رد: اقتصاديات وتقارير
الأسواق السعودية والأزمة المالية: هل العدوى اقتصادية أم نفسية؟
محمد بن عبد الله القويز
كثر اللغط في الفترة الأخيرة عن الأزمة المالية العالمية وعن آثارها المدوية في الدول قاطبة. وقد أدى هذا اللغط الكبير إلى موجة من الذعر بين عامة المستثمرين في السوق السعودية مما أسهم (ضمن أسباب أخرى) في انخفاض مؤشر تداول ما يزيد على 58 في المائة منذ بداية العام الحالي. كما كثر الحديث أن "والله ما يردك إلا الـ 2000!" فهل تأثير الأزمة العالمية في المملكة بهذا الحدّ الذي يبرر انخفاض أسواق الأسهم لهذا المستوى؟ دعونا نلقي نظرة فاحصة.
يمكن حصر الآثار المحتملة للأزمة المالية العالمية في الأسواق المختلفة وفي السوق السعودية بوجه خاص في ثلاثة أوجه رئيسية هي:
(1) انخفاض قيمة الاستثمارات في الأسواق العالمية، و(2) انقطاع التمويل من الأسواق العالمية التي انسحبت مؤسساتها المالية وسدت باب الإقراض، و (3) انخفاض أسعار النفط نتيجة تباطؤ الاقتصاد العالمي من جراء الأزمة. وسنفرد الحديث لكل أثر على حدة.
إذا بدأنا في مسألة الاستثمارات فسنجد أن عديدا من الدول ذات المحافظ الاستثمارية الكبيرة قد تكبدت خسائر جسيمة. ومن الأمثلة على ذلك جهاز أبوظبي للاستثمار الذي يُعد الصندوق السيادي لإمارة أبوظبي. والمثال الأكبر على ذلك هو آيسلندا التي أدت قراراتها الاستثمارية في الخارج إلى دفع الحكومة إلى حافة الإفلاس. ولكن بالنظر إلى حالة السعودية نجد أن الدولة كانت تستثمر معظم احتياطياتها الضخمة في السندات الحكومية لأمريكا والدول المتقدمة، هذه السندات ارتفعت أسعارها قي الواقع من جراء الأزمة نظراً لإقبال المستثمرين على شراء أكثر الأوراق المالية استقراراُ و ضماناً أملا في الإفلات من قبضة الأزمة المالية. وبالتالي فإن استثمارات المملكة لم تتضرر من جراء الأزمة إن لم تكن قد ارتفعت في القيمة.
أما بالنسبة إلى جانب التمويل فإن الدول الأكثر تضرراً كانت الدول النامية التي تحتاج إلى الاقتراض باستمرار من الأسواق الدولية، مثل دول أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية أو حتى إمارة دبي التي كانت تعتمد في مشاريعها الطموحة على التمويل الخارجي من استثمارات وقروض. ومن الطبيعي أن تتعرض هذه الدول لمصاعب حالما يقفل باب التمويل الخارجي حيث تواجه التزامات مالية من ناحية دون أن يقابلها موارد نقدية من ناحية أخرى، مما يعرض هذه الدول لضوائق مالية. أما في السعودية فالوضع مختلف حيث إن المملكة (وعديد من دول الخليج الأخرى) هي دول مقرضة وليست مقترضة، نظراً لتمتعها بفائض كبير من الاحتياطيات النقدية. فعلى سبيل المثال لدى الحكومة السعودية اليوم ما يربو على 1.6 تريليون ريال سعودي من الاحتياطي النقدي. وفي المقابل فإن ميزانية الحكومة السعودية لهذا العام 2008، كانت تشمل مصروفات بنحو 410 مليارات ريال. أي بمعنى آخر لو افترضنا أن المملكة توقفت عن بيع البترول تماماً فإن لديها من الاحتياطي النظامي ما يكفي مصروفاتها لأربع سنوات مقبلة. هذا الاحتياطي الضخم يجعل المملكة بمعزل عن أي ضوائق مالية قد تعصف بالعالم. ولكن على الرغم من أن الأساسات قوية للاقتصاد ككل، فإن بعض مجالات القطاع الخاص التي تعتمد على التمويل التجاري الذي تستمد الكثير منه من أسواق المال العالمية، كمشاريع البنية التحتية والصناعة والبتروكيماويات وغيرها، ستتعرض لضائقة مالية نتيجة إحجام المؤسسات المالية العالمية عن الإقراض. إلا أن هذه المشكلة الجزئية يمكن تجاوزها إذا كان الاقتصاد الكلي قوياً وذلك بضخ الدولة جزءاً من احتياطياتها الضخمة لدعم القطاع المصرفي السعودي وبالتالي تمكينه من سد الفجوة التي تركها خروج المقرضين الدوليين.
