رد: اخبار التربية والتعليم ليوم الاحد 11/3
الاقتصادية:الأحد 11 ربيع أول 1430 هـ . العدد 5627
إصلاح التعليم . . كيف؟ ( 2 من 2 )
د . عبد الوهاب السعدون
تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة إلى الدور المحوري الذي لعبه التعليم في تجارب النهوض الآسيوية والأهمية المتزايدة التي يكتسبها التعليم المستمر في الاقتصاد الجديد (المعرفي) وخلصنا إلى نتيجة مفادها أن عملية إصلاح التعليم في المملكة يجب أن تتبنى مبدأ التفاعل البناء مع تلك التجارب واقتباس الإيجابي منها وأقلمته مع ظروفنا المحلية بما يكفل تنمية قدرات طلبتنا تنمية سليمة وتطويعها وفق برامج وخطط تضمن إدامة زخم مسيرة الإصلاح الاقتصادي في المملكة . وبداية لا بد من الإشارة إلى أن التعليم العام في المملكة خلال الفترة الماضية كان مصمما لخدمة مجتمع رفاهية واستهلاك وأنتج جيلا ليس من أولوياته التحصيل العلمي، واتسم بمخرجات ضعيفة في جوانب السلوك والانضباط نتيجة لغياب دور المدرسة التربوي الأمر الذي جعل تلك السلوكيات تتجذر لدى الطلبة وتكبر معهم لتصبح لاحقا سلوكيات لا مسؤولة تجاه العمل والإنتاج وتؤدي بالتالي إلى نسب بطالة عالية ـ بشقيها الفعلي والمقنع ـ بين أبناء الوطن . وكان هذا نتاج طبيعي لجهاز تعليمي محبط، ومناهج تعليمية لا تتطابق مع الواقع ولا تستجيب لمتطلباته، وهو ما يجعل عملية إصلاح التعليم مهمة صعبة ومعقدة تتطلب تضافر وتكامل جهود منظومة ثلاثية هي: الأسرة، والمؤسسة التعليمية، والدولة بمؤسساتها الحكومية والأهلية . ولكي تنجح هذه العملية في تحقيق التطوير النوعي المنشود لمخرجاتها لا بد أن تكون من أولوياتها إحداث نقلة نوعية وسريعة في كل من: المناهج التعليمية، والمعلم والإدارة المدرسية، والمدرسة . ونظرا لكون هذا الموضوع تم تناوله من قبل كثير من المختصين وغير المختصين، فسيتم التركيز في هذه المقالة على أهمية إنهاء حالة الانفصام بين المؤسسات التعليمية والاقتصادية ودور الأخيرة في إنجاح عملية إصلاح التعليم الذي يمكن أن يأخذ في تقديري اتجاهين: الأول يخص المناهج التعليمية والآخر يخص المبنى المدرسي . وإسهام المؤسسات الاقتصادية الوطنية من القطاعين العام والخاص في إصلاح التعليم العام في المرحلة المقبلة هو تجسيد لوعي إدارات تلك المؤسسات بالمسؤولية الاجتماعية من جهة، إلى جانب كونه يعد بمثابة استثمار يحقق لها هدفين أولهما رفدها مستقبلا بخريجين مؤهلين تأهيلا متميزا، وثانيهما تحسين صورتها لدى الرأي العام من خلال إبراز دورها في توسيع قاعدة المعرفة العلمية في المجتمع . ففيما يخص للمناهج المدرسية، تبدو الحاجة ملحة لغربلة المناهج التعليمية لمعالجة الخلل المتمثل في طغيان التعليم النظري على التطبيقي مع ما يتسم به الأول من حشو لعقول الطلبة بمعلومات يتم حفظها دون استيعابها والكثير منها قد لا يحتاجون إليه في حياتهم العملية . وهذه العملية تتطلب إشراك المتخصصين من المؤسسات الاقتصادية في وضع وتطوير مناهج التعليم، فهم الأقدر على التعرف على الاحتياجات الفعلية لسوق العمل والأكثر مواكبة للتحولات والتطورات التقنية . الأمر الثاني هو "المبنى المدرسي" الذي يعد أحد الثوابت الأساسية للنهوض بالعملية التعليمية فهو ركيزة أساسية من ركائز تلك العملية . وتطوير التعليم لا يتم إلا باستكمال عناصره وأركانه، فنسبة كبيرة من المدارس الحكومية التي يزيد عددها على 25 ألف مدرسة مبان قديمة ومتهالكة وعدد كبير منها مبان مؤجرة تفتقر إلى البيئة الصحية والمقومات الأساسية لعمليتي الإصلاح والتطوير . كما أن محدودية استيعاب المدارس الحكومية جعلت عددا غير قليل منها يستقبل الطلاب على فترتين صباحية ومسائية، وفي كثير من المدارس يضم الفصل الواحد نحو ستين طالبا . وفي ظل مثل هذا الوضع ليس من المستغرب أن تخفق المدرسة في أداء أحد أبرز مهامها المتمثل في إتاحة الفرصة لبلورة التفكير الإبداعي لدى الطلبة وتهيئة مناخ يساعدهم على التحليل والاستكشاف نظرا لافتقارها إلى