سياستنا النقدية عقيمة في مواجهة التضخم!
د. مقبل صالح أحمد الذكير:
صرح أخيرا معالي محافظ مؤسسة النقد الأستاذ حمد السياري أن التضخم في بلادنا سينخفض بنهاية النصف الأول من العام الحالي، فيما جميع الدلائل ومختلف التقارير والمؤشرات الاقتصادية الدولية تشير إلى أن للغلاء بقية! فمع استمرار هبوط الدولار وظهور دلائل شبه مؤكدة على دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة ركود، ستواصل أسعار السلع والمعادن الثمينة الارتفاع، ومنها أسعار السلع الغذائية والذهب وأسعار النفط.
الناس يعانون استفحال ظاهرة الغلاء منذ أكثر من سنتين ومعدل التضخم، المشكوك أصلا في دقته، ارتفع أخيرا لنحو 8 في المائة.
في بداية الأزمة كان الأستاذ السياري ينفي وجود تضخم، ثم أصبح في فترة لاحقة يقر به لكنه يقول إنه تحت السيطرة، بينما معدل التضخم لم يتوقف عن الارتفاع منذ ذلك الوقت، والآن يمنينا معاليه بأن التضخم سينخفض.
والواقع أن الأسعار لن تنخفض، ولكنها في أحسن الأحوال ستستقر عند معدلاتها العالية، وهي أحوال لا تدل التطورات الجارية والمتوقعة على حسنها. لقد سبق أن ضاعت مدخرات الناس في كارثة انهيار سوق الأسهم، ومؤسسة النقد كانت مسؤولة جزئيا عن ذلك بغض طرفها آنذاك عن تمادي البنوك في تمويل المتاجرة بالأسهم.
واليوم نرى أيضا غيابها عن السيطرة على نمو عرض النقود، ونمو القروض الشخصية، وهو أمر غير محمود في أوقات التضخم!
الخطورة ليست فقط في استمرار الغلاء وتدهور مستوى معيشة الناس، بل في التطمينات المتكررة لبعض المسؤولين الاقتصاديين لدينا التي لا تتوافق مع تطور الأحداث ولا مع المشاهد على أرض الواقع، بل وتفتقر للمبررات الموضوعية التي تجعلها مقنعة ومقبولة عند الناس! وأخشى ما نخشاه، هو أن نتأخر عن تبنى الإجراءات اللازمة لمواجهة الأسباب الداخلية والخارجية للغلاء، ثم نضطر للأخذ بها بعد تفاقم الأوضاع، فالمشاهد أن قراراتنا الاقتصادية يعتريها للأسف قدر كبير من البطء والتردد.
إن المرء ليصاب بحيرة بالغة ويخامره شعور جارف بأسى وأسف عميقين، حينما يلاحظ مدى الحسم والسرعة في اتخاذ القرارات وتبني الإجراءات الاقتصادية اللازمة لمواجهة الغلاء في بعض الدول المجاورة لنا، وكان آخرها قرار سلطات دبي بإلغاء الضرائب الجمركية على الحديد والأسمنت، وقبلها منع رفع الإيجارات للعقود التالية لعام 2005م، بينما اكتفينا نحن بالتصريحات وتوزيع الاتهامات المتناقضة، وتكوين اللجان، وترك الأقلام الصحافية غير المتخصصة تعمل على إثارة العامة بحصر سبب الظاهرة فقط في احتكار وجشع التجار.
وفي هذا تبسيط بالغ لأصل المشكلة، وانحراف عن الأسلوب الصحيح للنظر في الأسباب الحقيقة لظاهرة الغلاء، انحرافا لا يساعد على حلها.
نعم اقتصادنا كغيره من اقتصادات بقية دول العالم معرض لتقلبات في النشاط الاقتصادي لأسباب داخلية وخارجية، لكن علينا أن نكون مستعدين وحاسمين في مراجعة سياساتنا الاقتصادية النقدية والمالية، لتكون أكثر فاعلية في كبح جماح الغلاء، وأقدر على امتصاص آثاره التي أضرت بالعباد والبلاد.
