله واحذر ولا تتعرض للإرادات فما صفا البحر إلا وهو منتقص ولا تُعكر إلا في الزيادات وقال أحد الحكماء: ينبغي أن يكون المرء في دنياه كالمدعو إلى وليمة - إن أتته صفحة تناولها، وإن لم تأته لم يرصدها ولم يطلبها، وليس معنى هذا هو الركون وعدم إعمال أسباب الرزق. وقال إبراهيم بن الأدهم في مثل ذلك لأحد أصحابه: أخبرني عما أنت عليه - قلت: إن رزقتُ أكلتُ، وإن منعت صبرت، قال: هكذا تعمل كلاب بلخ - فقلت: كيف تعمل أنت؟ قال: إن رزقت أثرت، وإن منعت شكرت. وقال شاعر: إن القناعة كنز الغني فصرتُ بأذيالها متمسك فلا ذا يراني بلا درهم ولا ذا يراني له منهمك فصرت غنياً بلا درهم أمر على الناس شبه الملك وقال آخر: هي القناعة فالزمها تعش ملكاً لو لم يكن منك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن ومما أثر في هذا المعنى: - ومما قرأته أن الله تعالى قال لموسى - عليه السلام - أتدري لم رزقت الأحمق؟ قال: لا يارب، قال: ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال. - ومما يروى أنه دخل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - المسجد وقال لرجل كان واقفاً على باب المسجد أمسك بغلتي، فأخذ الرجل لجامها ومضى وترك البغلة، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافئ بهما الرجل على إمساكه البغلة - فوجد البغلة واقفة بغير لجام فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاماً، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال علي - رضي الله عنه - إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدر له. وقيل لراهب: من أين تأكل؟ فأشار إلى فيه وقال: الذي خلق هذه الرحى يأتيها بالطحين. وقال سليم بن المهاجر البجيلي: كسوتُ جميل الصبر وجهي فصانه به الله عن غشيان كل بخيل فما عشت لم آت البخيل ولم أقم على بابه يوماً مقام ذليل وإن قليلاً يستر الوجه أن يرى إلى الناس مبذولاً لغير قليل هذه هي القناعة والرضا.. وهي نظرة خاصة لكثير من الناس إلى حياتهم.. راضين بما قسم الله لهم فيها، شاكرين له، مع صون نفس، وكرامة وجه.. لأنهم مؤمنون بأن الله لن ينساهم.. وأن القناعة كنز لا يفنى.. وأن الطموح غير الجشع، والسعي للرزق غير الطريق الممنوع. *** قصص طريفة.. قديمة.. حديثة.. تثير العجب من تفاوت نظرة الناس إلى الحياة.. ومواقفهم من أعمالهم وأرزاقهم فيها.. وكلها تؤكد أن النظر باعتدال إلى الحياة هو الأمثل والمناسب والجالب لأسباب السعادة. لا قناعة تدعو إلى الكسل والاسترخاء ولا طموح يصل بصاحبه إلى اتخاذ ما لا يقدر عليه ولا ما هو مشروع حقاً له. *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها. اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد. |
رد: من نظرات الناس إلى الحياة (٢ من ٤)
القناعة كنزا لايفني
لك الشكر الجزيل بحق منتدى ثمالة يفخر بوجود امثالكم لهم في كل بحر غرفة هههههاي حلوة غرفة اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد. |
الساعة الآن 03:10 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc. Trans by