المبنى الذي يضم التجهيزات والمختبرات العلمية التي تتيح للطلبة فرصة التعامل مع الأجهزة بصورة استكشافية يتم فيها التفاعل بينهم وبين المعلومة عن طريق التجربة الذاتية، فيتعلموا بذلك البحث والاستنتاج والتحليل . من هنا تبرز الحاجة لإسهام المؤسسات الاقتصادية الوطنية في حملة لبناء وتجهيز مدارس التعليم العام بما يجعلها مؤهلة تأهيلا كاملا لأداء مهامها في الفترة المقبلة . وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى نموذج مشرق في مجال بناء المدارس من قبل الشركات الوطنية المتمثل في تجربة شركة أرامكو السعودية التي قامت ببناء 135 مدرسة في المنطقة الشرقية تعد من أفضل المدارس تصميما وتجهيزا لكن مع الأسف أوقفت تلك التجربة بتوجيهات صدرت لأرامكو السعودية حسبما صرح به رئيسها السابق في حفل توديعه الذي أقامته غرفة تجارة وصناعة الشرقية في كانون الثاني (يناير) الماضي . وعند ذكر هذا التوجه المحمود يتداعى إلى الذاكرة نموذج مشابه أطلعت عليه في مجلة مهنية قبل فترة ليست بالقصيرة وكانت مدينة ووستر في ولاية أوهايو الأمريكية مسرحا له . فهذه المدينة الصغيرة تزايد عدد سكانها أخيرا بحيث فاق الطاقة الاستيعابية لمدرستها الثانوية الوحيدة . وذهبت جهود سكانها للحصول على دعم من الولاية لبناء مدرسة ثانية أدراج الرياح . ولم يبق أمامهم إلا اللجوء إلى الشركات الصناعية العاملة في المدينة، ولدهشة الجميع كان تجاوب تلك الشركات يفوق التوقعات . فتبرعت شركة "ربرميد"، وهي إحدى شركات تصنيع البلاستيك العالمية العملاقة، بأرض تقام عليها المدرسة مساحتها 385 ألف قدم مربع، وتبرعت شركة سيمنز الألمانية بتجهيز مختبرات المدرسة كافة باحتياجاتها من أجهزة الكمبيوتر، والأجهزة السمعية والبصرية، وتكفلت شركة تملك سلسلة من محال السوبرماركت بالجزء الأكبر من تكاليف التصاميم الهندسية للمشروع، وقامت شركة طيران بتحمل تكاليف نقل وإقامة فريق إدارة المشروع إلى أنحاء عدة من الولايات المتحدة للاطلاع على المدارس الثانوية المقامة فيها لتحديد التصميم الأفضل لمبنى المدرسة . كما قدم مجتمع رجال الأعمال المحليين تبرعات مالية مباشرة، وعدداً من المنح الدراسية لطلبة المدرسة . ونتيجة لذلك الدعم، تمكنت اللجنة المشرفة على المشروع من تغطية نفقات إقامة المدرسة التي بلغت 31 مليون دولار ! وتم بناء المدرسة التي تضم إضافة إلى المختبرات العلمية، مركزا للحاسب الآلي، ومكتبة ضخمة، ومرافق متميزة للأنشطة غير المنهجية تشمل: مسرحا، وملعبا رياضيا متكاملا، ومسبحا أولمبيا وآخر مغطى . ولم ينته دور مجتمع رجال الأعمال والشركات العاملة في المدينة عند إقامة مباني المدرسة فحسب، بل قاموا بإنشاء مجلس استشاري مؤلف من 50 عضواً يجتمع فصليا لمناقشة سبل توفير دعم مالي لتغطية التكاليف التشغيلية للمدرسة، وتقديم المشورة الفنية لمجلس إدارة المدرسة في مجالات: التخطيط الاستراتيجي، والإدارة، والمالية . ولعل ما يستدعي التوقف عنده في هذا النموذج هو أن هذه المبادرة نجحت لوجود رؤية ومصلحة مشتركة لدى الطرفين: سكان المدينة، والمؤسسات الاقتصادية العاملة فيها . وإذا كانت مثل هذه المبادرات قد ساعدت في تجاوز مشكلة نضوب الدعم الحكومي لمؤسسات التعليم العام في أكبر الاقتصادات العالمية، فما أحرانا باستحضار هذا النموذج وتشجيع مبادرات مماثلة لمؤسسات القطاع الخاص في المملكة لحل مشكلة توفير وتجهيز المباني المدرسية الملائمة ـ من ناحية الكم أو النوع ـ لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة والطالبات الجدد من جهة، ومعالجة حالة الكثير من المباني المدرسية القائمة التي تتطلب إعادة تأهيل عاجلة من جهة أخرى . ولعلي لا أجد قولا أختم به هذه المقالة أبلغ من مقولة للفيلسوف سقراط "لو أسندت لي مهمة الإصلاح، لبدأت بالمدارس" . فالمدرسة هي المعمل أو المصنع الذي يتم فيه بناء الإنسان . . واعتمادا على حالها قد يصبح أبناء الوطن ميزة وإضافة، أو عبئاً يثقل كاهل الوطن ويعوق تقدمه .
|