الأثر المحتمل الأخير للأزمة المالية، ولعله أكثرها واقعية، هو أن الأزمة المالية تؤدي إلى تباطؤ النمو في الاقتصاد العالمي (أو حتى انكماشه في بعض المناطق)، مما يخفض الطلب على النفط ويخفض سعره، وبالتالي يؤثر سلباً في الاقتصاد السعودي. ولا نحتاج إلا أن ننظر إلى الانخفاض في أسعار النفط من نحو 150 دولارا في أوجها في شهر آب (أغسطس) الماضي إلى مستوياتها الحالية المراوحة حول 50 دولارا لندلل على هذا الأثر والمخاطر المترتبة عنه. إلا أن الفاحص يجد أن سعر البترول الذي بنته المملكة في صياغة ميزانيتها كان بحدود 45 دولارا للبرميل، بينما متوسط سعر البترول عبر العام الحالي (حتى بعد انخفاضه الأخير) يبلغ نحو 90 دولارا للبرميل. كما نلاحظ أنه سواء كان سعر البترول 50 أو 80 أو 140 فإنه ليس لذلك أثر فعلي ملموس في الاقتصاد المحلي. وذلك لأن الحكومة عادة تقصر صرفها على المبالغ التي رسمتها في الميزانية (والتي بنيت على سعر نحو 45 دولارا للبرميل كما ذكرنا)، وكل زيادة في الموارد نتيجة زيادة السعر أو الإنتاج في البترول تذهب لبناء الاحتياطيات الأجنبية للحكومة السعودية ولا تدخل أصلاً في الاقتصاد المحلي، لذا فليس لها أثر يذكر. وذلك باستثناء الجانب النفسي، إذ إن المستثمر أو الموظف أو رجل الأعمال إذا قرأ في الجريدة أن سعر البترول 150 دولاار يكون أكثر ثقة بالإنفاق والاستثمار من إذا قرأ أن سعر البترول 55 دولارا.
مما سبق يتضح لنا أن انخفاض سوق الأسهم السعودية لا يمكن ربطه اقتصادياً ومالياً بأثر الأزمة المالية العالمية، إنما هو موجة من الذعر الجماعي الذي يزيد من وتيرته تكوين سوق الأسهم السعودية وزيادة نسبة المستثمرين الأفراد فيه على حساب المستثمرين المؤسسيين من صناديق استثمار وغيرها. ومن المعروف أن المستثمر الفرد أكثر تذبذباً بطبعه من المستثمر المؤسسي وبالتالي فهو أكثر عرضة للانجراف مع موجات الجشع في أوقات الرخاء والذعر في أوقات الشدة التي هي من سمات الأسواق العالمية. ولنا في ذلك مثال في الولايات المتحدة التي هي عقر دار الأزمة المالية الحالية والأكثر تأثراً بوطأتها، ولكن بالرغم من ذلك فإن سوق الأسهم الأمريكية انخفضت بنسبة نحو 45 في المائة منذ بداية العام، أي كان أفضل أداء من السوق السعودية بما يفوق 10 في المائة. وأحد الأسباب لهذه المفارقة هو أن ما يفوق 75 في المائة من الاستثمارات في السوق الأمريكية من مستثمرين مؤسسيين بينما النسبة في المملكة لا تتجاوز 5 في المائة. ولكن ما يميز نوبات الجشع أو الذعر أنها ما تلبث أن يزول أثرها فينتبه المستثمرون إلى واقع السوق فيعيدوه إلى مستواها العادل.
|