رد: الملف الصحفي للتربية والتعليم25/4
الوطن :الثلاثاء 25 ربيع الآخر 1430 العدد 3126
كيف اختطفت الأنشطة التربويّة في مدارسنا؟
محمود عبدالغني صباغ
أضعكم إزاء صورتين نابضتين من تاريخِ بلادنا الحديث.
الأولى تأتينا من عصر اتساع الفكرة الوطنية، وتنوّع مصادر الثقافة، الذي تجلّى في قيام مدرسة تحضير البعثات، أولى المدارس الثانوية، التي أسسها طاهر الدباغ في مكة عام 1936 مُحققاً رؤية الملك عبدالعزيز في تهيئة الظروف الملائمة لعصرٍ جديد من الثقافة والمعرفة. لقد تحقق بإنشاء تلك المدرسة مخاض الوثبة الكبرى في نهضة المملكة العربية السعودية، فاستقطبت جماهير الشباب الناهض، ممن انضموا إليها أفواجاً من مُدن البلاد، تتوقد بين جوانحهم قلوب متوثبة للحرية، مُتطلعة إلى النهضة، في رؤوسهم آفاق رِحاب من الفكر النيّر والخيال الخصيب.
لقد شهدت المدرسة التي كانت تقع في قلعة جبل هندي بمكة، أحفل فتراتها الذهبية من النشاط التربوي: العلمي والثقافي والأدبي والفني والرياضي والكشفي والمسرحي، حينما اتصلت الأواصر التربوية بالطلائع الطلابية فكان ذروة نشاطها الثقافي احتضانها للندوة الخميسية الشهيرة؛ ندوة (المسامرات الأدبية) في متواليتها منذ بعث فكرتها وأنشأها مدير المدرسة سعادة الأستاذ أحمد العربي، وكان يشرف عليها ويضرب منظومتها الثقافية المُربي الأستاذ عبدالله عبدالجبار، يعاونه في كِفاحه الأستاذ عبدالله بغدادي.
كانت "المسامرات الأدبية" تعقد مساء كل خميس - ويوم الخميس حينها كان يوم عمل ويوم دراسة، فالعطلة كانت قاصرة على الجمعة فقط، وكان يحضرها كِبار أدباء مكة والبلاد، لينضموا إلى طلائع الطلاب في نشاطهم المدرسي الصاخب شعراً ونشاطاً ورحلات وكشافة.
ومن مظاهر تلك المسامرات قيام مسرح جادّ بها... كان يُمثل على خشبته نخبة من أبنائها الطلاب: (الوزير) علي الشاعر، (الوزير) أحمد زكي يماني، (الوزير) إبراهيم العنقري، (الوزير) حسن المشاري، (السفير) عبدالله حبابي، (وكيل الوزارة) عبدالله القرعاوي – وغيرهم من تتلامح بهم الصورة المشرفة لتلك التجربة التعليمية الرائدة؛ يأتون من مكة والرياض والقصيم والأحساء.
ومن مظاهرها، أيضاً، تكريم الأدباء.. فكرّم الطلاب بمبادرتهم الخاصة، كلا من، أحمد السباعي والزمخشري ومحمد عمر توفيق، وباقي الرجال ممن هم أصحاب رسالات في الحياة. تعبيراً عن العرفان، وإمعاناً في لُحمة الكيان.
وقد قام عبدالله بغدادي في عام 1949م بجمع إنتاج المتفوقين في تلك المسامرات في كتاب، طبعه في إحدى صيفياته بالقاهرة، أسماه "ندوة المسامرات الأدبية"، حوى بين دفتيه إضمامة لنخبةٍ من القصائد والقصص والمقالات الناضجة على مستوى الطلاب.. يقول أديبنا العملاق طاهر زمخشري في شهادته اللاحقة، إن "الصورة الجميلة للمسامرات الأدبية التي كانت تقام في مدرسة تحضير البعثات والنشاطات المُختلفة التي تستقطب الأدباء كل خميس لم نرَ لها نظيراً حتى الآن".
