استقرار في "البنوك" وتراجع في "البتروكيماويات" وتذبذب في "الأسمنت"
"الاقتصادية" من الرياض
كان القطاع المصرفي السعودي بتعرضه المحدود نسبيا للأسـواق المالية العالمية قادرا على النجاة من الآثار الحادة للأزمة المالية العالميـة، بدون حتى أي معاونة حتى وقتنا هذا. وبما أنه يعد جزءا مهما من الأسواق العالمية المتداخلة، فقد ظهرت بعض الآثار المثبتة في أداء القطاع المصرفي السعودي.
ويقول تقرير أصدرته شركة بيت الاستثمار العالمي "جلوبل" – مقرها الكويت - بالرغم من أن البنوك السعودية مازالت قوية إلى حد كبير في مواجهة الآثار العالمية الحادة، إلا أنه من المرجح أن تسجل هذه البنوك هبوطا خلال الربع الرابع من عام 2008. وتشير الميزانية العمومية للقطاع المصرفي السعودي التي تتمتع بمعدل تغطية عال ومحاطة بدرجة كافية (في ظل تغطية القروض المتعثرة بأكثر من 100 في المائة) إلى ارتفاع جودة الموجودات المصرفية السعودية بصفة عامة.
وتشكل البنوك السعودية 32 في المائة من القيمة السوقية لسوق تداول، كما بلغت نسبة الموجودات إلى الناتج المحلى الإجمالي 73 في المائة في (كانون الأول (ديسمبر) 2007). وبصفة عامة تبلغ نسبة القروض إلى الودائع في القطاع أكثر من 80 في المائة. وسجلت الموجودات المصرفية السعودية معدل نمو سنوي مركب خلال الفترة (2002-2007) بلغ 6 في المائة وبلغ معدل نمو الموجودات حتى تاريخه 20 في المائة لتبلغ 1.2 تريليون ريال في شهر أيلول (سبتمبر) 2008. وقد سجلت البنوك السعودية المدرجة ارتفاعا سنويا بنسبة 1.6 في المائة في صافي الأرباح، ليصل إجمالي صافي ربح هذه البنوك مجمعة إلى 19.3 مليار ريال في الأشهر التسعة الأولى من عام 2008. وتأسيسا على نتائج الأشهر التسعة الأولى من عام 2008، فقد سجل بنك الراجحي – أكبر بنك من حيث القيمة السوقية – ارتفاعا سنويا بنسبة 4.7 في المائة، في الوقت الذي انخفض فيه باقي الأسهم ذات القيمة السوقية في السوق، مثل مجموعة سامبا المالية وبنك الرياض بنسبتي 6.3 و4.8 في المائة على التوالي. ووفقا لتقديراتنا، لن تشهد النتائج الإجمالية للقطاع المصرفي عن العام المالي 2008 أي نمو ملحوظ نظرا لإمكانية اختلاط أداء الأسهم المصرفية ذات القيمة السوقية الكبيرة. كما تشير تقديراتنا أيضا، إلى أنه من بين البنوك الكبيرة المدرجة، هناك بعض البنوك مثل بنك الراجحي والبنك السعودي البريطاني ستقود النمو، في الوقت الذي يمكن أن يشهد فيه بعض البنوك انخفاضا.
هذا ولا يزال الهيكل المالي القوي للسعودية جذابا للغاية لشركات الأسواق المالية على مستوى العالم. وقد لعب البنك المركزي السعودي دورا كبيرا في الحد من آثار الأزمة المالية العالمية في الاقتصاد السعودي. وقد راقبت "ساما" (مؤسسة النقد العربي السعودي) تطورات السوق عن قرب لتبقى مستعدة إلى إمداد السوق بالسيولة عند الحاجة. كذلك أعلنت "سما" أنها على استعداد لضخ سيولة في السوق بنحو 150 مليار ريال سعودي (40 مليار دولار أمريكي) لمساعدة البنوك في المملكة إذا ما تطلب الأمر ذلك، وكمرحلة أولى قامت بحقن مبلغ يراوح بين 2 و3 مليارات دولار أمريكي لتهدئة أسواق المال. وبالرغم من أن السعودية لم تواجه أي موقف اقتصادي مقلق خلال أوقات الأزمة المالية العالمية، إلا أنه عملا على المحافظة على استقرار السوق في المملكة بادرت "ساما" بالتحرك في عديد من الاتجاهات.
