رد: التربية والتعليم ليوم الآحد 4/3
الاقتصادية:الأحد 4 ربيع أول 1430 هـ. العدد 5620
إصلاح التعليم .. كيف؟ (1 من 2)
د.عبد الوهاب السعدون
القرارات والأوامر الملكية الأخيرة بتحديث وتطوير الأداء الحكومي عبر التغيير الوزاري الذي أعاد تشكيل مفاصل مهمة في جسد الدولة وبالذات التغيير الجذري الذي طال قيادة المؤسسة التعليمية, الذي يعكس رغبة قائد مسيرة الإصلاح الاقتصادي في المملكة في إحداث تطوير نوعي للتعليم الذي يشكل الركيزة الأساسية للتنمية الاقتصادية ويجسد في الوقت ذاته وعيه ـ حفظه الله ـ لكون المؤسسة التعليمية بوضعها الحالي في حاجة إلى "نقلة تطور" تقتلع الوضع التعليمي الراهن من جذوره، ولا تكتفي بتجميله عبر إضافات أو ترقيعات, لأن البناء على قاعدة غير صلبة لا بد أن يأتي بنتائج مهتزة. وما يدفع للتفاؤل بإمكانية حدوث مثل تلك "النقلة" تسلم قيادة شابة ومتفتحة هذا الملف, إضافة إلى توافر إرادة التغيير اليوم أكثر من أي وقت مضى بدعم مطلق من الملك نفسه ـ يحفظه الله. هذا التوجه المحمود يتطلب قبل كل شيء استراتيجيات وخطط عمل واضحة ومفصلة تتبنى مبدأ: الانفتاح نحو التجديد، والإيجابية في محاكاة التجارب العالمية الناجحة, تحديدا تجارب النهوض الآسيوية وفي مقدمتها التجربة اليابانية التي جعلت النموذج الياباني للتنمية العلمية والصناعية موضع تقليد، لا من قبل ما أصبح يعرف بالنمور الآسيوية فحسب، بل حتى من قبل الدول الغربية التي كانت اليابان مستوردة لتقنياتها. وتكاد تُجمع الدراسات التي تناولت تجربة النهوض اليابانية على أن نجاحها يعود إلى كون اليابان عملت على تطوير القاعدة العلمية الذاتية من خلال التركيز على تقليد النظم والمنتجات الغربية ـ لاستيعابها كمرحلة أولى ـ وصولا إلى المرحلة التالية التي ينمو خلالها الابتكار والإبداع الذي يحمل بصمات يابانية خاصة، الأمر الذي أكسب التجربة اليابانية ديناميكية التوليد الذاتي وجعلها مسرحا لتجديد متواصل. وتطلب ذلك قيام اليابانيين بصياغة المناهج الدراسية بما يكفل ليس فقط جودة المخرجات النوعية, بل بموازاة ذلك, غرس حزمة من القيم والمبادئ التربوية المشتقة من موروثهم الثقافي والاجتماعي والروحي في الأجيال المتعاقبة ـ منذ نعومة أظفارها ـ محورها قدسية أربعة مبادئ هي: الوطن, العلم, العمل, والعائلة. ونتيجة لذلك صار الطالب الياباني ينظر إلى الفشل في التحصيل العلمي على أنه عار عائلي، وخيانة وطنية لا يمحوها إلا الانتحار، وأضحت نظرة الموظف الياباني إلى التكاسل في أداء وظيفته واستغلال صلاحياتها من أجل المنفعة الشخصية، بمثابة خيانة لعائلته وتلطيخ لشرفها بالخزي والعار الدائمين. وبمثل هذه المفاهيم الصارمة بدأت الخطوات التنموية الأولى لليابان فأثمرت أجيالاً شطبت الفشل والمستحيل من قاموس مفرداتها اليومية، واتسمت بمجموعة من السمات الإيجابية في طليعتها: الانضباط ، المثابرة في العمل، التعاون، عدم التمرد، طاعة الرؤساء واحترامهم، وقلة الإضرابات. وهذه السمات مجتمعة انعكست إيجابا على أداء المؤسسة الاقتصادية اليابانية فما كادت اليابان تستعيد سيادتها الوطنية عام 1952 حتى سجلت أرقاما قياسية غير مسبوقة عالميا في مجال التنمية الاقتصادية بمضاعفتها ناتجها القومي أكثر من 50 مرة خلال الـ 55 سنة الماضية ، إذ ارتفع هذا الناتج بالأرقام المطلقة من أقل من 80 مليار دولار عام 1952 إلى 4,380 مليار دولار عام 2007, الأمر الذي أكسب تجربتها اسم "المعجزة الاقتصادية اليابانية". ومدلولات نجاح التجربة اليابانية ومن بعدها تجارب النهوض الآسيوية برهنت على أهمية الانفتاح على تجارب الدول المتقدمة لكنها أثبتت في الوقت ذاته عدم إمكانية نسخ تجارب الآخرين التنموية والاقتباس السهل للتقنيات والعلوم العصرية دون بذل جهود كافية لتوطينها والمشاركة في تطويرها. وتأسيسا على ذلك من المهم أن تتبنى استراتيجية إصلاح التعليم في المملكة مبدأ التفاعل البناء مع تلك التجارب وأخذ الإيجابي منها واستيعابه وأقلمته مع الظروف المحلية ليتحول إلى عامل تنشيط فكري وعلمي يسهم في عملية