رد: تهادوا تحابوا
موانع الإهداء ومتى لا تقبل الهدية
فهذه النصوص التي قدمناه نصوص تحث عل الإهداء وقبول الهدية ، ولكن قد تأتي موانع تمنع من الإهداء من قبول الهدية .
ألا ترى أن ملكة سبأ أهدت لسليمان عليه السلام هدية فردها سليمان ، مع أن إبراهيم عليه السلام قبل هاجر لما أهديت إلى زوجته ، وقد قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الهدية ، فلما قبل نبينا الهدية وردها سليمان عليه السلام ؟!
ردها سليمان عليه السلام لما كانت رشوة عن الدين ، فالمرأة أرسلت الهدية إلى سليمان كي يقرها على عبادنها للشمس ويسكت عنها، ولم يكن لسليمان ذلك ، وخاصة أنه في مركز قوة واستغناء فمن ثم ردها لما كانت رشوة عن الدين .
قال الله تعالى : ( وإني مرسلة بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنت بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنه منها وهم صاغرون ) {النمل:35 ـ37 }.
فإذا كانت الهدية بمثابة الرشوة لإيطال الحق وإثبات الباطل فلا تقبل حينئذ.
* وكذلك إذا كانت الهدية للأمراء والوزراء والمسئولين ( كالقضاة والشرط ونحوهم .. ) كي يعطوك شيئا ليس لك من حقك أو يتجاوزوا لك عنشيء لا ينبغي لهم أن يتجاوزوا عنه فحينئذ يحرم عليك الأهداء ويحرم عليهم قبول الهدية ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم لفظا شديدا في الزجر في هذا الباب ففي الصحيحين (البخاري:2597 ومسلم :1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن التبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أهدي لي . قال: ( فهلا جلس في بيت أبيه ـ أو بيت أمه ـ فينظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منكم شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر ـ ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه ـ اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت . ثلاثا ) .
* ومن ثم روى البخاري معلقا (مع الفتح:5/260 ،قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وصله ابن سعد بقصة فيه ، فروى من طريق فرات بن مسلم قال : اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلميجد في بيته شيئا يشتري به فركبنا معه فتلقاه غلمان الدبر بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق فقلت له في ذلك :لا حاجة لي فيه ، فقلت : ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ؟ فقال : إنها لأةلئك هدية ، وهي للعمال بعدهم رشوة)
عن عمربن عبد العزيز : كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة .
* وأخرج عبد الرزاق في المصنف بإسناد صحيح لغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : السحت الرشوة في الدين . قال سفيان : يعني الحكم. (المصنف:14664 ) ،وانظر السنن الكبرى للبيهقي(10/139).
* وأخرج أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ) .
أخرجه أبو داود(3580 ) والترمذي(مع التحفة4/567 )وابن ماجه(2/755 ) .قال كثير من أهل العلم : إن الراشي هو معطي الرشوة والمرتشي هو آخذها والرائش هو الذي يسعى بينهما ، وقالوا : الرشوة ما يعطى لإبطال حق او لإحقاق باطل ، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلما فلا بأس به .
انظر ما ذكره المباركفوري في (تحفة الأحوذي) وكذلك شمس الحق العظيم أبادي في (عون المعبود) ، وكذلك الخطابي في ( معالم السنن ) وغيرهم.
* وكذلك إذا كانت الهدية شيئا مسروقا أو شيئا محروا فلا تقبل لما في ذلك من أكل الحرام والمعاونة على الإثم والعدوان .
وفي مسند الإمام أحمد أن المغيرة بن شعبة صحب قوما من المشركين فوجد منهم غفلة فقتلهم وأخذ اموالهم فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها . (المسند:4/246 من طريق أبي معاوية ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن المغيرة ابن شعبة . وفي رواية أبي معاوية عن هشام مقال ، لكن للحديث شاهد في البخاري ففبه{2731،2732} .. وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أم الإسلام فأقبل وأما لمال فلست منه في شيء ).