قطاع البتروكيماويات
يتوقع للبتروكيماويات أن تكون أكثر القطاعات تأثرا في السعودية نتيجة للتباطؤ العالمي. وقد شهدنا التأثير الكبير في القطاع من النواحي كافة متمثلا في: (1) الانخفاض في أسعار المنتجات البتروكيماوية في أعقاب هبوط أسعار خام النفط، (2) تباطؤ الطلب على المنتجات البتروكيماوية الذي فاق التوقعات مثل الصلب، حيث أثر التباطؤ الكبير للطلب وانخفاض الأسعار في الربحية. وستؤدي هذه العناصر كافة إلى انخفاض ربحية القطاع خلال الربع الرابع من عام 2008 .
وعلى الرغم من هذه الأزمة، اتجهت الحكومة السعودية نحو التوسعات المستقبلية في القطاع، وبالرغم من ذلك تم وضع المشاريع غير الضرورية على قائمة الانتظار. ولا تزال المشاريع الكبيرة تحت التنفيذ وتواصل الحكومة حث القائمين عليها لتسليمها في الميعاد المحدد. علاوة على ذلك، تحاول الشركات الكبيرة توفير الاستقرار لإجمالي إيراداتها بمحاولة الاستحواذ والدخول في مشاريع مشتركة في أمريكا الشمالية، أوروبا والصين. وهو ما سيساعد القطاع المحلي على تعزيز وجودها في هذه المناطق وإشباع الطلب المتبقي إلى أقصى حد ممكن. إضافة إلى أن الشركات المحلية تواجه منافسة قوية على المستويين الإقليمي والدولي من خلال اضطراب المعروض من الغاز عند معدل مدعوم للغاية يبلغ 0.75 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.
ونتوقع لربحية القطاع، نتيجة لبدء الإنتاج من المجمعات المبنية حديثا في 2009، أن تظهر انخفاضا بنسبة 5.8 في المائة عام 2009 مقارنة بنموها بمعدل 13.6 في المائة. علاوة على ذلك، وانطلاقا من استراتيجية شركات القطاع ومخططات الحكومة، نعتقد أن ربحية القطاع ستتزايد بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 6.1 في المائة خلال الفترة من 2007 إلى 2011.
قطاع الأسمدة
يؤثر التدهور الاقتصادي العالمي تأثيرا كبيرا في أسعار منتجات الأسمدة، التي بلغت ذروتها خلال عام 2008. ومع ذلك وبالرغم من هذا التأثير، إلا أن الحكومة السعودية لم تعلن عن أي تراجع في خطط التوسع في القطاع التي تصل قيمتها إلى 8.1 مليار دولار. واعتمادا على الخطة الموضوعة، نتوقع لطاقة إنتاج السعودية أن تتزايد بمعدل نمو سنوي مركب 3.5 في المائة خلال عام 2007 لتصل إلى 20.3 مليون طن. ومن المتوقع أن يأتي أكبر توسع في قطاع الأسمدة السعودي من إتمام مشروع الأسمدة لشركة معادن سابك الذي سيضيف طاقة جديدة للإنتاج تسمح بإنتاج 2.9 مليون طن من فوسفات الأمونيوم دي.
قطاع الأسمنت
أدى الانهيار في أسعار خام النفط إلى انخفاض أسعار الأسمنت من مستوياتها المرتفعة، والذي يرجع في الأساس إلى الانخفاض في أسعار المواد الخام. كذلك أظهر القطاع التزاما قويا بتنفيذ توسعاته على الرغم من التباطؤ الاقتصادي العالمي، والذي يعزى في الأساس إلى المخزون الكبير من الحجر الجيري واضطراب المعروض من مخزون الوقود بالأسعار المدعومة. ويوجد حاليا ثمانية منتجين في السعودية بطاقة إجمالية سنوية تصل لنحو 31.0 مليون طن. وتأسيسا على خطط التوسع الموضوعة يتوقع لطاقة القطاع أن تشهد إضافة لتصبح الطاقة السنوية 43.0 مليون طن بنهاية عام 2008 و49.0 مليون طن بنهاية عام 2009. وتعد شركة أسمنت الجنوبية قائدا لسوق الأسمنت المحلي بحصة سوقية 16.0 في المائة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2008، يليها شركات اليمامة والسعودية للأسمنت. وقد فرضت وزارة التجارة السعودية حظرا على صادرات الأسمنت في أوائل شهر حزيران (يونيو) للسيطرة على التضخم وهو ما يتوقع أن يكون له تأثير سلبي في نمو مبيعات الصناعة حتى وإن كان بشكل محدود وبدرجات متنوعة بين مختلف المنتجين.
