تعليق على القصيدة من أحد محبي الشاعر . يقول :
القصيدة شفافة جدا ، لغتها للعموم لن يستعصي على احد فهمها ، او فهم ما فيها من صور ؛لأن لكل مقام مقال ، وهذا ما يكون في الرثاء ، ولذلك ليس لدي الا القليل من الاضاءات :
مـا أرانـي فاعـلاً فـي الليـل إن أرخـى سدولـه؟
.........مـا أرانـي فاعـلاً والصبـح قـد حــان احتـضـاره
بالاجابة عن هذه التساؤلات ستتهيئ للدخول في جو النص .
كما قلت قبل ذلك براعة استهلال في معظم قصائد ابو فارس ، البيت لا يحمل الفاظ غريبة كما ترى ولكن يحمل معاني بلاغية عظيمة .
(الليل يرخي سدوله) اقتباس من قصيدة لامرئ القيس وهو شاعر جاهلي من اصحاب المعلقات .
(الصبح حان احتضاره) صورتين رائعتين ليس فيها تكلف ، وفي نفس الوقت تجسد لك ما يقصد الشاعر فماذا سيفعل فيما يجري في الكون من اقدرا وماذا سيفعل فيما هو مقدر عليه؟
طفلي الـلي مات فـي اول يــوم مــا ذاق الطفـولـه
.........عاجلـه سهـم الـقـدر واخـتـاره الله فــي جــواره
طفلي اللي مات في غمضة طرف ما حال حوله
.........يــوم عـمـر الآدمــي مــا كــان يـومـاً باختـيـاره
كما ترى الموضوع رثاء والقصيدة لا تحتمل أي غموض ولا اسقاطات ومع هذا فلم تخفت الشاعرية ولم يضعف بريقها بل تكاد تصل غاية الاندماج في جو القصيدة وانت في بدايتها .
وكما قلت لك هو شاعر الحكمة (يوم عمر الادمي ما كان يوما باختياره)
ومن لا يعرف ان هذا الطفل مات عند ولادته ستدله القصيدة على ذلك .
يـا وجـودي يـوم لفّـوا شـاحـب الأكـفـان حـولـه
.........مــا تـقـول إلا شـظـيّـة لـؤلــؤٍ داخـــل مـحــاره
يا وجودي يـوم أطالـع فيه,فـي عرضـه وطولـه
.........تنتحـر فــي العـيـن مـنـي دمـعـةٍ كنْـهـا شــراره
نفس عيـن آبـوي عينـه بـل ونفـس الـزول زولـه
.........وبالأمـاره, فـيـه مــن عمه(شبـيـبٍ) كــم أمــاره
سيبلغ بك الحزن مبلغا عظيما وانت تقرأ هذه الابيات وما يليها
(شاحب الأكفان) الشحوب هنا ليس حسيا حقيقيا وانما شحوب معنوي
(دمعة كنها شراره) شبه الدمعة بالشرارة ووجه الشبه الحرارة في كليهما وهنا تشبيه امر محسوس وهو حرارة الشرارة بامر غير محسوس وهو حرارة الدمعة لتقترب الصورة في الذهن ، ثم يتحدث الشاعر عن ما رآه في ابنه من شبه بوالده وعمه وهو شعور يعتري الاب خاصة ان كان هذا هو مولوده الاول .
جـابـه الله مـثـل هـتّـان المـطـر سـاعـة هطـولـه
.........ديــمٍ احـيــا بـهـجـة امـــه تـــارةٍ وآبـــوه تـــاره
ويوم شاف الشرّ من صوب آهلـهْ يشعـب ذلولـه
.........حطّ دون صدورهم صـدره مـن الرحمـه ستـاره
يذكر هنا حالة قدوم المولود ، فكما ان هتان المطر تحيا به الارض ويبعث في الناس السرور ، كان قدوم المولود كذلك احيا القلوب وبعث السرور في من حوله .
ومــات تــوّي مــا بـعـد بـإيـديّ لبّـسـتـه نـعـولـه
.........مـات تـوّي مـا بعـد سـاويـت فــي ثـوبـه زراره
كـنّ عينـه يـوم مـات تقول:بابـا, ويـش هـو لــه؟
.........يوم تبكـي وانـت تـدري ميـن انـا ذلحيـن جـاره!
كلنـا راحــل وخـيـر الـنـاس مــن زوّد رحـولـه
.........باغتـنـام الصالـحـات وكــلّ كـسـرٍ لـــه جـبــاره
يجب ان تحزن هنا كثيرا تمكن اشاعر من ايصال القصيدة لأعماق النفوس فهي من قلب الشاعر والشاعر في قمة التمكن الشعري
صور محزنة مزجها بحكمة وهي عادة الشاعر فهو يقول كلنا راحل وخيرنا من تزود للرحيل باغتنام الاعمال الصالحة ، وايضا كل كسر له جبارة .
