الرياض:السبت 6 جمادي الأخر 1430هـ - 30 مايو 2009م - العدد 14950
التعليم بالعمل مشاري عبدالله النعيم
تلقيت دعوة الأسبوع الفائت من المدرسة التي يتعلم بها أولادي، المناسبة كانت معرض الطلاب الفني. والحقيقة أنني شعرت ببعض السعادة لهذه الدعوة فقد تذكرت كيف أنني كنت أزور مدرسة الأولاد في (نيوكاسل) بإنجلترا أربع مرات في السنة كل منها ليوم كامل أقضيه مع الأولاد من أجل التعرف على إنتاجهم العلمي عن طريق المنتج الحرفي والفني. أتذكر أن اليوم المخصص للزيارة كان يسمى (يوم الآباء والأمهات) Parents Day فقد كان جميع الطلاب يعرضون أعمالهم من أجل أن يتعرف الزوار على أعمالهم خصوصا أباءهم. الفكرة كانت تركز على "التعلم بالعمل" أي أنه لم يكن هناك في المدرسة الإنجليزية تعليم منهجي تقليدي يتعلم منه الطلاب الرياضيات واللغة والمهارات الأخرى بشكل صفي تلقيني بل كان أسلوب التعليم كله يعتمد على "العمل" و "الانتاج الحرفي" سواء العمل الجماعي (لبناء روح الفريق) أو الفردي للتأكد من المهارات الشخصية. لقد تذكرت قول (برنارد شو) المشهور الذي أكد فيه أننا ننسى كل ما تعلمناه إلا ما نصنعه بأنفسنا، وتذكرت في نفس الوقت قول أحد كبار السن لي في مدينة الهفوف قبل عقدين من الزمن أن المدرسة لم تعلم أبناءنا ولم تجعلنا نعلمهم كما كنا نفعل في السابق.
عندما زرت مدرسة الأولاد وتجولت في المعرض اكتشفت أنني الوالد الوحيد المدعو بالإضافة إلى بعض المسؤولين في وزارة التربية والتعليم. لم أمتعض كثيراً لهذا الأمر رغم أن كل ما كان يخطر بذهني من مشاهد تبخر، فقد كنت أتوقع أن أشاهد شيئاً قريباً من يوم الآباء المفتوح في المدرسة الإنجليزية لكنني فوجئت بمعرض فني خاص لبعض الطلاب ورأيت بعض الطلاب يعملون مباشرة في المعرض وهو ما أنعشني قليلا، فرغم أن توقعاتي قد خابت إلا أنني شعرت بسعادة وبعض الأمل وأنا أكرم بعض الطلاب (ولم يكن أجد أبنائي من المكرمين). لقد استعدت في تلك اللحظة كثيراً من الأفكار التي طرحتها خلال العقدين الأخيرين دون جدوى ودون أن يتغير شيء، وكنت أتحدث مع مسؤول التربية الفنية في إدارة التعليم وكان تفكيره منصباً على "المعارض" لا في دور التربية الفنية في التعليم. حاولت أن أقرب له الافكار التي ينتهجها العالم اليوم وذكرت له أن هناك فلسفة تعليمية تتجه نحو "التعليم بالجيومتري" أو تعليم الرياضيات بالأشكال الهندسية، فلم يستوعب الفكرة لأن همه الأساسي كان ماذا سينتج الطلاب وكيف يمكن أن يختار بعض إنتاجهم للمشاركة الداخلية والخارجية. والذي يبدو لي أننا بحاجة إلى انتفاضة تعليمية لا تتوقف عند بعض التطوير المنهجي، نحن نتطلع إلى انقلاب كامل في طريقة التعليم لا محتواه فقط، انقلاب يسمح لأبنائنا وبناتنا بالتعبير عن مهاراتهم بعيد عن "بيروقراطية" مؤسسات التعليم.
كما أنه صادف أنني سافرت في نفس الاسبوع إلى العاصمة القطرية الدوحة لتقديم محاضرة حول العمارة التقليدية العربية وألتقيت بأحد المصممين القطريين (م عيسى الكواري) وتحدث لي عن فكرة تطوير قرية "تربوية" لتعليم الأطفال نمط الحياة السوي لأنه يرى أن ما يحدث حولنا بما في ذلك التعليم لا يصنع أشخاصاً أسوياء. أعادني هذا إلى ملاحظة الرجل العجوز في الهفوف حول تعليم الأولاد، فقد أعجبتني رؤية (الكواري) ونقده العميق للمجتمع وللتعليم ولأسلوب الحياة الذي صار يتفسخ وينهار من حولنا. لقد نقلتني فكرته إلى "الجيتو" الذي انتهجته إسرائيل في النصف الأول من القرن العشرين لتعليم اليهود مبادئ وقيم الدولة الجديدة، فالمجتمعات العربية كافة تحتاج إلى مثل هذا (الجيتو) لتعليم الاطفال العرب بعد أن فشلت مؤسسات التعليم العربية قاطبة في تحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والمحافظة على المكتسبات التاريخية. التعليم بالعمل أو بصنع الاشياء يمثل منهجية مهمة وأساسية لأنه ينتهج أسلوب "حل المشاكل" والوصول إلى الحل بالتجربة والاعتماد على الخيارات المتعددة في الوصول للحل وبالتالي هو عملية ذهنية مستمرة لا تحدث بين مرسل ومتلق لكنها تحدث من خلال الاكتشاف المستمر أثناء عملية صنع الاشياء.
لعلي أذكر القارئ الكريم بقرار قديم اتخذته وزارة التربية قبل عدة سنوات وبالتعاون مع رجال الأعمال من أجل تحويل التعليم الثانوي في المملكة إلى تعليم يعتمد على التعليم بالتدريب (مثل ما يحصل في الولايات المتحدة) وبالتأكيد فقد نسي هذا القرار ولا احد يذكره ابد (وقد كنت علقت عليه في جريدة «الرياض» رغم أنني كنت غير متفائل لأن مثل هذه القرارات لا تؤخذ عادة من خلف المكاتب ولا يمكن أن تكون مجرد ورقة ترسل لإدارات التعليم بل هي خطة منهجية لها ميزانياتها ورجالها المؤهلون وهو الأمر الذي لم يحدث أبدا). التعليم بالعمل وبصنع الاشياء يبدو صعبا جدا بالنسبة لوزارة تأسست على منهج التلقين والسير في الطرق المعروفة وبالتالي لا نستغرب عندما يكتب أحد الزملاء وهو الدكتور أحمد العيسى (مدير جامعة اليمامة) كتابا حول إصلاح التعليم في المملكة (وقد أهداني الكتاب مشكورا) ويرى أن هذا الإصلاح صعب المنال في ظل التقليدية التي تنتهجها وزارة التربية والتعليم وفي ظل تدخلات مؤسسات الوصاية التي ترى أنها تفهم أكثر من المتخصصين في التعليم أنفسهم في مناهج وطرق التعليم. أتمنى من سمو وزير التربية أن لا يقضي وقتا طويلا في دراسة وضع التعليم لدينا لأن مشاكلنا التعليمية واضحة ولا تحتاج إلى كثير من الدراسات وأتمنى أن نبدأ بخطوة مباشرة في البداية هي تحويل مناهج التعليم إلى مناهج عملية وبشكل مباشر ولنتعامل مع المشاكل التي قد تنتج عن هذه الخطوة في حينها.
http://www.alriyadh.com/2009/05/30/article433556.html