* وكذلك إذا كانت الهدية إنما أهداها صاحبها لأخذ أكثر منها وإن لم يأخذ أكثر منها يتسخط ، فإذا عرف من عادته هذا فللك ـ والله أعلم ـ أن تتوقف في قبول هديته .
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( واآتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ) . {الروم:39}.وهذا في مثل هذا الموطن ، في رجل يهدي وينتظر من المهدي إليه أضعاف ما يقدمه له .
* أو إن كان المهدي يعتبر هديته بمثابة الدين عليك ن وأنت لا تريد أن تتحمل دينا شرعيا ولا عرفا ، فللك في مثل هذه الحالة أن تتوقف مع اعتذار لطيف للمهدي ، اعتذار لا يكسر له خاطر ولا يشوش عليه فكرا.
* وكذلك إذا كان المهدي منان يمن بهديته ويتحدث بها فلك في مثل هذه الحال أن تتوقف .
وكل هذا يقدر بقدره والأصل استحباب الهدية واستحباب قبولها والإثابة عليها .
* وكذلك يكره لك أن تهدي هدية لشخص سفيه يستعملها في معصية الله عز وجل وفي الفساد في الأرض ، فإن الله تعالى يقول : ( والله لا يحب الفساد ) . {البقرة:205} ، ويقول سبحانه : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) {النساء:5} .
* وكذلك فأثناء هديتك انتبه هل ستصلح في باب وتفسد في باب آخر أم أن الهدية كلها خير ، فقد تهدي لابن من أبنائك دون الآخرين فتسبب مفسدة وضغينة بين الأولاد.
قال النعمان بن بشير رضي الله عنهما : أعطاني أبي عطية ، فقالت عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية ، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله . قال: ( أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ ) قال :لا . قال: ( فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) .قال:فرجع فرد عطيته. أخرجه البخاري:2587 ومسلم :1623 .
وأخرج عبد الرزاق(المصنف14650) بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية ولا عارة ركوب دابة .
وأخرج أيضا(المصنف14651 وهو صحيح أيضا ، وأخرجه البيهقي 5/350) من طريق سالم بن ابي الجعد قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إنه كان لنا جار سماك فأقرضته خمسين درهما ، وكان يبعث إلي من سمكه ، فقال ابن عباس : حاسبه ، فإن كان فضلا فرد عليه ، وإن كان كفافا فقاصصه .
وأخرج أيضا(عبدالرزاق في المصنف14649 ) بإسنلد صحيح عن إبراهيم عن علقمة قال : إذا نزلت على رجل لك عليه دين فأكلت عليه فأحسبه له ما أكلت عنده ، إلا أن إبراهيم كان يقول : إلا أن يكون معروفا كانا يتعاطيانه قبل ذلك .
وثم جملة آثار أخر في هذا الباب ، وفي أسانيد كثير منها مقال . (انظر في المصنف :عبد الرزاق{5/142} وفي السنن الكبرى:للبيهقي {5/349} .
قلت: لكن إذا أقرضت رجلا مبلغا من المال ورده إليك مع الزيادة ( بدون اشترط منك) وكانت نفسه طيبة بذلك فلا مانع من قبوله ، وذلك لما في الصحيحن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن (يعني: جمل له سن معين ) من الإبل فجاءه يتقاضاه فقال: (أعطوه ) فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها (وفي رواية أخرى : لانجد إلا سنا أفضل من سنه) ، فقال : ( أعطوه ) ، فقال : أوفيتني أوفى الله بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن خياركم أحسنكم قضاء ). البخاري:2393ومسلم :1601 .
* وفي الصحيحين أيضا من حديث جابر رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وكان لي عليه دين فقضاني وزادني ) .البخاري :2394 ومسلم ص 1222و1223.
* وأيضا ينبغي أن يتحفظ الشخص ويتورع عن الهدية أن كانت تقوم مقام الربا فقد يقترض شخص من شخص مالا ويحل وقت السداد ولا يطيق المدين السداد ؛ فيسلك مسلك الإهداء لصاحب المال حتى يسكته وحتى يصبر عليه فحينئذ من الورع ترك الهدايا ، نعم إنه يجوز قبولها ما لم يشترط لكن الأورع ترك الهدية إذا كانت بهذه المثابة .
