رد: اخبار التربية والتعليم ليوم السبت 19-2-1430هـ
الرياض : السبت 19-2-1430هـ العدد : 14845
تعليم حسب الطلب..!
د. مشاري بن عبدالله النعيم
تثير داخلي فترة الامتحانات بعض الأسى ليس لأن الإمتحان حالة صعبة يعاني فيها طلابنا وطالباتنا بل ما يصاحب الامتحانات من ممارسات غريبة لا أعتقد أن أحدا يمكن أن يرضى عنها. لم أتوقف خلال العشر سنوات الأخيرة من انتقاد التعليم وبالطبع لم يتغير شيء ويبدو أنه لن يتغير شيء، فخلال الأيام الماضية كنت أستمع لبعض أبناء أخوتي وهم يتحدثون عن «الاختبار» الذي صاروا يحصلون على أسئلته من مدرسيهم الخصوصين. حتى أنه لم يعد أحد يتعلم دون معلم خصوصي ليس لأنه بحاجة إلى هذا المعلم بل لأنه أضمن طريق للنجاح. ومع أنني لم أؤمن في يوم بالمدرس الخصوصي إلا أنني اضطررت إليه مع أبنائي، على أن ما يزعجني فعلا أن كل هذه الممارسات تحدث تحت سمع وبصر وزارة التربية والتعليم ولا أحد يحرك ساكنا. حتى أن اعلانات المدرسين الخصوصين صارت تعلق على أعمدة إنارة الشوارع وتوضع تحت أبواب البيوت، ولا أحد ينكر ذلك وكأن الأمر طبيعي. على أني أجد أن هذه القناعة المجتمعية بظاهرة «المدرس الخصوصي» المبتذلة هي نتيجة لإحساسهم بأن «المدرسة» لم تعد مكانا للتعليم بل الهدف منها الحصول على شهادة للوصول في النهاية إلى الجامعة أو عمل وظيفي إن لم تتوفر الجامعة. وفي كلا الحالتين يدفع المجتمع الثمن فمن جهة يصدم التعليم العالي بمستوى الطلاب المتواضع، فمن المعروف أن من يحق له الالتحاق بالجامعة يجب أن يحمل مؤهلات عالية وهذا غير متوفر فتضطر الجامعات لقبول من هم أدنى بكثير من الحد الادنى المطلوب للتعليم العالي وتستمر بذلك الحلقة المفرغة من المعاناة حتى أن ظاهرة المدرس الخصوصي صارت تتفشى في الجامعات وهذه والله كارثة. ومن جهة أخرى يصدم سوق العمل بالتأهيل المتواضع للشباب السعودي الذي يبدو أنه لم يتعلم كثيرا كي ينخرط في العمل بشكل تلقائي، بل أن هؤلاء الشباب يرفضون في كثير من الأحيان «التدريب» الذي يقدم لهم، وهذه المعاناة لمستها شخصيا في كثير من البرامج التي تم تطويرها مع صندوق الموارد البشرية فالمتسربون من برامج التدريب يمثلون نسبة عالية إلا أولئك القادمين من مدن وقرى أقل تطورا وخضعوا لتربية تقليدية تقدر ثقافة العمل وتحمل المسؤولية.أذكر قبل عامين أننا استضفنا (في جامعة الأمير محمد بن فهد) مجموعة من رجال الأعمال لاطلاعهم على سير وتطور الجامعة فقال أحدهم «يجب عليكم تدريس الطلاب معنى الالتزام Commitments وقالها هكذا باللغة الانجليزية لما تتضمنه هذه الكلمة من معنى «تربوي» و«حضاري» يصنع أي فضاء تعليمي، وقد كان ينتقد التعليم عندنا بأنه لا يبني في الطلاب والطالبات مسؤلية الالتزام التي بدونها لايمكن بناء أمة أو مجتمع. ويبدو أننا فعلا فشلنا في بناء جيل ملتزم يعتمد عليه لذلك فإن «البطالة المزيفة» هي نتيجة لهذه الثقافة غير الملتزمة وليس لأننا لا نجد عملا للشباب والشابات، لأن المسألة هي في معنى وقيمة العمل المطلوب، فما هو متوفر من أعمال يحتاج إلى شباب مثابر لديه القدرة على صنع النجاح بينما شبابنا يريد الطريق «الأسهل» من خلال الوظيفة المضمونة بلا عمل حقيقي. ظاهرة المدرس الخصوصي والتعليم «المعلب» - الذي يبدو أنه أصبح حسب طلب الطلاب يشترونه من السوق كما يشترون أي سلعة - سوف يلغيان قيمة التعليم بشكل كامل. وسوف يزيدان