قطاع الطاقة
تواصل شركة الكهرباء السعودية بموقفها شبه الاحتكاري في توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها مجهوداتها للمحافظة على وضمان استقرار إمدادات طاقة الكهرباء في المملكة. وقد شهد إجمالي الطاقة المتاحة لتوليد الكهرباء في السعودية ارتفاعا بنسبة 6.1 في المائة بالغـة 36.949 ميجاواط عام 2007. وفى ظل توقع نمو الطلب على الطاقة من المتوقـع أن يصل أقصى حمل للطاقة في المملكة إلى 62 ألف ميجاواط بنهاية عام 2017. وهو ما لا يشير فقط إلى زيادة الطلب بل يقدم كذلك نموا جذابا وفرص استثمارية لشركات الكهرباء في المملكة.
قطاع العقارات
تلعب العقارات دورا مهما في الاقتصاد غير النفطي للمملكة. وحاليا تعد صناعة تمويل الإسكان غير موجودة تقريبا في السعودية في ظل تقدير نسبة تمويل الإسكان إلى الناتج المحلى الإجمالي بأقل من 1 في المائة. وبعكس بعض دول الخليج الأخرى، فإنه من الجيد بالنسبة لتنمية القطاع خضوع سوق العقارات السعودية لحد كبير في تحركها لأسس الطلب وليس مجرد المضاربة. وتأسيسا على خطة التنمية الثامنة، يقدر الطلب على الإسكان بنحو 1.0 مليون وحدة على مدار الفترة ما بين 2005 و2009 وهو ما يشير إلى متوسط زيادة بنحو 200 ألف وحدة سنويا. ويقدر أن يرتفع نشاط العقارات في المملكة بمتوسط معدل نمو سنوي يبلغ 5.8 في المائة، في ظل ارتفاع مساهمته في الناتج المحلى الإجمالي من 6.8 في المائة عام 2004 إلى 7.2 في المائة عام 2009. ويفتح معدل نمو السكان في السعودية، الذي يعد الأسرع بين الدول العربية، للمملكة فرصا وفيرة للنمو. هذا وقد قدر لعدد سكان المملكة النمو بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ليرتفع العدد من 7.3 مليون نسمة عام 1975 إلى 24.7 مليون نسمة عام 2008. ويعد نحو 60 في المائة من هذا العدد من الفئات العاملة وتراوح أعمارهم بين 5 و64 عاما بما يشير إلى طلب قوي لمالكي الوحدات السكنية يوميا على مستوى الفئات كافة خلال السنوات المقبلة.
قطاع "الاتصالات"
تعد سوق الاتصالات السعودية الكبرى بمنظور الحجم في منطقة مجلس التعاون الخليجي. وقد نمت سوق الهاتف المحمول سريعا خلال السنوات الأخيرة ليصل معدل الاختراق إلى مستوى 100 في المائة، ما أدى إلى الركود في نمو خدمات الخطوط الثابتة. وقد تم اتخاذ العديد من المبادرات من جانب لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عملا على التطوير النشط لقطاع الاتصالات في المملكة. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يسهل إصدار ثلاثة تراخيص لمشغلي الهاتف المحمول وأربعة تراخيص للخطوط الثابتة، تنشيط الاستثمارات في قطاع "الاتصالات" ويوفر بيئة تنافسية تسمح بتقديم الخدمات بتكاليف مقبولة.
