ومن حديث جابر أخرجه النسائي في "الكبرى" (1/652/2152) بلفظ: " أن النبي e صلى على قبر امرأة بعد ما دفنت".
وسنده صحيح، قاله الألباني في "الإرواء" (3/185).
الآثار عن الصحابة في ذلك
أخرج عبد الرزاق عن بن جريج قال: قلت: لنافع أكان ابن عمر يكره أن يصلي وسط القبور؟ قال: "لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، قال: والإمام يوم صلينا على عائشة رضي الله عنها؛ أبو هريرة وحضر ذلك عبد الله بن عمر".
"المصنف" (1/407/1593)، (3/525/6570) قال ابن جريج هنا: " أخبرني نافع قال صلينا ..". وسنده صحيح.
وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الإمام الثقة، قال الإمام أحمد عنه، إذا قال ابن جريج: "أخبرني وسمعت فحسبك به". "التهذيب" (6/359).
وأخرج الأثر أيضاً:
أبو بكر محمد بن ابراهيم بن المنذر النيسابوري في كتابه "الأوسط" (2/185/764)، قال:
حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لنافع: " أكان ابن عمر يكره ..".
وأخرجه الطبراني في "الكبير" (23/29/72)، والبيهقي في "الكبرى" (2/435) أيضاً.
قال الألباني: "هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/407/1594) بسند صحيح عن نافع". انتهى "تحذير الساجد من اتخاذ القبور مسجد" (188) الحاشية، ط. الرابعة 1402هـ، المكتب.
والتحقيق في هذه المسألة:
أن نقول كما قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (2/299ـ300):
" قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن وإن لم يمكن وجب الترجيح وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معاً.
أما وجه الجمع فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت، وليس فيها ركوع ولا سجود وإنما هي دعاء للميت فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو الناقلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود ويؤيده ما ذكره البخاري تعليقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ ( ورأى عمر أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر فقال القبر القبر ولم يأمره بالإعادة ) اهـ. وقال ابن حجر في "الفتح" ـ (1/524ـ525) ـ: "أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولاً في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري ولفظه ( بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر القبر القبرا فظن أنه يعني القمر فلما رأى أنه يعني القبر جاوز القبر وصلى )، وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق منها من طريق حميد عن أنس نحوه زاد فيه فقال بعض من يليني إنما يعني القبر فتنحيت عنه وقوله القبر القبر بالنصب فيهما على التحذير وقوله ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادى أنس على الصلاة ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف" اهـ منه بلفظه.
نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة فيشمل الصلاة على الميت فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده بل العكس أما الصلاة على الميت فهي التي تعارضت فيها الأدلة والمقرر في الأصول أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز وللمخالف أن يقول لا يتعارض عام وخاص فحديث ( لا تصلوا إلى القبور ) عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة والخاص يقضى به على العام.
فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقاً للعنه e لمتخذي القبور مساجد، وغير ذلك من الأدلة.
وأن الصلاة على قبر الميت التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود تصح لفعله e الثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عباس وأنس، ويومئ لهذا الجمع حديث: لعن متخذي القبور مساجد، لأنها أماكن السجود وصلاة الجنازة لا سجود فيها فموضعها ليس بمسجد لغة، لأنه ليس موضع سجود". انتهى.
قال ابن رجب الحنبلي في "الفتح": (3/194ـ195):
"قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد يسأل عن الصلاة في المقبرة؟
فكره الصلاة في المقبرة.
قيل له: المسجد يكون بين القبور، أيصلى فيه؟
فكره ذلك.
قيل له: إنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز؟
فكره أن يصلى فيه الفرض، ورخص أن يصلى فيه على الجنائز". انتهى.
و قال ابن رجب أيضاً في "الفتح": (3/197ـ198):
"قال ابن المنذر: وقد قال نافع مولى ابن عمر: "صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، والإمام يومئذ أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر". قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند أحمد، وغيره، وقد سبق قول أحمدَ في ذلك، وقال ـ أيضاَ ـ: "لا يصلى في مسجد بين المقابر إلا الجنائز، لأن الجنائز هذه سنتها"، يشير إلى فعل الصحابة y" انتهى.
ونقل كلام ابن رجب هذا؛ المحدث الألباني رحمه الله في كتابه "تحذير
الساجد"(ص 187) عن ابن رجب في "الفتح" وعزاه، فقال: "انظر "الكواكب الدراري" (65/81/2،1)". انتهى.
قلت: كتاب "فتح الباري" لابن رجب كان منه قطعة مخطوطة ضمن كتاب "الكواكب الدراري" لابن عروة في المكتبة الظاهرية. ذكر ذلك المحدث الألباني في كتابه "أحكام الجنائز" (ص 138)، ط.المعارف، و (ص 108)، ط. المكتب الإسلامي.
وقد طبع "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي مؤخراً، الطبعة الأولى سنة 1417هـ من منشورات "مكتبة الغرباء" بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، ويقع في تسعة مجلدات والعاشر فهارس، وهو إلى نهاية أبواب السهو "باب الإشارة في الصلاة" من "صحيح البخاري" حديث عائشة رضي الله عنها: "صلى رسول الله e في بيته وهو شاكٍ جالساً، ....." رقم (1179)، و في "الفتح" لابن رجب، وابن حجر برقم (1236).
ومن "فتح" ابن رجب نقلت، وبالله التوفيق.
بقي مسألة حديث النهي عن الصلاة على الجنائز بين القبور.
وهو حديث أنس بن مالك t أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/6/5631)، قال:
"حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال نا حسين بن يزيد الطحان قال نا حفص بن غِياث عن عاصم الأحول عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك أن النبي e: ( نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور )،لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا حفص تفرد به حسين بن يزيد".
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/36): "رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده حسن".
ومن طريق الطبراني أخرجه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (7/164/2594) تحقيق ابن دهيش، وقال: "إسناده لا بأس به".
وله طريق أخرى
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،،،،،،،