أحسن الله إليك على ذكر هذا الموضوع القيم .
رســــــالــــة الحــــجـــاب
أعلم أيها المسلم أن احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب, دل على وجوبه كتاب ربك تعالى وسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم , والاعتبار بالصحيح والقياس المطرد.
* * *
أدلة القران
الدليل الأول :قوله تعالى:
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولايبدين زينتيهن ألاما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولايبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن...) النور:31
وبيان دلالة هذه الآية على وجوب الحجاب على المرأة عن الرجال الأجانب من وجوه
1-أن الله تعالى أمر المؤمنات بحفظ فروجهن , والأمر بحفظ الفرج أمر ربما يكون وسيلة إليه, ولا يرتاب عاقل أن من وسائله تغطية الوجه, لآن كشفه سبب للنظر إليها وتأمل محاسنها والتلذذ بذلك, وبالتالي إلي الوصول والاتصال, وفي الحديث : (العينان تزنيان وزناهما النظر) إلى أن قال (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) فإذا كان تغطية الوجه من وسائل حفظ الفرج كان مأمورا به, لان الوسائل لها أحكام المقاصد.
2- وقوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فان الخمار ما تخمر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدقة, فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها, إما لأنه من لازم ذلك أو بالقياس, فانه إذا وجب ستر النحر والصدر كان وجوب وجوب ستر الوجه من باب أولى ,لأنه موضوع الجمال والفتنة, فان الناس الذين يتطلبون جمال الصورة لا يسألون ألا عن الوجه، فإذا كان جميلا لم ينظروا إلى ما سواه نظرا ذا أهمية, ولذلك أذا قالوا فلانة جميلة لم يفهم من هذا الكلام ألا جمال الوجه, فتبين أن الوجه هو موضع الجمال طلبا وخبرا. فإذا كان كذلك فكيف يفهم من الشريعة الحكيمة تأمر بستر الصدر والنحر ثم ترخص في كشف الوجه؟
3- إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقا ألا ما ظهر منها , وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب, ولذلك قال (إلا ما ظهر منها ), لم يقل إلا ما أظهرن منها, ثم نهى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم, فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى, فالزينة الأولى هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولايمكن إخفاؤها .والزينة الثانية هي الزينة البطانة التي يتزين بها, ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الاولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
4- أن الله تعالى يرخص بإبداء الزينة البطانة للتابعين غير أولي الإربة من الرجال , وهم الخدم الذين لا شهوة لهم , وللطفل الصغير الذي لم يبلغ الشهوة ولم يطلع على عورات النساء , فدل هذا على أمرين:
أحدهما: أن إبداء الزينة الباطنة لا يحل لأحد من ألا جانب إلا لهذين الصنفين.
الثاني:أن علة الحكم ومداره على خوف الفتنة بالمرأة والتعلق بها , ولا ريب أن الوجه مجمع الحسن وموضع الفتنة , فيكون ستره واجبا لئلا يفتتن به, أولو الإربة من الرجال.
5- قوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ), يعني لا تضرب المرأة برجلها فيعلم ما تخفيه من الخلاخيل ونحوها مما تتحلى به للرجل, فاذا كانت المرأة منهية عن الضرب بالأرجل خوفا من افتتان الرجل بما يسمع من صوت خلخالها ونحوه, فكيف بكشف الوجه,
*فأيما أعظم فتنة أن يسمع الرجل خلخالا بقدم امرأة لا يدري ما هي وما جمالها, لا يدري أشابة هي أم عجوز, ولا يدري أشو هاء هي أم حسناء؟
*أيما أعظم فتنة هذا أو أن ينظر الى وجه سافر جميل ممتلئ شبابا ونضارة وحسنا وجمالا وتجميلا بما يجلب الفتنة ويدعو الى النظر إليها؟ إن كل إنسان له إربة في النساء يعلم أي الفتنتين أعظم وأحق بالستر والإخفاء
الدليل الثاني: قوله تعالى:
{والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم }(60) [النور:60 ]
*وجه الدلالة من هذه الآية الكريمة:أن الله تعالى نفى الجناح- وهو الإثم- عن القواعد وهن العواجز اللاتي لا يرجون نكاحا لعدم رغبة الرجال بهن لكبر سنهن, نفى الله الجناح عن هذه العجائز في وضع ثيابهن بشرط ألا يكون الغرض من ذلك التبرج بالزينة . ومن المعلوم بالبداهة أن ليس المراد بوضع الثياب أن يبقين عاريات,وإنما المراد بوضع الثياب التي تكون فوق الدرع ونحوه مما لايستر ما يظهر غالبا كالوجه والكفين , فالثياب المذكورة المرخصة لهذه العجائز في وضعها هي الثياب السابقة التي تستر جميع البدن , وتخصيص الحكم بهؤلاء العجائز دليل على أن الشواب اللاتي يرجون النكاح يخالفنهن في الحكم , ولو كان الحكم شاملا للجميع في جواز وضع الثياب ولبس درع ونحوه لم يكن لتخصيص القواعد فائدة. ومن قوله تعالى (غير متبرجات بزينة)دليل أخر على وجوب الحجاب الشابة التي ترجو النكاح, لأن الغالب عليها أذا كشفت وجهها أنها تريد التبرج بالزينة وإظهار جمالها وتطلع الرجال لها ومدحهم ايها ونحو ذلك ,ومن سوى هذه نادرة, والنادر لا حكم له.
الدليل الثالث: قوله تعالى:
((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليها من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما)) [الأحزاب:59]
قال ابن عباس رضي الله عنهما : (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوهن من فوق رءوسهن بالجلابيب,وببدين عينا واحدة) وتفسير الصحابي حجة , بل قال بعض العلماء: انه في حكم المرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلم ,وقوله رضي الله عنه : وببدين عينا واحدة , إنما رخص في ذلك لأجل الضرورة والحاجة إلى نظر الطريق , فأما إذا لم يكن حاجة فلا موجب لكشف العين.
*والجلباب هو الرداء فوق الخمار بمنزلة العباءة, قالت أم سلمه رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: (خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكيسة سود يلبسنها).وقد ذكر أبو عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رءوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن من أجل رؤية الطريق.
الدليل الرابع : قوله تعالى
(لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء اخواتهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا) [الأحزاب:55 ]
قال ابن كثير رحمه الله :لما أمر الله النساء بالحجاب عن الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب إلا احتجاب عنهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى( ولايبدين زينتهن الالبعولتهن)الآية.
* * *
أدلة السنة
*وما أدلة السنة فمنها:
الدليل الأول : قوله صلى الله عليه وسلم(إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة, وان كانت لاتعلم) رواه أحمد. قال في مجمع الزائد: رجاله رجال الصحيح.
*وجه الدلالة منه : أن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الجناح- وهو الإثم – عن الخاطب خاصة إذا نظر من مخطوبته, بشرط أن يكون نظره للخطبة, فدل هذا على أن غير الخاطب أثم بالنظر إلى الأجنبية بكل حال, وكذلك الخاطب إذا نظر لغير الخطبة مثل أن يكون غرضه بالنظر التلذذ والتمتع به ونحو ذلك.
*فان قيل : ليس في الحديث بيان ما ينظر إليه, فقد يكون المراد بذلك نظر الصدر والنحر, فالجواب: أن كل أحد يعلم أن مقصود الخاطب المراد للجمال إنما هو جمال الوجه, وما سواه تبع لايقصد غالبا, فالخاطب إنما ينظر إلى الوجه لأنه المقصود بالذات لمريد الجمال بلا ريب.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: (يا رسول الله, إحدانا لا يكون لها جلباب) فقال النبي صلى الله عليه وسلم(لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فهذا الحديث يدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة ألا تخرج المرأة إلا بجلباب, وأنها عند عدمه لا يمكن أن تخرج, ولذلك ذكرن رضي الله عنهن هذا المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أمرهن بالخروج إلى مصلى العيد, فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهن حل هذا الإشكال بأن تلبسها أختها من جلبابها, ولم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب فيما هو مأمور به للرجال والنساء , فاذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لهن بالخروج بغير جلباب فيما هو مأمور به فكيف يرخص لهن ترك الجلباب لخروج غير مأمور به ولا محتاج اليه ؟بل هو التجول في الاسواق والاختلاط بالرجال والتفرج الذي لا فائدة منه , وفي الامر بلبس الجلباب دليل على أنه لابد من التستر, والله أعلم.