الميزانية الجديدة في مواجهة الأزمة المالية العالمية.. كيف؟
صالح العمير
يشهد العالم حاليا أزمة مالية واقتصادية حادة يتوقع كثيرون من ذوي الشأن والمعرفة أن يطول مداها وأن تطول تأثيراتها معظم مناطق العالم. ومن المعلوم أن هذه الأزمة انطلقت شرارتها الأولى قبل أكثر من عام في الولايات المتحدة. وبعد أمد قصير امتد لهيبها إلى مناطق أخرى في أوروبا وآسيا. وتعود جذور هذه المشكلة إلى انجراف عدد كبير من المؤسسات المالية العالمية إلى تقديم قروض سخية لتمويل المنشآت العقارية وقطاع الإسكان على نحو غير مسبوق سواء من حيث حجم الأموال وعدد القروض أو التساهل في شروط الإقراض وما تلا ذلك من إصدار أوراق مالية مدعومة برهون على تلك العقارات ومن ثم تداولها في الأسواق المالية على نطاق واسع مع ضعف متناه في إجراءات الرقابة والمتابعة. ونتيجة لظهور بعض المستجدات وانخفاض أقيام العقارات فقدت الأوراق المالية المدعومة بقروض عقارية قدرا كبير من قيمتها على نحو أضعف المراكز المالية للبنوك المقرضة ودفعها إلى طلب العون المالي أو إشهار إفلاسها. ويمكن تلخيص الوضع على النحو التالي:-
1 - انجراف مجموعة واسعة من المؤسسات المالية الدولية الكبيرة في تقديم قروض سخية لتمويل العقارات مقابل رهون واهية ومن ثم إصدار أوراق مالية مدعومة بتلك الرهون يتم تداولها في الأسواق المالية واتسمت هذه العمليات بقدر كبير من التساهل والتفريط من جانب البنوك والمبالغة في تداول هذه المشتقات مع ضعف متناه في إجراءات الرقابة المركزية.
2 - ظهور بوادر هبوط في أقيام العقارات نتيجة تخلف عدد كبير من المقترضين عن السداد بسبب تعرضهم لأوضاع مالية صعبة ولجوء البنوك المقرضة إلى الاستيلاء على عقاراتهم مما أطلق إشارة البدء في هبوط أسعار العقارات وأفقد الأوراق المالية المدعومة برهون عقارية قدرا كبيرا من قيمتها على نحو أخل بالمراكز المالية للبنوك المقرضة وأوقعها في أزمة ائتمانية حادة استدعت المبادرة إلى زيادة رساميلها أو مواجهة الإفلاس المحقق وقد نجحت بعضها في توفير الدعم المالي في حين أخفقت بنوك أخرى معلنة بذلك إشهار إفلاسها.
3 - خلق النقص الحاد في الائتمانات المالية وضعا حرجا لعديد من المؤسسات الخاصة الصغيرة والمتوسطة وأعداد غفيرة من البيوت التجارية وأصحاب المهن من حيث صعوبة توفير رأس المال العامل الضروري لاستمرار أعمالهم وأنشطتهم التجارية والاقتصادية والخدمية.
4 - امتدت تأثيرات الأزمة لتشمل صناعات عملاقة مثل صناعة السيارات وما يرتبط بها من منتجات أخرى مثل إطارات السيارات والبطاريات ومراكز تجميع هياكل السيارات وخدمات التوزيع والتسويق وتزايد أعداد العاطلين عن العمل.
5 - بحكم الانتشار الكبير والواسع للمؤسسات المالية الدولية والشركات الصناعية الكبيرة وتعدد مراكزها وترابط المصالح العالمية فقد اتسع النطاق الجغرافي لهذه الأزمة، حيث سادت أوضاع مشابهة في مناطق عديدة في العالم.
6 - عمت أسواق الأوراق المالية العالمية موجة عاتية من التشاؤم وفقد الثقة أسفرت عن هبوط مريع لمؤشراتها خلال أسابيع قصيرة.