أما الصورة الأخرى، فهي صورة التحول الذي أصاب البنية التعليمية في رقعتنا الوطنية منذ الثمانينات الميلادية. وتُعيننا المقاربة الروائية الرفيعة التي أقامها الروائي عبدالله ثابت في روايته النابضة؛ (الإرهابي 20) على كشف وشيجة خيوط وعناصر ذلك التحول. وفي تناسخِ أرواح يجري من طبيعة أدبية، يُسقِط الثابت تفاصيل تجربته الذاتية على بطل روايته (زاهي الجبالي)، ذلك الشاب الذي تطرحه قَسوة الأقدار في مطارح التحصيل العلمي ويقذف به استعداده اليافع الفتي في محاضن تربيتها الغارقة في التشدد والتسييس. يلتحق زاهي بإحدى ثانويات مدينته الجبلية أبها، فينزلق – وهو غير المُحصَّن - في مخالب حركات "إحيائية" مُسيّسة؛ تحط من قيمته الإنسانية، تلغي ذاتيته، بل وتحضه على التمرد على أهله والتنكر على أبسط القيم التي شبّ عليها.. "كم كرهت عائلتي وبيتي الذي يعج بالموبقات والمعاصي، والفساد من تلفاز وصور وأصوات أغان"!
وليست الجماعة التي ينخرط في برامجها ويداوم على مُخيماتها، مجرد حلقات للذكر والترقق، بل "عملٌ سري مُنظم يهدف إلى إقامة كيان جديد على هذه الأرض". لقد كانوا في تلك المراكز يتعلمون "أن كل العالم كافر وأن الإسلام الحقيقي قائم على مفهوم الولاء والبراء الذي يعني موالاة المسلمين والبراءة من الكافرين. كانوا يدخلون إلى ضمائرنا عبر.. استغلال الجانب الوجداني". وتُحتم التعبئة الجماهيرية حصر اختيارات مؤدلجة للقراءة تظهر في نوع كتب التفاسير والسيرة والعقيدة، وباقي كتب التيارات الفكرية والمذهبية، ناهيك، عن كتب التكفير. يكشف زاهي مكنون وظيفته، قائلاً "ومما كنا نُكلف به.. مُتابعة الحركة الحداثية داخل السعودية، وما يكتبه رموزها، وقصِّه وجَمعه ومناقشته، وإثبات كفر هؤلاء الحداثيين، وعلى رأسهم الغذامي، والبازعي، والسريحي، ومعجب الزهراني، وزايد الألمعي، والدميني، والصيخان، والثبيتي، وجبر الحربي...والقائمة تطول لتصل إلى نزار قباني - الكافر والمُنحل - وعبدالله البردوني - القومي الملحد-".
كانت كل الأنشطة والخُطب والبرامج الثقافية تنسجم مع غاية الحشد، التي ترنو – في نهاية المطاف - إلى قذف عناصرها في أتون لعبة "الجهاد" الأفغاني.. كان هو مؤهلاً – كما يفترض عنوان روايته - أن يستحيل الإرهابي رقم 20 في أحداث مانهاتن. حكاية (زاهي الجبالي) هي حكاية الخلل الذي أصاب عمليتنا التربوية، وحكاية تجنيده هي جناية المشروع الفكري الذي تغلغل في صميم البنية التعليمية، حتى أزاح المشروع الوطني ذاته. بينما كان جيل الأربعينات والخمسينات يرتشف ثقافته الجديدة من المناهل الثرّة التي تعني بأدب الحياة عند جبران وأبي ماضي والريحاني والعقاد ومطران ومصادر الأدب العالمي بنزعته الفلسفية، الروحية أو الاجتماعية. كان جيل الثمانينات يقرأ مؤلفات سيّد ومحمد قطب، ومصفوفات التكفير من جنس (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية) للمقدسي، ويصطف في مشاهد سكرات الموت، ويصغي الى شريط (هادم اللّذات)!
نحن إزاء تجربتين غير متباعدتين في فارقهما الزمني، مُتنافرتان تماماً في طبيعتهما وأنماطهما. تجربة أخرجت فتية أفذاذا، ما شغلهم الكفاح في سبيل الرزق على أن تظل قلوبهم مشدودة النياط إلى قضية المعرفة والنهضة الوطنية.. مقابل تجربة انزلقنا ونحن غافلون ملء جفوننا عن شواردها في براثنها، طرحت بشبابنا في بؤر الصراع والتوتر الإقليمي.. فانتهى بمغاميرها المطاف في كهوف أفغانستان، وقلاع جانجي، ومجاهل نهر البارد، ومُعتقلات الكاريبي.
ونحن نروم الفرار من رواسب مرحلة قاتمة من حقنا أن نُبصر في حواكم الزمان مواقع القوة والوهن في نظم الحياة، بغية أن نستيقظ في "صحوة" حقيقية هذه المرة.
|