من ظاهرة الأمية المقنعة وبدلاً من أن يكون دور التربية والتعليم بناء جيل قوي يعتمد عليه سوف نجد أن التعليم يصنع مجتمعاً هشاً يمكن اختراقه بسهولة. مجتمع تعود على الرفاهية وتربى على أنه يمكن أن يشتري كل شيء حتى العلم. هذه الظاهرة تؤدي إلى تراجع المجتمع بشكل عام وتكرس القيم السلبية خصوصا الاعتماد على الغير الذي أصبح حالة مجتمعية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وتصاعد حتى أصبح ظاهرة في الثمانينيات والتسعينيات وتحول اليوم إلى مطلب اجتماعي «أسري»، فالأسرة السعودية الآن تعتمد بشكل كامل على المدرس الخصوصي لمساعدة أبنائها، لا من أجل أن يتعلم أكثر أو حتى يصقل مواهبه ومهاراته بل من أجل تحقيق النجاح. هذه الظاهرة تزداد بشكل شرس في المرحلة الثانوية لأن المطلوب هو أن يحصل الأبناء على مقعد في الجامعة لا أن يتعلموا وبعد ذلك «يحلها ألف حلال». ويبدو هنا أن التعليم الثانوي في المملكة تحول إلى «تجارة رائجة» تزدهر فيها بضاعة المدرسين الخصوصين وتدفع فيها الأسرة الثمن باهضا وتتفرج فيها وزارة التربية والتعليم على هذه المسرحية الهزلية وربما «يكركر» مسؤولوها على المشاهد «الكوميدية» و«الدرامية» التي تعيشها الأسرة ويعيشها أبناؤنا الذين يريدون أن يكونوا مثل غيرهم الذين مروا بسلام إلى الجامعة دون أي عوائق. التندر حول السعودة وحول الموظف والعامل السعودي له ما يبرره وهو تندر يشخص حالة ثقافية يجب أن نتوقف عندها ولا يجب علينا تجاهلها أو اعتبارها من المبالغات أو من باب تهرب أرباب الأعمال من أداء مسؤولياتهم فكثير من الشركات الخاصة تقدم رواتب شهرية عالية لموظفيها غير السعوديين. المسألة هي في ثقافة الشباب السعودي التي تعودت على الاتكال على الغير حتى أنه صار يسعى في عمله إلى الركون على الآخرين، فكثير من المشاريع الصغيرة التي تم تطويرها مؤخرا في مناطق المملكة المختلفة تم «تقبيلها» على العمالة الوافدة في مقابل دخل شهري مريح، فمن يدير الأعمال الصغيرة والمتوسطة هم من غير السعودين، فالشباب لدينا يريد أن يكسب دون أن يعمل وهذه مسألة تربوية وتعليمية خالصة ليس لها علاقة بندرة فرص العمل بل برفض العمل الذي لم يتحول بعد إلى ثقافة حقيقة في مجتمعنا.ما يحدث هو تدمير كامل لجيل سوف يعتمد عليه الوطن في المستقبل وبالتالي فإن توقعاتنا للمستقبل يجب أن لا تخرج عن الواقع التعليمي الهش، فإعداد القادة مسألة تحتاج تربية بعيدة المدى تبدأ من الصغر وتعليمنا لايصنع قادة بل يصنع ثقافة «التدليل» فقد تحول هذا التعليم إلى سلعة تستهلك مثل باقي السلع في مجتمع استهلاكي وتعلم خلال العقود الماضية كيف يمارس ثقافة الاستهلاك باقتدار حتى أنه لم يعد يستغني عن هذه الثقافة حتى لو توفرت فرص التدريب والتعليم بعد ذلك وهو ما نعاني منه اليوم فبرامج التدريب التي وضعتها الحكومة ومؤسساتها لا تجدي نفعا لأن من نقوم بتدريبهم تعودوا على شراء كل شيء وليس لديهم أي استعداد لبذل الجهد و«الالتزام»، فلم يتعلموا ذلك طوال حياتهم فكيف نطلب منهم ذلك بعد أن بلغوا سن العمل والانتاج لذلك فإننا لم نعد نستغرب عندما تظهر معاهد تدريب وهمية يسجل فيها المتدربون كي تحصل على الدعم الحكومي ولا يتدرب فيها أحد بل تقدم الشهادات دون جهد، كما أننا لا نستغرب أن الشباب السعودي يقبل على هذه المعاهد ويبحث عنها لأنه لايريد أن يبذل جهدا ولا يريد أن يتعلم..!
|