رد: معارك في رمضان
من منا لا يذكر غزوة بدر الكبرى التي وقعت في السابع عشر من رمضان سنة اثنتين هجرية، حينما خرج المشركون باتجاه المدينة المنورة معقل الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه من المهاجرين والانصار، وأعلن قائد جيشهم ابو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم بها وننحر الجزور، ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان، وتسمع العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً.
السؤال الذي ينبغي ان يطرح ونحن نعيش ذكرى هذه المعركة الخالدة في تاريخ الاسلام في هذه الايام المباركة، لماذا لا تستفيد الأمة من دروس وعبر هذه المعركة الكبرى التي سطرت النصر الاول في تاريخ الاسلام ضد قوى الضلالة والظلم والتجبر؟ وهل يوجد ثمة أحد من أبناء هذه الأمة لم يحفظ وقائع هذه الغزوة، وما ورد فيها من آيات محكمات، وما تضمنته من دروس وعبر؟
واذا كان الجواب بالنفي فلا بد أن يعقبه التساؤل الأكثر ايلاما للنفس: ولماذا اذاً الصد عن الاستفادة من هذه الدروس والعبر لانتزاع نصر كنصر بدر ضد اعداء هذه الأمة الذين اغتصبوا الديار ودنسوا المقدسات وتمادوا في الطغيان والعدوان؟
يقول جل من قائل (ولقد نصركم الله ببدر وانتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) – آل عمران: 123، هذا هو الدرس الاول من دروس هذه الغزوة الفارقة بين الحق والباطل، وهو ان النصر من عند الله، وان النصر هو المعنى العكسي للذل والهوان، وان التقوى تشكل المناعة المكتسبة لدى المؤمن ضد الهزيمة والانكسار.
إن قراءة جديدة لغزوة بدر في ظل الواقع المرير الذي تعيشه الامة في هذا الزمان لهي جديرة بأن يتزرع الامل مجددا في النفوس المؤمنة والعقول النيرة التي تنتصر لقضايا الحق والعدل، وتبذل الغالي والنفيس من أجل اعلاء كلمة الله، ولابد أن تعنى مثل تلك القراءة بالبعد الاستراتيجي في تلك الغزوة التي اثبتت ان الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتمتع بفكر استراتيجي سبق به أبرز القادة المعاصرين.
وقبل المواجهة مع المشركين، توجه النبي صلى الله عليه وسلم الى الجبهة الداخلية يدعم كيانها، فقد كانت بنود بيعة العقبة الثانية تشير الى ان دفاع الأنصار عن الرسول منحصرا داخل المدينة أما خارج المدينة فالوضع مختلف.
لذا توجه النبي الى أصحابه يستشيرهم ويطلب صراحة موقف الأنصار، فرأى موافقتهم الصريحة على القتال، واقتناعهم بعدالة قضيتهم، فسر بذلك ووعدهم بالنصر، وكان ذلك بمثابة درس آخر من دروس غزوة بدر، مؤداه ان العدالة شرط أساس لكسب المعركة، وقد ذكر الاستاذ محمد حسنين هيكل ان القائد الانجليزي (مونتجمري) الذي هزم روميل الملقب بثعلب الصحراء في حرب العلمين الشهيرة جاء لزيارة العلمين فسأله:
كيف يمكن لقوة أن تنتصر؟ قال له: بالعدالة، فلا بد للجنود ان يقتنعوا بأنهم يحاربون من أجل قضية عادلة.
وكان من عادة العرب في المعارك –كما يذكر د. انور ماجد عشقي- انهم يقفون أمام بعضهم، ثم تبدأ المعركة ما بين كر وفر، اما النبي فاستخدم تكتيكا آخر حيث رص الصحابة في صفوف لتعويض الفرق في ميزان القوى بينه وبين المشركين، «لان الرص بين الصفوف يوفر قوة احتياطية عند القائد يلجأ اليها عند حدوث أي خلل، وهذه القوة يمكن الاستعانة بها لرتق الخلل او الالتفاف على الأعداء».
ومن المظاهر الاستراتيجية الأخرى التي طبقها الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة ولم تعهدها العرب من قبل هو القدرة على اكتشاف اساليب جديدة في التحكم بسير المعركة من خلال وضعه لمركز القيادة (او ما يعرف الان بغرفة العمليات)، حيث بُني العريش في مكان آمن يشرف منه القائد على المعركة ويسيطر على مجرياتها، وهو ما عمل به القائد صلاح الدين الايوبي في معركة حطين المجيدة، فوفر له عاملا هاما في انتزاع النصر على الصليبيين في تلك المعركة الفاصلة.
كما نجح الرسول عليه الصلاة والسلام في تحييد سلاح الفرسان حين أمر الصحابة ان يبقوا في أماكنهم «فاذا غشيهم المشركون رموهم بالنبال».
الدرس الأكبر من معركة بدر هو انتصار الفئة القليلة على الفئة الكبيرة بإذن الله، «وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله» –البقرة 249.
ويبقى الدرس الذي ينبغي على الجميع تذكره، وهو ان الأمة انتصرت في جميع معاركها المجيدة التي وقعت غالبيتها في هذا الشهر الكريم عندما طبقت دروس معركة بدر الكبرى.
|