رد: مقالات وكتاب
صناعة الفتوى
لا أزال حتى اللحظة أتعجب من القدرات الفذة لبعض مفتي الفضائيات، لاسيما حينما استحضر ما روي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قوله (أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول).
باعتقادي لو كان ابن أبي ليلى بين ظهرانينا حاملا "الريموت كنترول" ويتقلب بين سيل الفضائيات، وشاهد الحل والعقد والفتوى المباشرة على معضلات فقهية أو نوازل قطرية، لاتستغرق إجابتها من المفتي سوى ثوان على الهواء؛ لعلم أننا نعيش حالة فريدة لم يتورع البعض عن وصفها بفتاوى "التيك أوي".
الفريد في توصيف الحالة يتجلى في العلاقة بين المفتي والمستفتي، وفي أدوات المفتي لصناعة فتواه، ولذلك أسس أهل الاختصاص تقنينا "أدبيا" تمثل في أطروحات ابن رجب الحنبلي في "تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم"، وابن القيم في شهيرته "إعلام الموقعين عن رب العالمين" وغيرهما من المتأخرين.
ومع التسهيل الفضائي برزت قنوات أفردت مساحة للفتوى في خارطتها البرامجية واستقطبت أسماء غدت نجوما في عالم الاستفتاء، فلم نستغرب سابقا أو لاحقا أن تطلق فتوى فضائية تسير بها ركبان السائلين، ثم نرى ذات المفتي يتراجع عن فتواه أو يعتذر عنها!
القناعة المنطقية تقول: إن الخطأ وارد، والكل يؤخذ منه ويرد، وذات القناعة تدعونا إلى التفكر في سياسة وصناعة الفتوى، وكيف يعمل الفقيه أدواته من القواعد والأصول في الحكم على النوازل، وفهم واقع السائل وظرفه المحيط به، فليس كل مستفت أو مشاهد "سعودي".
الظاهرة المحيرة هي تجيير الفتوى لصالح مراد السائل، وهي مسألة تدور في أدب المستفتي وكيف يطرح سؤاله على المفتي، الذي يقدم – بحسن نية- على إطلاق الحكم الفقهي "الفضائي" بناء على مقدمة السائل في سؤاله، وكأن السائل عبر مقدمته التحذيرية أو الذرائعية أو اللحن في حجته يقول: ابصم ياشيخ أن الحكم حرام!
وعلى حجم الفائدة التي قدمتها برامج الإفتاء الفضائية في المسائل الفقهية العامة؛ نتساءل عن موسمية الفتوى، وتكرار الأسئلة مع كل عام، وعن تصدي الفقهاء في ظل الانفتاح و حاجة السؤال إلى ترشيد الثنائيات الفقهية السائدة: كالتشديد والتيسير، والاحتياطي والتسامحي، والقطعي والظني... وأن يعتكف الفقيه في محراب الفقه، يبحث ويفتش، يفحص ويتأمل، يقارن ويرجح، وينقطع عن المألوفات الاجتماعية، وينعزل عن المعهودات والمفاهيم المدرسية.
أخيرا.. روي عن الإمام مالك أنه ربما يسأل عن خمسين مسألة فلا يجب في واحدة منها،ائتوني بمفتي فضائي سمعناه ذات "سؤال" يقول: لا أعلم!.
|