هذه العوامل مجتمعة (ضعف المراكز المالية للبنوك، الخوف من استمرار تناقص قيمة موجوداتها، صعوبة الحصول على أموال إضافية، إفلاس عديد من المؤسسات والشركات العملاقة، ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل) خلقت مناخا مخيفا تمثل في فقد الثقة بالنظام المالي وفي جدوى برامج الإنقاذ التي سارعت الدول الكبيرة إلى تقديمها. ومن المؤكد أن الاقتصاد العالمي لن يتجاوز هذه الأزمة بالسرعة الكافية طالما لا تتوافر للشركات الصناعية والمستثمرين على وجه العموم ائتمانات مالية كافية وبشروط ميسرة إلى جانب أن المؤسسات المالية القادرة على تقديم التمويل تخشى المخاطرة مرة أخرى بتمويلات لا تسندها ضمانات موثقة ومدعومة ومؤكدة.
أمام هذه الأوضاع المتفاقمة – وفي ظل فقدان الثقة بسلامة برامج الإنقاذ الحكومية يتوقع كثيرون أن يطول أمد فترة الركود وأن تشتد حدتها، ومع اقتراب معدلات النمو الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان درجة الجمود أو ما دونها فإن اقتصادات الدول النامية ستشهد ركودا أكثر حدة وهو أمر متوقع إذ إن خصائص ومكنونات الاقتصادات الناشئة أكثر هشاشة وضعفا مما يصعب عليها امتصاص هذه الصدمات العنيفة.
في هذا الشأن فإن الدول المنتجة للمواد الأولية وخاصة دول البترول (التي يحلو للبعض أن يصنفها في موقع آمن خارج نطاق المؤثرات الدولية الحالية) مرشحة لركود قد يطول أمده وإن قلت حدته لاعتبارات سيتم إيرادها لاحقا. إذ إن من المؤكد أن ينشأ عن الركود العالمي انخفاض حاد في الطلب على المنتجات البترولية والبتروكيماوية التي تعداهم المنتجات التي تستوردها الدول الصناعية الكبرى من الدول المنتجة للبترول. وتبعا لذلك ستنخفض حصيلة مبيعات هذه المنتجات نتيجة انخفاض الكميات المصدرة منها وانخفاض أسعارها معا. ويلاحظ في هذا الصدد أن أسعار النفط الخام هبطت إلى ما دون 40 دولارا للبرميل الواحد قبيل نهاية عام 2008م متراجعة عن أعلى معدل قفزت إليه الأسعار (140) دولارا للبرميل.
في الجزء الأول من هذه المقالة حاولنا بإيجاز إلقاء الضوء على الأوضاع المالية الدولية التي قادت العالم إلى ركود اقتصادي – وفي الجزء اللاحق سيتم التعرف على الأثر المتوقع أن يلحق بالاقتصاد السعودي نتيجة لهذه الأوضاع وما يمكن أن تقدمه الميزانية العامة الجديدة من حلول في مواجهة الأوضاع المالية الحالية. وفي هذا الشأن وفيما يختص بالنظام المصرفي في المملكة فإن كل الشواهد تؤكد أنه حافظ على متانة مركزه المالي خارج نطاق التأثيرات السلبية للرهون العقارية التي أصابت عديدا من المؤسسات المالية الدولية وشملت بعض المؤسسات المالية الإقليمية في الدول المجاورة. ومع أن النظام المصرفي في المملكة يرتبط بعلاقات وثيقة مع عدد واسع من المؤسسات المالية الدولية تمتد عبر عقود حافلة بصفقات مالية مشتركة مع تلك المؤسسات وأن عددا من المصارف المحلية لا يزال يحتفظ بشراكة استراتيجية مع مصارف دولية تعرضت على نحو أو آخر لهذه الأزمات الخانقة فقد نجحت البنوك السعودية في تجنب الوقوع في شرك هذه المعضلة. ومن دون جدل فإن سلامة النظام المصرفي السعودي ومتانة مركزه المالي ونجاحه في إقصاء نفسه بعيدا عن هذه الأوضاع يدون في سجل إنجاز قيادات المصارف السعودية والمسؤولين في مؤسسة النقد العربي السعودي – الجهاز المركزي المختص بمراقبة نشاط القطاع البنكي في المملكة.