الدليل الثالث: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن,ثم يرجعن الى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس. وقالت:لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها.وقد روى نحو هذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.والدلالة من هذا الحديث من وجهين:
1-أنا الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل , وأعلاها أخلاقا وآدابا وأكملها إيمانا وأصلحها عملا, فهم القدوة الذين رضي الله عنهم وعمن اتبعوهم بإحسان ,
قال تعالى (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) سورة التوبة
فاذا كانت تلك طريقة نساء الصحابة فكيف يليق بنا أن نحيد عن تلك الطريقة التي في إتباعها بإحسان رضا الله تعالى عمن سلكها واتبعها , وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)
الثاني: أن عائشة أم المؤمنين و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما –وناهيك بهما علما وفقها وبصيرة في دين الله ونصحا لعباد الله- أخبر بان رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رأى من النساء ما رأياه لمنعهن من المسجد. وهذا في زمن القرون المفضلة تغيرت الحل عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم الى حد يقتضي منعهن من المساجد. فكيف بزماننا هذا بعد بنحو أربعة عشر قرنا, وقد اتسع الآمر,وقل الحياء,وضعف الدين في قلوب كثير من النساء.
وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهما فهما ما شهدت به نصوص الشريعة الكاملة من أن كل أمر يترتب عليه محذور فهو محظور.
الدليل الرابع:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله اليه يوم القيامة) فقالت أم سلمه: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: (يرخينه شبرا) قالت: إذن تنكشف أقدامهن, قال :يرخين ذراعا ولا يزدن عليه).
• ففي هذا الحديث دليل على وجوب ستر قدم المرأة وأنه أمر معلوم عند النساء الصحابة رضي الله عنهم, والقدم أقل فتنة من الوجه والكفين بلا ريب, فالتنبيه بالأدنى تنبيه على ما فوقه وما هو أولى منه بالحكم, وحكمة الشرع تأبى أن يجب ستر ما هو أقل فتنة, ويرخص في كشف ما هو أعظم منه فتنة. فان هذا من التناقض المستحيل على حكمة الله وشرعه.
الدليل الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه) {رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي}
*وجه الدلالة من هذا الحديث: أنه يقتضي أن كشف السيدة وجهها لعبدها جائز ما دام في ملكها,فإذا خرج منه وجب عليها الاحتجاب , لأنه صار أجنبيا,فدل على وجوب احتجاب المرأة عن الرجل الأجنبي .
الدليل السادس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم, فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها , فإذا جاوزونا كشفناه) {رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه}
*ففي قولها : (فإذا حاذونا) تعني الركبان ((سدلت أحدانا جلبابها على وجهها)) دليل على وجوب ستر الوجه, لآن المشروع في الإحرام كشفه,فلولا وجود مانع قوي من كشفه حينئذ لوجب بقاؤه مكشوفا حتى الركبان. وبيان ذلك أن كشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم, والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب , فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عند الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه حال الإحرام.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المرأة المحرمة تنهى عن النقاب والقفازين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كان معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن , وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.
*فهذه ستة أدلة من السنة على وجوب احتجاب المرأة وتغطية وجهها عن الرجال الأجانب , أضف إليها أدلة القران الأربعة تكن عشر أدلة من الكتاب والسنة.
* * *
أدلة المبيحين لكشف الوجه ولا أعلم لمن أجاز نظر الوجه والكفين من الأجنبية دليلا من الكاتب والسنة سو ما يأتي:
الأول : قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي وجهها وكفاها والخاتم. قال الأعمش عن سعيد بن جبير عنه: وتفسير الصحابي حجة كما تقدم.