نهوضنا العامة التي لن تتحقق دون غرس مفاهيم وقيم واضحة وصارمة مستمدة من تعاليم ديننا وتراثنا الثقافي والاجتماعي في نفوس النشء حتى تنمو معهم وتلازمهم طوال حياتهم، في مقدمتها: قيم العمل الجماعي، التحفز للمعرفة الضرورية لتحقيق التقدم العلمي، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية .. وهذه المهمة في حاجة إلى تكثيف الجرعات التربوية في المناهج الدراسية, إضافة إلى جهود مشتركة ومتناسقة بين كل من الأسرة والمدرسة، فما تزرعه الأسرة من قيم لدى النشء وما يطبق في المدرسة من برامج تربوية وتعليمية، يمثل أهم وسائل بناء الإنسان الذي لا يرضى بالفشل والقادر على تحقيق التقدم المنشود. إضافة إلى ذلك لا أشك أن المسؤولين في وزارة التربية والتعليم يدركون جيدا أن المعلومات أصبحت اليوم عنصرا أساسيا من عناصر الإنتاج في عصرنا الراهن .. عصر الاقتصاد الجديد، وأضحت القدرة التنافسية للمجتمعات التي تتحدد في ضوء قدرة أبنائها على التوظيف الأفضل للموارد المتوافرة والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة العامل الرئيس في إحداث التقدم المنشود. وبالتالي فإن بناء وتعزيز القدرة التنافسية للمجتمع السعودي يكمن في التأهيل الجيد لأبنائه من الجنسين من خلال التعليم وإعادة التعليم. وتحقيق التقدم المنشود مرهون إلى حد كبير بتوافر المخرجات التعليمية الملمة بعلوم العصر ومعارفه، القادرة على سد حاجة السوق المحلية والتحول بها من مرحلة استيراد التقنيات من الخارج إلى مرحلة إنتاجها محليا. والحصول على هذه النوعية من المخرجات التعليمية تستدعي التطوير المستمر لمناهج التعليم ـ أساس المكون المعرفي للإنسان ـ مع الأخذ في الحسبان أن فلسفة المناهج التعليمية في عصر الاقتصاد الجديد تقوم على أساس أن المجتمعات ستحتاج مستقبلا إلى العمالة الذهنية أكثر من حاجتها إلى العمالة اليدوية، حيث ستحل الآلة محل جيوش العاملين, كما أن التقدم في تقنيات الاتصال سيوفر لها إمكانية تأدية عملها عن بعد. وهذا يتطلب صياغة المناهج التعليمية الجديدة بحيث تؤدي إلى تنمية العقلية النقدية المبدعة لدى الطلبة والتحول من نمط التلقين الذي اعتادوه إلى طريقة البحث والتقصي، التي تنمي قدراتهم الابتكارية. إضافة إلى ذلك تبدو الحاجة ملحة إلى التركيز في المناهج الجديدة على اللغة الإنجليزية التي تعد أحد مفاتيح التقدم، فهي لغة العلوم والأعمال، وإتقانها يعد مفتاحا للمعرفة العميقة والشاملة بالعالم الخارجي, وهي المدخل الطبيعي للتعاطي مع الآخرين بطريقة مفيدة، بل يمكن القول إن المعرفة بالآخر شرط أساسي لنقل الذات من موقع متخلف إلى موقع أكثر تقدما. وهذا ما أثبتته تجربتا ماليزيا وسنغافورة اللتان ركزتا على تعليم اللغة الإنجليزية حسبما أفاد به مهندسا التجربتين الماليزية والسنغافورية مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق ولي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة الأسبق خلال استضافتهما من قبل الهيئة العامة للاستثمار ومنتدى الرياض الاقتصادي. وتأسيسا على ما تقدم فإن التعليم يسهم في تحديد مستقبل المجتمع، حيث يتم من خلاله إكساب النشء المهارات اللازمة للتجديد والإبداع والتطوير. وكلما زاد الاهتمام بتطوير العملية التعليمية ـ من حيث محتواها وأساليبها وتقويم عوائدها ـ فإن المجتمع يصبح أكثر قدرة على التعامل مع معطيات العصر الذي تتسارع خطى التطور التقني فيه بوتيرة عالية. وغني عن القول أن قدرة أي مجتمع على الاستفادة من نتاجات هذا التطور، ناهيك عن المشاركة فيه، تتحدد في ضوء القدرات العلمية المتوافرة فيه وقدرتها على استيعاب التقنيات الجديدة ومن ثم تطويرها. خلاصة القول أن أحد العناصر المؤثرة في بناء القوة المادية للمجتمع هو: رأس المال البشري المؤهل، فهو الوسيلة الأقدر لانتقاله من حالة التأثر إلى حالة التأثير. وهذا ما أثبتته تجارب اليابان والنمور الآسيوية التي برهنت على أن التقدم لا يتحقق بما يمتلكه المجتمع من ثروات مادية، بل من خلال مقدرة الإنسان وما يمتلكه من رصيد معرفي. يتبع
|