إضافة إلى ذلك فإن الأداء المتميز للقطاع البنكي خلال السنوات القليلة الماضية لا يقتصر فقط على نجاحه في تجنب الوقوع في براثن أزمة الرهن العقاري وإنما أيضا بما حققته البنوك المحلية من فوائض مالية كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة تفاعلها مع مجمل مكونات الاقتصاد الوطني مكنتها من تعزيز مراكزها المالية ومن الاستمرار في توفير الائتمانات المالية لبقية القطاعات في تفاعل متواصل ومتبادل معها حيث تستمد زادها اليومي منها لتهبه لها مرة أخرى في ديناميكية مترابطة ومتصلة. ومع ذلك فإن متانة المراكز المالية للمصارف المحلية واحتفاظها بمواقعها خارج نطاق أزمة العقار الدولية لا يعني بالمطلق أنها بمنأى عن التأثيرات السلبية للركود الاقتصادي العالمي – بل إنها كغيرها من قطاعات الاقتصاد السعودي عرضة لما ينشأ من ضعف أو ما يصيب الاقتصاد العالمي من وهن. ولن يكون أمرا مفاجئا أن ينتهج القطاع البنكي موقفا مختلفا في الفترة المقبلة وهى فترة عصيبة تتسم بأزمات متلازمة ناشئة عن الركود الاقتصادي العالمي وفقدان الثقة. وأن تعتمد البنوك المحلية استراتيجية أكثر حذرا وشدة – مما ستكون له تأثيرات سلبية في مجمل نشاط معظم القطاعات الاقتصادية الأخرى وعلى الأخص المؤسسات المتوسطة والصغيرة وأصحاب المهن والنشاطات الفردية التي تحتاج إلى التسهيلات البنكية ولا تتوافر لديها ضمانات كافية.
وفيما يختص بالاقتصاد الوطني في مجمل قطاعاته وكما ألمحنا سابقا فإن الاقتصاد السعودي سيعاني في عامه الجديد ضعفا في موارده الأساسية المتمثلة في قيمة صادراته من البترول الخام وحصيلة مبيعات مصانع البتروكيماويات، حيث إنها الأكثر تأثرا بالركود الاقتصادي العالمي فإن انخفاض الطلب العالمي على البترول سيفرض على شركة أرامكو تقليص معدلات إنتاجها (مراعاة لسياسة توازن الأسعار) كما أن معاناة شركات البتروكيماويات لن تقتصر فقط على انخفاض أسعار منتجاتها وعلى حصيلة مبيعاتها بل إنها ستواجه صعوبة في تمويل مشاريعها وبرامجها التوسعية خاصة الحصة التمويلية التي كان متوقعا توفيرها من قبل المؤسسات المالية الأجنبية.
هذا الواقع المرير سيفرض على هاتين الصناعتين العملاقتين إدخال تعديلات واسعة على برامجها الإنتاجية وخططها المستقبلية – أي أن كلا من شركة أرامكو وشركات البتروكيماويات السعودية ستكون مضطرة إلى تقليص حجم وكميات الخدمات والمواد والتعاقدات التي تحصل عليها من قطاعات أخرى في الاقتصاد المحلى. وبعبارة أدق فإن العام الجديد سيشهد إلغاء وتأجيل وتقليص وإطالة أمد تنفيذ عدد من عقود الخدمات والأعمال والتوريدات المبرمة حاليا أو التي كان مقررا الشروع في تنفيذها قبل الأزمة من قبل أرامكو وشركات البتروكيماويات. ومن المؤكد أن أكثر القطاعات المحلية تأثرا بهذه الأوضاع هي قطاعات الإنشاءات والمقاولات وما يرتبط بها من مواد ومعدات ورافعات مثل الأسمنت والحديد والهياكل الفولاذية ومواد البناء الأخرى وغيرها وقطاعات النقل والتوزيع وإنتاج المواد الوسيطة في عمليات إنتاج البترول والبتروكيماويات.