الثاني :ما رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول لله وعليها ثياب رقاق فأرض عنها وقال: (يا أسماء, إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا ) وأشار الى وجهه وكفيه.
الثالث:ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخاه الفضل كان رديف للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, فجاءت امرأة ممن خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر اليه, فجعل النبي يصرف وجه الفضل الى الشق الأخر.ففي هذا دليل على أن هذه المرأة كاشفة وجهها.
الرابع: ما أخرجه البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صلاة العيد ثم وعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: ( يا معشر النساء, تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم ) فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين.. الحديث. ولولا، أن وجهها مكشوف ما عرف أنها سفعاء الخدين.
هذا ما أعرفه من الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على كشف الوجه لأجانب من المرأة.
* * *
الرد على هذه الأدلة
ولكن هذه الأدلة لا تعارض ما سبق من أدلة وجوب ستره وذلك لوجهين.
أحدهما:أن أدلة وجوب ستره ناقلة عن الأصل, وأدلة جواز كشفه مبقية على الأصل , والناقل عن الأصل كما هو معروف عند الأصوليين.وذلك لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه. فاذا وجد الدليل الناقل عن الأصل دل ذلك على طروء الحكم على الأصل وتغييره له. ولذلك نقول أن مع الناقل عن زيادة علم. وهو ثابت حتى على تقدير تكافؤ الأدلة ثبوتا ودلالة.
الثاني: أننا إذا تأملنا أدلة جواز كشفه وجدناها لا تكافئ أدلة المنع ويتضح ذلك بالجواب عن كل واحد منها بما يلي:
1- عن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ثلاثة أوجه:
أولها : محتمل أن مراده أول الأمرين قبل نزول أية الحجاب وقال شيخ الإسلام قبل الحجاب كان النساء كانت يخرجن كاشفات الوجه واليدين ويجوز النظر إليها الأنة يجوز لها إظهاره .
الثاني: يحتمل أن مراده الزينة التي نهى عن إبدائها كما ذكره ابن كثير في تفسيره, ويؤيد هذين الاحتمالين تفسيره رضي الله عنه لقوله تعالى :( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) [الأحزاب :59]كما سبق في الدليل الثالث من أدلة القران .
الثالث: إذا لم نسلم أن مراده أحد هذين الاحتمالين فان تفسيره لا يكون حجة يجب قبولها إلا إذا لم يعارضه صحابي أخر. فان عارضه صحابي أخر أخذ بما ترجحه الأدلة الأخرى,وابن عباس رضي الله عنهما قد عارض تفسيره ابن مسعود رضي الله عنه حيث فسر قوله: ( إلا ما ظهر منها ) بالرداء وما لابد من ظهوره, فوجوب طلب الترجيح والعمل بما كان راجحا في تفسيرهما.
2-وعن حديث عائشة بأنه ضعيف من وجهين أحدهما : الانقطاع بين عائشة وخالد بن دريك الذي رواه عنها كما أعله أبو داود نفسه , حيث أن خالد لم يسمع من عائشة , و كذلك أعله أبو حاتم الرازي.
الثاني: أن في إسناده سعيد بن بشير النصري نزيل دمشق, تركه ابن مهدي , وضعفه أمام السنة والجماع الإمام أحمد بن حنبل و ابن معين وابن المديني و النسائي ,وعلى هذا الحديث ضعيف لا يقاوم ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الحجاب, وأيضا فان أسما بنت أبي بكر رضي الله عنها كان لها حين هجرة النبي صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون سنة, فهي كبيرة السن فيبعد أن تدخل النبي صلى الله عليه وسلم بثياب رقاق تصف منها ما سوى الوجه والكفين, والله أعلم. ثم تقدير الصحة يحمل على ما قبل الحجاب, لأن نصوص الحجاب ناقلة عن الأصل فتقدم عليه.
3-وعن حديث ابن عباس بأنه لا دليل فيه على جواز النظر الى الأجنبية, لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر الفضل على ذلك بل حرف وجهه الى الشق الأخر, ولذلك ذكر النووي في شرح صحيح مسلم بأن من فوائد هذا الحديث تحريم نظر الأجنبية.