يجب في مثل هذه الأوقات، أن تقوم استراتيجية مؤسسة النقد بتحجيم عرض النقود، ومنع نمو السيولة بأكثر مما يحتاجه ويستوعبه الاقتصاد.
علينا استخدام الأدوات المتاحة في تقييد الائتمان بشكل عام، وبشكل خاص في القطاعات التي تدل المؤشرات أنها تسهم أكثر من غيرها في ارتفاع الأسعار.
وهذا يشمل تقييد الائتمان الممنوح للأفراد لتمويل نفقاتهم الاستهلاكية والترفيهية.
وفي المقابل الإبقاء على الشروط السهلة فيما يتعلق بتمويل الأنشطة التي تساعد على فك الاختناقات في القطاعات التي تعاني نقصا كبيرا في العرض كقطاع الإسكان.
أما إذا تعلق الأمر بالأسباب الخارجية لارتفاع الأسعار، فمازلت عند موقفي من أن الوقت قد حان وبان وعليه الأمان لتغيير سعر صرف الريال مقابل الدولار لتخفيف ضغوط ارتفاع أسعار الواردات.
أما بعض إخواننا الذين يدافعون عن بقاء سعر الصرف كما هو ويرون فيه مصلحة، فنسألهم إن كان الأمر كذلك لماذا لا نعظم من قوة هذه المصلحة بجعل الدولار يساوي أربعة ريالات، بدلا من 3.5 ريال؟
وعلى كل حال، إذا كان هناك إصرار على عدم تغيير سعر الصرف لمصالح عليا نجهلها، فلا أقل، بعد أن زادت أسعار النفط لثلاثة أمثال ما كنا نطمح إليه قبل سنوات قليلة مضت، من اتخاذ إجراءات أكثر قوة تشمل:
1 - ترشيد وضبط النفقات الحكومية بقصرها على المشاريع الاستثمارية المهمة، وتحجيم المصاريف الاستهلاكية التي ليس لها مردود كالنفقات الترفيهية والاحتفالية.
2 - خفض رسوم الخدمات عالية التكلفة كرسوم الاستقدام والكهرباء، بما يخدم ذوي الدخول المحدودة.
3 - إصلاح قطاع الإسكان إصلاحا جذريا ليقوم على شركات تطوير عقاري متخصصة وشاملة، تمنحها الدولة الأراضي مجانا، على أن تقوم بتوفير مساكن متعددة الأنماط والأحجام بطرق مقسطة وفي متناول عامة الناس.
4 - استخدام عوائد النفط الضخمة في تطوير حقيقي ونوعي لبرامج الخدمات الصحية والتعليمية وبرامج التدريب وإعادة تأهيل العاطلين من أبنائنا، وهي النفقات التي ينظر إليها في كل مجتمع ناضج على أنها أهم وأفضل استثمار.
5 - تقديم مزيد من الإعانات ولو بشكل مرحلي ومؤقت، بشرط أن تكون موجهة لصالح ذوي الدخل المحدود.
6 - إعادة النظر في مسألة زيادة الرواتب والأجور، بزيادتها دفعة واحدة بنسب لا تقل عن 50 في المائة لأصحاب الرواتب المتدنية ومعاشات التقاعد التي تقل عن خمسة آلاف ريال.
أو على الأقل، نعكس تسلسل نسب الزيادة التي أعلن عنها، طالما أن التضخم سوف ينخفض!! فنبدأ بنسبة 15 المائة في السنة الأولى، ثم تصبح 10 في المائة في السنة الثانية، وتنتهي في السنة الثالثة بنسبة 5 في المائة.
ينبغي أن تتصف سياساتنا الاقتصادية بالمرونة والفاعلية والتوقيت المناسب، لتظهر آثارها المرغوبة في الناس والاقتصاد.