رد: وكذلك جعلناكم أمة وسطًا
6-
الوسطية في تكاليف الشريعة
ثم كان للإمام أبي إسحاقٍ الشَّاطِبيِّ – رحمه الله – نظرٌ دقيق نافذ ٌ، أبان فيه أنَّ الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخلِ تحت كسب العبد من غير مشقة عليه و لا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غايةَ الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام، و الحج، و الجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شُرِع ابتداءً على غير سببٍ ظاهر اقتضى ذلك، أو شُرِع لسببٍ يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل؛ كقوله تعالى: ] و يسألونك ماذا ينفقون[، و أشباه ذلك.
فان كان التشريع لأجل انحراف المكلّف، أو وجود مظنّة انحراف عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادّاً إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، ِِفعل الطبيبِ الرفيقِ يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله و عادته، وقوة مرضه و ضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيّأ طريقا في التدبير وسطاً لائقاً به في جميع أحواله...
فإذا نظرت في كلية شرعية فتأمّلها تجدها حاملة على التوسط. فإنن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر.
فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف و الترهيب و الزجر – يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدِّين.
و طرف التخفيف - و عامة ما يكون في التَّرْجِيَة و الترغيب و الترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد – فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً، ومسلك الاعتدال واضحاً. وهو الأصل الذي يُرجَع إليه، والمعقل الذي يُلْجَأ إليه.
وعلى هذا، إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدِّين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري النظر في الورع والزهد، وأشباهها، وما قابلها[1]
[1] ـ (( الموافقات في أصول الشريعة)) للشاطبي 2 / 163 ـ 168 ، باختصار .
|