طفلـي اللـي صوّبـت كبـده قبـل ساعـة وصـولـه
.........بنـدقٍ مـن عيـن حاسـد واودعـت قلبـي طـشـاره
يتحدث الشاعر عن الحسد ( كل ذي نعمة محسود ) وهو داء عضال نسال الله ان يكفينا والشاعر شر الحاسدين
يـا وجـودي مـا لقيـت أنسـب لمـولـودي مقـولـه
.........مـن مقولـة: يـا وجـه صبـحٍ تحـرّر مـن خـمـاره
أو ثـغــر بـــرقٍ تـهـامـيٍّ تـبـسّـم فـــي ثـعـولــه
.........ضـوح مصباحـه علـيـه يــورّد النـجـدي بـكـاره
يـوم اشيلـه مـا تقـول اشـيـل شــيٍّ مــن نحـولـه
.........آتشـمّـم ريحـتـه -مــن فجـعـة القـلـب- بـحـراره
يوم جيـت العـب معـاه وغـاب قلبـي مـن ذهولـه
.........يـوم مـا شفتـه تبسّـم لـي وانــا فــي اول زيــاره
قمت أحدث عنه نفسي- والعرب حولي وحوله-
.........ليت ما هـو ميْـتٍ؟إلا ميـت! مـا تبغـى استشـاره
اتْخنـقـنـي عـبـرتـي يـــوم آتـذكّــر مـــا تـقـولــه
.........عـنـه أمّــه يــوم أنــا فــي ديـــرةٍ مـاهـيـب داره
لقد عاجل الموت مولوده فلم يستطع ان ينسب له مقولة واحدة
ثم ذكر صورا رائعة جدا (وجه صبح تحرر من خماره ) ( ثغر برق تهامي تبسم في ثعوله ) (ضوح مصابحه عليه يورد النجدي بكاره )هي كلها عبارات ترحيب عبارات استبشار، لكن لم يتمكن من قولها له .
ثم لك بعد ذلك ان تبكي ... تصوير دقيق جدا للحظة رؤية لمولده الميت وما يدور في النفس من حديث داخلي والصدمة التي لا يملك معها ابن ادم وهو المخلوق الضعيف الا ان تخنقه العبرة .
آتـذكّـر يــوم هــو فــي بطنـهـا يـحـرّك رجـولـه
.........وانتعيرّ:لـيـت مــا هــو أقـشـرٍ؟ لـبّـى الـقـشـاره
كـم سهرنـا معـه ليـلـه كامـلـه مــن كـبـر هـولـه
.........ليـن صرنـا نعَـرْف موعـد قومتـه داخـل قــراره
وان تأخّـر مـا صحـى فـي موعـده قمنـا نصولـه
.........ننغـزه يــا مــن يمـيـن البـطـن وإلا مــن يـسـاره
ما نبي شيْ بـسْ نبـي نضحـك علـى ردّة فعولـه
.........ننـغـزه ويـفـز خـايـف مــا درى ويــش العـبـاره
مـن يـدي غـيمة علـى أيـدي الملائكـة محمـولـه
.........غيمـةٍ مــن نــور مــا تشـبـه نضارتـهـا نـضـاره
هنا الحديث عن الذكريات التي اغفلها الشعراء وهي فعلا ذكريات ايام كان في بطن امه يتحرك يمنة ويسرة وكيف يتابع الابوان بشغف تحركاته ويفرحون بها ويستبشرون ، وهنا براعة التصوير الدقيق دون ان تشعر بمباشرة او ملل لأن الفكرة اصلا حديثة عهد بشعر .
يـا إلاهٍ كـل مـا فــي الأرض طــراً سبّـحـوا لــه
.........شفّـعـه فـيـنـا غـــداً واجـعـلـه لابـوانــه بـشــاره
فــي نـهــارٍ فـيــه أعـنــاق الشيـاطـيـن مغـلـولـه
.........يتلقّفـنـا مـثــل مـــا يـلـقـف الـحــاوي صـــراره
يختم الشاعر هذه المعلقة بالدعاء لله تعالى وهذا حال المؤمنين يلجأون الى الله عز وجل في كل حال وعند كل حادث وهو ختام لائق بالقصيدة متدرج مع ابياتها .
ثم اتبعها بالحكم وهي تحتاج ان يختص بها شرح وافر ، كافي وشافي ، فأغلبها مما لم يسبق وان تداوله الشعراء وانظر الى كيفية اختيار خاتمة القصيدة وتدويرها وربطها بالموضوع الرئيسي في ايجاز بالغ :
خــذه واتركـنـي لأنّ اللـيـل قــد أرخــى سـدولــه
.........حــان وقــت مْـعَـاوَدَة مـيـلاد طفـلـي واحتـضـاره
ففي كل ليل سيتكرر عليه ذلك المشهد فاتركه وحيدا في ذلك الوقت .
لله درك ايه الشاعر وجبر الله مصابك وسمع الله دعائك
اتمنى ان اكون قد وفقت في الطرح ، ولا شك انه يوجد من الاعضاء من سيمتعنا بما هو افضل من هذا بكثير وارجوا من الله لكم التوفيق .