رد: المقالات في الصحف 9/6
المدينة : الثلاثاء 09-06-1430هـ العدد : 16841
“التعليم العام” ... ظالماً ومظلوماً!!
د. خضـر محمد الشيباني
لم تُدهشني النتائج التي تطرّقت إليها بعض الصحف المحلية فيما يخصّ الدراسة التي أجرتها (شركة أرامكو) على خريجي (الثانوية العامة) والتي كشفت عن أن المستوى الفعلي في مادة الرياضيات، لنحو 84 في المائة من خريجي (المرحلة الثانوية) والمتقدمين للانضمام إلى الشركة، لا يتجاوز (مستوى الصف الثاني المتوسط)، وأما سبب عدم دهشتي فيعود إلى أنها نتيجة معروفة سلفاً لدى كل من يعيش الهمّ التعليمي سواءً على صعيد (التعليم العام) أو في رحاب الجامعات.بطبيعة الحال ينبغي أن نتجه بالشكر إلى (شركة أرامكو) لقيامها بدراسة إحصائية محايدة، وتأكيدها علمياً لحقيقة يعرفها بعضنا منذ أمد طويل بحيث وضعت الإصبع على أحد الجروح النازفة في التعليم، وأما لو أجرينا مثل هذه الدراسة على مواد التعليم الأخرى مثل الإملاء والنحو والعلوم ومواد الدين واللغة الإنجليزية وغيرها لأرعبنا ذلك الضعف المتأصّل في البنية التعليمية في مدارسنا، وذلك صحيح في ما مضى من السنين، وأما في عصر (سنوات التقويم) وإلغاء الاختبارات التي طالت حتى الآن المرحلة الابتدائية، فإني أراهن على أن أيّ دراسة لذلك الحال ستأتي بالعجب العجاب من ألوان الجهل والأمية!.لا شكّ عندي أن (التعليم العام) عندنا ظالم ومظلوم في آنٍ واحد؛ فنحن نظلم (التعليم) عندما نتوقّع منه أن يقوم بتصحيح الخلل بينما لم نحدّد له بالدراسات العلمية والبحوث المنهجية طبيعة هذا الخلل، وتلك مسؤولية مصيرية كانت، وما تزال، تقع - في المقام الأول - على الجامعات فهي المستفيد الأوّل من مخرجات (التعليم العام)، وهي المتعاملة مع إيجابياتها وسلبياتها، والقادرة بتخصصاتها المختلفة على سبر أغوار الإشكالية، وتشخيص الداء، واقتراح الحلول؛ ولذا فإن هذه المبادرة المشكورة من (شركة أرامكو)، للتعرّف الإحصائي العلمي على أحوال مخرجات (التعليم العام)، كان ينبغي لها، ولمئات مثلها، أن تأتي منذ زمن طويل من جامعاتنا التي تتعامل سنوياً مع هؤلاء الخريجين وتُعايش مشكلاتهم وتُعاني من نقاط ضعفهم، وأن تنطلق من مؤسسات محايدة، وطنية ودولية، لتشخيص (الوضع الراهن) للتعليم، ومستوى مخرجاته، وطبيعة معوّقاته.نظلم (التعليم) إذا أردناه أن يكون حلاً مباشراً وكافياً لكل مشكلاتنا الحياتية فما تبرز قضية هنا أو هناك إلاّ تنادى مناصروها إلى إدخالها كمقرر دراسي في (مناهج التعليم) ابتداءً من التوعية المرورية، ومروراً بقضايا ترشيد الكهرباء والماء، وانتهاءً بقضايا حقوق الإنسان، فكأن المطلوب أن يتولّى (التعليم) حقن الطلاب والطالبات بكل أنواع العلوم والممارسات والقضايا كل واحدة على حدة؛ فلكم الله يا فلذات الأكباد فكأن ما تحملونه في حقائبكم المكتظّة بكل أنواع المناهج والتخصصات ليس كافياً، وعلينا أن نزيد الأحمال على ظهوركم، ونكثّف الأعباء بحشو عقولكم بكل قضية تطرأ في الأرض أو السماء. نظلم (التعليم) عندما نطالبه بأن يتحوّل إلى (مراكز تدريب) تُعدّ منسوبيها لسوق العمل؛ فنخلط بذلك بين مفهومين مستقلين ومختلفين فالتعليم غير التدريب، وهدف (التعليم العام) هو تأسيس المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والرياضيات، ونسج رؤية علمية متناسقة للمفاهيم العلمية وتطبيقاتها التقنية والحياتية، وتأصيل (التفكير العلمي) وحلّ المشكلات، وتعزيز السلوكيات الحميدة، مما يؤهّل للانخراط في مجالات العمل والدراسة والبحث والابتكار والتفاعل المجتمعي واتخاذ القرار والمبادرة بانفتاح ووعي مستندين إلى قاعدة راسخة من المهارات الأساسية، والمفاهيم العلمية، والقيم المجتمعية.نظلم (التعليم) عندما نطلب منه أن يقوم بدوره الريادي في تطوير الواقع وتشكيل المستقبل بينما لم نُفلح بعد في دعم معلّميه معنوياً ومعرفياً ومادياً، ولم نهيئ له (البيئة المدرسية) الصحية تجهيزياً وتربوياً، ولم نؤسّس لمناهجه ذلك (التكامل المعرفي) بين النظري والتجريبي والمعملي والنشاط اللاصفي، ولم ندفع بـ(الثقافة العلمية) إلى قاعاته وساحاته وفعالياته لتحقّق دورها كرابط حيوي بين أركان المؤسسة التعليمية، وبين عصرهم العلمي - التقني.أما (التعليم) فإنه يظلم وطنه عندما يأبى أن يُكرّس (المفهوم المعرفي) بجوانبه الاستيعابية والتحليلية والتجريبية كأولوية في (فلسفة تعليم) غائبة حتى يومنا هذا، وهو يظلم وطنه عندما يتغاضى عن أبعاد الخلل القائم في منظومة (العلوم والرياضيات)، وهي المنظومة الأساس للتفكير العلمي وتشرّب روح العصر وفهم مقتضياته، ويحدث ذلك بطبيعة الحال بسبب غياب (استراتيجية تعليمية) تُحدّد الأهداف، وترسم المسارات.يظلم (التعليم) وطنه عندما لا يتعرّف على المحاور الرئيسة لمهامّه عبر (فلسفة تعليم) واضحة، واستراتيجية متكاملة، وآليات فاعلة بعيداً عن الاجتهادات الشخصية والأمزجة الفردية والتجارب الذاتية التي حوّلت (التعليم) وقراراته - على مدى عقود - إلى سيل متدفّق من الجزئيات التي لا تنتظم في إطار موحّد، أو رؤية منهجية، أو أهداف متعاضدة، ليخرج في النهاية جنيناً مشوّهاً يحمل كل جينات التناقض، ويُفرز كل روائح التضارب، وينفصم عن واقعه ومستقبله في إطار تنظيمات وإجراءات شكلية يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءها وجدها سراباً تتناوش مخرجاتها صحارى محرومة من العطاء القادر، وقاحلة في غياب المهارات الفاعلة.انتهت المساحة وما زال (التعليم)، ظالماً ومظلوماً، يربض أمامنا ليمثّل التحدّي الأكبر في مسيرة (الإصلاح والتنمية) في الوطن، ولذا لا بدّ لنا من وقفة أخرى في الأسبوع القادم بإذن الله
|