ومما يجدر التأكيد عليه أن هذه الاستنتاجات واقعية ومنطقية وأنه ينبغي التعامل معها بجدية. حيث تتوافر حاليا دلائل كثيرة على إن الأزمة العالمية الحالية عميقة الجذور وأن أمدها قد يطول لأن الحلول التي اتخذتها الدول الصناعية الكبرى لتنشيط اقتصادياتها لن تكون كافيه لتجاوز الأزمة بالسرعة المطلوبة. كما أصبح معلوما الآن أن الميزانية الجديدة تتوقع أن تشهد عجزاً مقداره 65 ألف مليون ريال – وهذا العجز ( في ضوء الأوضاع الدولية السائدة وانخفاض صادرات البترول وأسعاره) يعد معقولا إضافة إلى أنه (في ظل الوفورات المتحققة خلال السنوات القليلة الماضية وبالأخص مقدار الوفر المتحقق في السنة الأخيرة) لا يعد عبئا على الاقتصاد المحلى من حيث مصدر توفيره في حالة حدوثه، وهو أمر يبعث على الاطمئنان – ولكن الأمر الأكثر إلحاحا هو مقدرة القطاع الأهلي بجميع مكوناته على تجنب الانزلاق تحت تأثيرات الركود العالمي. وهذا الجانب يمثل الدور المحوري المأمول أن تسهم به مخصصات الميزانية الجديدة. فالحكومة مدعوة في أوقات الشدة أن تتخذ قرارات غير عادية. ولا جدال في أن الأوضاع المالية الدولية والمحلية تندرج في هذا الإطار.
في ضوء هذا المفهوم فإن ما تحمله الميزانية الجديدة من مخصصات مالية للمشاريع الإنشائية والإنمائية وبرامج قروض صناديق التنمية تمثل العنصر الأكثر أهمية في هذه المرحلة – وتكمن أهمية هذا الجانب من نفقات الميزانية في هذه السنة بالذات في أن هذه المخصصات تعد بمثابة برنامج وقائي للمحافظة على ما تحقق خلال السنوات الماضية وتجنب الوقوع ضمن دائرة تداعيات الأزمة المالية العالمية – أو على أقل تقدير التخفيف من تأثيراتها الضارة والتعويض عن النقص المتوقع في نفقات واستثمارات القطاع النفطي والبتروكيماوي وضعف مقدرة البنوك المحلية والدولية في توفير الائتمانات المالية اللازمة لاستمرار نشاط القطاع الأهلي. ومن أجل تصور أهمية هذا الجانب يحسن التعرف على أهم ملامح الميزانية الجديدة والنتائج التي تحققت من خلال برامج الإصلاح المالي في السنوات الأخيرة:
1 - من المتوقع أن يحقق الناتج المحلى الإجمالي لعام 2008 (1.753) ألف مليون ريال بالأسعار الجارية – أي بمعدل نمو (22 في المائة) عن العام السابق 2007م.
2 - حقق القطاع النفطي بالأسعار الجارية نموا بمعدل (34.9 في المائة) عن العام السابق.
3 - بلغ معدل نمو القطاع الخاص 8 في المائة بالأسعار الجارية.
4 - حقق الميزان التجاري فائضا مقداره 820.2 ألف مليون ريال بمعدل نمو 45.8 في المائة عن العام السابق.
5 - حقق ميزان المدفوعات فائضا مقداره 564 ألف مليون ريال مرتفعا عن العام السابق بمعدل 54 في المائة.
6 - انخفض الدين العام إلى 237 ألف مليون ريال – أي ما يعادل 13.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمعدل 18.7 في المائة في العام السابق.
7 - يقدر الفائض في ميزانية عام 2007 بمبلغ 590 ألف مليون ريال.
8 - تبلغ القيمة الإجمالية للمشاريع المعتمدة في الميزانية الجديدة 255 ألف مليون ريال.
9 - تعزيز موارد صندوق التنمية العقارية بمبلغ 25 ألف مليون ريال على مدى خمس سنوات بمعدل خمسة آلاف مليون ريال سنويا.
10 - إيداع مبلغ عشرة آلاف مليون ريال لحساب بنك التسليف والادخار لتعزيز إمكانياته التمويلية في تقديم القروض الاجتماعية والأسرية وتمويل المنشآت الصغيرة والناشئة.
11 - من المقدر أن يبلغ مقدار ما يدفع نقدا خلال السنة الجديدة من صناديق التنمية عن عقود الإقراض المبرمة سلفا بنحو 40 ألف مليون ريال.