وفي هذا الباب أذكر ما أخرجه البخاري :3814 رحمه الله من طريق أبي بردة قال : أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام رضي الله عنه فقال : ألا تجيء فأطعمك سويقا وتمرا وتدخل بيت ؟ ثم قال: إنك في أرض الربا بها فاش ، إذا كان لك على رجل حق فأهدي إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا .
* وكما أسلفنا فيجوز أن تهدي المرأة للرجل وأن يهدي الرجل للمرأة ومحل ذلك ـ كما هو معلوم ـ عند أمن الفتنة ، أما إذا كانت هدية المرأة للرجل أو الرجل للمرأة يتأتى من ورائها فتنة ، وتقع المرأة في قلب الرجل ويقع في قلبها ويحدث من وراء ذلك المحرم ، فحينئذ تمنع الهدية لا لكونها حراما ، ولكن سدا للذريعة الموصلة إلى الحرام فالله لا يحب الفساد.
* ولا ينبغي أن تحرج أحدا وتحمله على الإهداء لك ، فإنك إن فعلت أوشكت أن لا يبارك لك في هذا الشيء المهدى ولكن إن أهدي إليك أو أخذت الشيء بغير مسألة و لا إشراف نفس بورك لك فيه ، ولتحرص على أن تكون نفس المهدي طيبة وهو يهدي إليك ، وانظر إلى هذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه ، وانظر إلى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تطيب نفس المعطي .
أخرج البخاري : (2607 ـ 2608 )من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين جاءه وفد هوزان مسلمين . فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم ، فقال لهم : ( معي من ترون ، وأحب الحديث إلى أصدقه ، فاختاروا إحدى الطائفتين : إما السبي وإما المال ، وقد كنت استأنيت ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ـ فلما تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا : فإنا نختار سبينا . فقام في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين .وإني أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل) . فقال الناس : طيبنا يا رسول الله لهم . فقال لهم : ( آنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤهم ) . ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا و أذنوا .
* وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه كالذي يأكل ولا يشبع ) .
الحديث أخرجه البخاري (1472)ومسلم (1035) من حديث حكيم ابن حزام رضي الله عنه ولفظه : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ثم قال : ( يا حكيم ، إن هذا المال خضرة حلوة ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك فيه ، كالذي يأكل و لا يشبع . اليد العليا خير من اليد السفلى ) .قال حكيم : فقلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا . فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه . ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا . فقال عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي .
* وفي صحيح مسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : ( إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه ومن أعيطته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل و لا يشبع ) .
* وفيه أيضا من حديث معاوية رضي الله عنه كذلك : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته شيئا و أنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته ) .
* وإذا أهدى رجل هدية لرجل من أجل مصلحة ما أو من أجل أن يهدي إليه في موطن مشابه فلم يثب منها فله أن يرجع في هبته .
* قال عمر رضي الله عنه : من وهب هبة لذي رحم فهي جائزة ، ومن وهب لغير ذي رحم فهو أحق بها مالم يثب منها . ( ابن أبي شيبة{المصنف6/472} ) بإسناد صحيح .
* وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : هو أحق بها ما لم يرض منها . ( أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف{6/474}).
وفي رواية عنه أيضا : من وهب لوجه الثواب فلا بأس أن يرد .
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف {6/475} .
* وصح عن سعيد بن المسيب أن قال : من وهب هبة لغير ذي رحم فله أن يرجع ما لم يثبه .( أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف{6/ 475}. ويظهر لي ـ والله أعلم ـ أنه يدخل في هذا مايسميه العامة ( النقوط) للعروسين أو أحدهما ، فالناس يهدونه وينتظرون رده لهم في مناسبات مشابهة ، والله أعلم .
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
من كتاب فقه المعاملات بين المؤمنين والمؤمنات للشيخ مصطفى العدوي
|