رد: الخميس 18 جمادي الأخر التربية والتعليم
الرياض:الخميس 18 جمادي الأخر 1430هـ - - العدد 14962
وزير التربية والتعليم
عبدالعزيز بن عبدالرحمن النملة
في عام 1957م اخترقت سفن الفضاء الروسية الغلاف الأرضي في سابقة مدهشة للعام بأسره، ولقد كان لهذا الإنجاز وقعه على دول منافسة ومتحدية.. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تقف على رأس تلك الدول فهي الند الأكبر، والمنافس الأوحد في عالم السيطرة وسماء الهيمنة.. وما يستحق الانتباه ويسترعي التفكير في تلك الحادثة ردود الفعل والتدابير الصادرة في أرض المنافس الغربي، فلم تكن ردود الفعل بلطم الخدود أو شق الجيوب، ولم تكن بتبادل الاتهام وتحميل المسؤولية للأفراد أو الرئيس أو حتى النظام، بل لم تكن بالرجوع والبحث عن مزيد من آبار الزيت ومصادر الطاقة أو غيرها من أشكال العرض والمناطحة!! بل كان الرجوع إلى أنظمة التعليم، ومراجعة أساليب التدريس، وكيفية بناء المنهج وتنظيمه.. فلقد انطلق الجميع رؤساء واقتصاديون وسياسيون وقادة جيش ليبحثوا عن مواطن الخلل في نقل المعرفة إلى الجيل، وتشخيص الإشكال في تفعيل ما يقال في غرف الصف وقاعات الدراسة، وبلورتها في صورة طائرة أو مركبة أو غيرها من ماديات السيطرة ومركبات الهيمنة، وفعلاً لم يمض على تلك المراجعة لأنظمة التعليم بضع سنوات، إلا وقد جاء الخبر مدوياً في وصول عنيف للفضاء.. ويقال انه وصول للقمر (أبولو 11 - 1969م). واستمرت فلول الإنجاز المعرفي انطلاقاً من صفوف الدراسة الابتدائية إلى مقاعد الدراسة في الجامعات وحتى المصانع والورش بل والثكنات، فالجميع يتناول المعرفة بروح تعكس الفائدة التطبيقية، وليست تلك المعرفة التي تكدس في الأذهان ولا يرى منها إلا قليل على أوراق الواجب أو دفاتر الامتحان! إنها معرفة انتهت بحواسيب وماديات ثقيلة، وأخرى دقيقة، حتى أصبحت فرص المنافسة أعرض من أن يرى لها طرف، وأكبر من أن يعرف لها حدود.. والحقيقة أن المتتبع لأحوال بني البشر منذ هابيل وقابيل يجد أن لا هيمنة بلا معرفة ولا معرفة بلا تربية ولا تربية بلا قيادة.. فها هي دول المشرق (من الصين مروراً بالكوريتين مع اندونيسيا والهند وإلى اليابان) تغزو بعلمها ومعرفتها العالم بأسره.. فتصنع لنا ما نتخيل من ماديات ومركوبات.. بل أصبحت تسعى إلى أن تصنع لنا فكراً لا يتبدد ولا ينفك عن عالم الاستهلاك، وكأننا خلقنا لنأكل ونشرب ونركب ولا نقرأ ولا نعرف ولا حتى نتكلم!! ولعلي أكتفي بهذا القدر من البيان الذي يصف تلك الفجوة المعرفية التي تعاني منها أنظمتنا التعليمية لتبدأ رسالتي لوزيرنا الجديد.. بداية لا شك انك وزير لست كأحد من الوزراء، فمطلوب منك أكثر ومأمول منك أكبر.. والليل حالك، والظلام دامس، والمركب هزيل، والأمواج تعصف بنا من كل مكان.. ولا أطيل عليك الوصف، فأنت ابن وأب وأخ لا يخفى عليك الحال.. وإنني بقدر ما أضع على كاهليك، فإنني أهنئك بقيادة سوف تدعم فيك كل فكرة، وتحيي فيك كل خبرة، والحقيقة أنها لم تألو جهداً في سبيل النهوض بأجيال الأمة، إلا أن الأمر واقف ببابك، وها هو يخطو عتبة أمامية تاريخية، فالكل واقف، والكل منتظر، والأنفاس محبوسة، والمشاعر هائجة، والآمال معقودة، والأفهام متعطشة إلى النهوض بفكر الدارس ورفع مداركه بعيداً عن عالم البيروقراطية الرتيبة، وبعيداً عن عالم الحشو الثقيل.. فالمعرفة اليوم لا تطال بحفظ، ولا تطاق بعقل، ولا تحاط بكتاب، إن المعرفة اليوم عالم من الوصل والاتصال، وهي أشبه بموجهات يُزوَّد بها المتعلم ليعرف كيف يتعامل مع الحدث، وبما يحقق له الهدف، إنه استثمار ليس له قيود، يُطلق العَنان أمام أفكار المتعلمين، ليكتشف المعلم قدراتهم، فيعمل على توجيهها وصقلها كي تستثمر في بناء منافس لا يركن إلى حاوية نفط أو ناقلة زيت.. إن عالم التربية اليوم قد اجتاحته عاصفة من الأفكار التي لم تبق على قاعدة، أو تطنب في مسلمة، أو تقف على نظرية أو طريقة.. فالتفكير اليوم ليس منطقياً فحسب، لأن الذكاء أصبح متعددا، والتفكير متنوعا ومتجددا ويتسابق معنا في ميدان ليس له نهاية، والمعرفة اليوم ليست منفصلة ولا متجزئة، بل ممزوجة متلاقحة تحتاج إلى نظرية شمولية أوسع من قاعات الكليات وأفسح من غرف الاجتماعات.. إن المعرفة اليوم لا تستوعبها الأوعية التقليدية، ولا تدركها العقول البشرية، فتحتاج إلى وقف تأملية تستهدف البحث عن طريقة مناسبة للتعامل معها، قبل المحاولة بأن نُكسِبها أو حتى نكتسبها.. ومن حسن القضاء وكريم العطاء أنك وزير لست غريباً على ماحدث،. ولست غريباً على ما يحدث، فأنت والمعرفة حكاية يعرف كلاكما الآخر.. وعوداً على بدء يا وزيرنا (الفاضل).. نريد أن ننطلق كما انطلقوا.. ونريد أن نكتشف كما اكتشفوا.. ونريد أن نعرف كما عرفوا.. ونريد أن نفتخر كما افتخروا.. ونريد أن نصنع جيلاً رائداً يحمل العلم الذي يغذي الفكر بعلوم هادفة، ومقاصد إنسانية نبيلة متوازنة، خفيفة على الأفهام، ثقيلة في الأذهان.. إن لنا أبناءً أسوداً في المعرفة حين النزال في القاعات والصفوف، وأنهاراً من العلم حين تجف منابع الحروف، وكل ما يريد هذا الجيل المتوقد الناهض قيادة فكرية علمية تطبيقية تساعدهم على ترجمة تلك المعرفة إلى واقع محسوس وكيان ملموس..
ولك منا جميعاً خالص التحية،،،
باحث تربوي
|