ومع أن السنة المالية السابقة سنة تاريخية من حيث وفرة الموارد المالية الناشئة عن ارتفاع أسعار النفط الخام والكميات المصدرة منه – إلا أن النتائج التي تحققت إضافة إلى الأداء المتميز للقطاع البنكي ومحافظته على مركزه المالي خارج نطاق تأثيرات أزمة الرهون العقارية تحسب في سجل قيادات الاقتصاد الوطني.
هذا القول ليس من قبيل المدح أو الثناء العابر الذي يكتب في مثل هذه المناسبات ولكن الإنجازات الناصعة والناطقة بالأرقام تفرض القول الحق وإبداء عبارات الامتنان مقرونة بالحرص الشديد في المحافظة على ما تحقق وصونه من التأثيرات السلبية المحلية والدولية حيث تجمع معظم التحليلات المالية على أن صورة المشهد الاقتصادي العالمي أشد قسوة وقتامة وأن الحكمة تستوجب الحذر واليقظة والاستعداد لمواجهة أسوأ الاحتمالات. ففي حالات الركود الاقتصادي والشح الائتماني يتعين على القطاع العام الحكومي أن يمارس دورا استثنائيا يتناسب مع ضخامة وعمق الأزمة. ولا جدال في أن السياسة المالية التوسعية التي عبرت عنها تخصيصات الميزانية الجديدة توضح بجلاء أن الحكومة تملك تصورا واضحا عن قتامة الوضع المالي الدولي وما يمكن أن يجلبه على الاقتصاد المحلى. ومن المؤكد أنها تدرك أيضا أن مؤسسات القطاع الخاص لا تزال غضة وطرية وأن ما تحقق من مكاسب خلال السنوات الماضية يتطلب مزيدا من الرعاية والعناية.
من أجل ذلك كله فإن الوضع يقتضى الشروع في اتخاذ إجراءات غير اعتبارية من حيث متابعة تنفيذ البرنامج الوقائي المتمثل بمخصصات المشاريع وقروض صناديق التنمية سعيا نحو زيادة وتيرة تدفق الإنفاق الحكومي من خلال الإسراع في إبرام عقود تنفيذ المشاريع الإنشائية والبرامج الإنمائية وما يترتب عنها من قيام المقاولين ومتعهدي الخدمات بإبرام صفقات تحضير وتجهيز المواقع وشراء المواد والمعدات اللازمة لمراحل التنفيذ المتلازمة. وبمعنى آخر الإسراع في تدوير الأموال والنقود وتداولها من خلال سلسله مترابطة من التعاقدات والتعهدات على النحو الذي يكفل تحقيق أقصى درجات تعظيم العائد المالي والاقتصادي.
وبحكم وطأة الأوضاع المالية الدولية وخشية تفاقم تأثيراتها الضارة وتأكيدا على أهمية استمرار حركة الإصلاح المالي والاقتصادي وتنويع مصادر الدخل وزيادة فرص العمل أمام الأجيال المقبلة التي تتزايد أعدادهم بمعدلات عالية والمحافظة على مكاسب انتعاش القطاع الخاص وزيادة مساهمته في الناتج المحلى الإجمالي، واستثناء من القاعدة التقليدية في تنفيذ المشاريع الحكومية يحسن النظر في تكوين فريق للمتابعة من كبار المسؤولين في وزارة المالية والوزارات المعنية والغرف التجارية والصناعية وتمكينه من اتخاذ الإجراءات التي تكفل السرعة في تنفيذ المشاريع ومتابعة مراحل تنفيذها وتجاوز العقبات والمصاعب التي تنشأ عادة بين المقاولين وأصحاب العمل. أو أن يعهد المجلس الاقتصادي الأعلى إلى هيئته الاستشارية وأمانته العامة بوضع آليات تكفل التنفيذ الفوري والعاجل للمشاريع المعتمدة في الميزانية الجديدة التي تعد بمثابة برنامج وقائي للمحافظة على ما تحقق وتجنب الوقوع ضمن دائرة تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. ومن المؤكد أن التأثير الإيجابي لزيادة الإنفاق الحكومي لن يتحقق إلا من خلال الإنفاق الفعلي عبر الإسراع في إبرام عقود التشغيل والتنفيذ وبما يكفل تحقيق أقصى درجات التفاعل بين القطاع العام والقطاع الخاص