*وقال حافظ ابن حجر في فتح الباري في فوائد هذا الحديث : وفيه من النظر الى الأجنبيات وغض البصر. قال عـياض :وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة,قال وعند ي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا غطى وجه الفضل كما في الرواية,فان قيل : فلماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة بتغطية وجهها ؟ فالجواب : أن الظاهر أنها محرمة, والمشروع في حقها ألا تغطي وجهها إذا لم يكن أحد ينظر إليها من الأجانب, أو يقال : لعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد ذلك . فان عدم نقل أمره بذلك لا يدل على عدم الأمر , إذا عدم النقل ليس نقلا للعدم. وروى مسلم وأبو داود عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة,فقال:((أصرف بصرك)) , أو قال : فأمرني أن أصرف بصري.
وعن حديث جابر بأن لم يذكر متى كان ذلك.فأما أن تكون هذه المرأة من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا فكشف وجهها مباح, ولا يمنع وجوب الحجاب على غيرها , أو يكون قبل نزول أية الحجاب , فإنها كانت في سورة الأحزاب سنة خمس أو ست من الهجرة.
واعلم أننا إنما بسطنا الكلام في ذلك لحاجة الناس الى معرفة الحكم في هذه المسألة الاجتماعية الكبيرة التي تناولها كثير ممن يريدون السفور , فلم يعطوها حقها من البحث والنظر, مع أن الواجب على كل باحث أن يتحر العدل والإنصاف . وألا يتكلم قبل أن يتعلم, وأن يقف بين أدلة الخلاف موقف الحاكم من الخصمين , فينظر بعين العدل ويحكم بطريق العلم. فلا يرجح أحد الطرفين بلا مرجح ,بل ينظر في الأدلة من جميع النواحي , ولا يحمله اعتقاد أحد القولين على المبالغة والغلو في إثبات حججه والتقصيم و الإهمال لأدلة خصمه, ولذلك قال العلماء: ينبغي أن يستدل قبل أن يعتقد ذلك, ليكون اعتقاده تابعا للدليل لا متبوعا له , لأن من اعتقد قبل أن يستدل قد يحمله اعتقاه على رد النصوص المخالفة لاعتقاده أو تحريفها إذا لم يمكنه ردها.
ولقد رأينا ورأى غيرنا ضرر تسخير الأدلة لتؤيد الاعتقاد حيث حمل صاحبه على تصحيح أحاديث ضعيفة, أو تحميل نصوص صحيحة ما لا تتحمله من الدلالة تثبيتا لقوله واحتجاجا له . فلقد قرأت مقالا لكاتب حول عدم وجوب الحجاب احتج بحديث عائشة الذي رواه أبو داود في قصة دخول أسما بنت أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم , وقوله لها: إن المرأة إذا بلغت سن المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا, وأشار الى وجهه وكفيه, وذكر هذا الكاتب أنه حديث صحيح متفق عليه, والواقع أن العلماء غير متفقين على صحته, وكيف يتفقون على صحته وأبو داود راويه قد أعله بالإرسال , وأحد رواته ضعفه الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث ؟ ولكن التعصب والجهل يحمل صاحبه على البلاء والهلاك. قال ابن القيم:
وتعر من الثوبين من يلبسهما يلقى الردى بمذلة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان
وليحذر الكاتب والمؤلف من التقصير في طلب الأدلة وتمحيصها والتسرع الى القول بغير علم ممن قال الله فيهم : (( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) [ الأنعام:144].
أو يجمع بين التقصير في طلب الدليل والتكذيب بما قام عليه الدليل , فيكون منه شر على شر,ويدخل في قوله تعالى: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذا جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) [الزمر:32]
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق ويوفقنا لإتباعه, ويرينا الباطل باطلا ويوفقنا لاجتنابه, ويهدينا صراط المستقيم, انه جواد كريم, وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى اله وأصحابه وأتباعه أجمعين
__________________