رد: الملف الصحفي للتربية الثلاثاء23/6
المدينة : الثلاثاء 23-06-1430هـ العدد : 16855
“التعليم” بين الهواجس والحقائق!!
د. خضـر محمد الـشـيـباني
جميلٌ جدّاً أن يخرج سموّ الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد عن صمت المائة يوم التي ألزم بها نفسه عند تعيينه وزيراً للتربية والتعليم ليقول إن: (مخرجات التعليم لا تُفرح)؛ فتلك بداية سديدة لأن معالجة المرض تبدأ بالاعتراف به، ثم العمل على تشخيصه، ومن ثم تفعيل الأدوات والأدوية المناسبة، أما ما ذكره سموّه – مازحاً - من أنه نسي صفراً في تلك المهلة لتكون ألف يوم بدلاً من مائة يوم، فنحن لا نتفق معه لسبب بسيط وهو أن عملية التشخيص ذاتها تحتاج إلى تفاعل بين مختلف الشرائح داخل وخارج الوزارة، وبالتالي فإن القول يدعم الفعل، وهو جزء لا يتجزأ من (العمل المتكامل) لمجابهة التحديات المتنامية.لقد تطرّقتُ في مقالتَي الأسبوعين الماضيين إلى بعض أوجه (التعليم العام) وهو يتأرجح بين كونه (مظلوما)ً في سياقات متعدّدة، وبين حاله (ظالماً) في أطر متنوّعة، وخلاصة القول إن المطلوب هو (معايير موضوعية) نحتكم إليها ونحن نتولّى عملية التقويم والمحاسبة والمتابعة والتطوير، فلا تتأثّر (المسيرة التعليمية) بتلك الهواجس التي يسعى البعض إلى إثارتها دون ضابط سوى إثارة غبار يُعيق الرؤية، ومحاولة كسب شهرة خادعة.إن غياب ذلك (السياج المعياري)، وانعدام تلك الموازين العلمية، سمح بتدافع الكثير في اجتهادات فردية لا يُعوّل عليها، ولعل أطرف تلك الهواجس وأحدثها ما كتبه أحدهم في إحدى صحفنا عن ما وصفه بمحنته مع الشمس، ومعاناته في طفولته بسبب دراسته لعلامات الساعة، وقلقه اليومي من طلوع الشمس من مغربها؛ فهو يستيقظ فزعاً كل صباح حتى يتأكّد من بزوغ الشمس من المشرق، ومثل هذا الحال لا علاقة له بمناهج التعليم، فكلنا درسنا و درس أسلافنا - على مدى قرون - علامات الساعة، ولكن لم يُصبنا ذلك (الهلع المَرَضي)، وموجز القول إن مثل هذه الحالة، وغيرها من هواجس فردية، لا يتمّ إحالتها إلى المناهج التعليمية وسياسة التعليم، ولكن الأجدى بها الإحالة إلى (طبيب نفسي) يُعالج صاحبها مما ألمّ به من عارض!.أما الحاجة إلى (معايير موضوعية) فإنها تقتضي (استراتيجية تعليمية) واضحة المعالم، ومن المهم أثناء صياغة (رؤية استراتيجية) لتعليم معاصر يستوعب حقائق ديننا، وضرورات عقيدتنا، وقيم مجتمعنا، ومتطلبات تنميتنا، أن ننأى عن مثل تلك الهواجس وهي كثيرة تنوّعت في السنوات الأخيرة وانتشرت كالوباء بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتعكس توجّهات ذاتية مختلفة، وتجارب فردية متنوّعة، لا تمتلك مقوّمات الدراسة الحصيفة، أو البحث الدقيق.لقد قلتُ في مقال سابق إن التعليم وقضايا كثيرة مطروحة في صحافتنا تبدو وكأنها تخرج من (صندوق ألغاز)؛ وذلك بسبب وجود (ثقافة) تنفر من الدراسات العلمية، والبحوث الميدانية، والمثابرة الاستقصائية، وتطرب للألفاظ والجدل والمماحكة والإنشائيات الفضفاضة، ولكن (التعليم) بما يمثّله من ريادة وقيادة في حاجة إلى أن يكون أوّل من يخرج من (صندوق الألغاز) ليقدّم الحلول، ولا يكون جزءاً من المشكلة.إذا أفلحنا، عبر اعتماد (معايير موضوعية)، في الابتعاد عن الهواجس الضبابية والإنشائيات الجدلية، وإذا استطعنا الاقتراب من الحقائق كما تُمليها طبيعة التحدي وروح العصر، فإننا سنكتشف أنه لا توجد لدينا مشكلة مع (المناهج الدينية)، كما أنه ليست هناك قضية ذات إشكال مؤرّق في مقررات (العلوم الإنسانية)؛ فالتطوير لكل تلك الأمور واجب ومقبول لدى (أهل الاختصاص) ليتلاءم مع عدة عناصر منها المرحلة العُمْرية للطلاب، وأهمية القضية المطروحة بالنسبة للعبادات أو التعاملات أو استيعاب مشكلات حياتية تُمليها ظروف العصر؛ وهذه كلها قابلةٌ للتشكّل والتطوّر عندما تخضع لمراجعات (أهل الاختصاص) في ضوء (أهداف الاستراتيجية) الغائبة عن واقعنا التعليمي حتى تاريخه.أما التحدي الأكبر فهو ينبثق عن روح العصر، وهو (التحدي العلمي - التقني)؛ فالعلوم والتقنية، بطبيعة تركيبتها المختلفة، وتسارعها المذهل، غريبةٌ على (الإطار التعليمي) الذي يتعامل معها وكأنه يتعامل مع دراسات أدبية أو موضوعات تاريخية، مهملاً الخصائص المميّزة لهذه المنظومة؛ ولذا لا بدّ من وقفات جادّة أمام العراقيل الحقيقية لمشكلة تعليم (الفيزياء والرياضيات) لتشخيص طبيعتها سواءً على الصعيد المهني أو التجهيزي أو الإداري، ولا بدّ من جعلها الأولوية الحاسمة في (العملية التعليمية)، ووضع الحلول السويّة وتفعيلها.من أبرز هذه العراقيل غياب التقنيات والمختبرات المحفّزة على تفاعل الطالب مع (التجربة العلمية) عبر الممارسة والخطأ والتكرار والتعلّم الذاتي؛ ومنها غياب (المعلّم المهني) المتدرّب والمطوّر باستمرار لخبراته التجريبية والنظرية لينقلها إلى طلابه متجدّدةً وحيويّةً ومتفاعلةً؛ ومنها غياب (الثقافة العلمية) وعدم تغلغلها بين الطلاب والمعلمين والإداريين والبيئة المدرسية؛ فمن الضروري أن نجعل من (العلوم والرياضيات والتقنية) فكراً وحياةً وكياناً ملموساً في البيئة المدرسية، لنُغذّي الحماس للفكر العلمي، ولنزرع الاهتمام بروح التنمية ومتطلباتها الحقيقية بعيداً عن الهواجس والأوهام، ولتدفع بالعقول الغضّة إلى عوالم الإنجاز وربط العلوم بالتفاعلات اليومية؛ فلا يكون تعليم (العلوم والرياضيات) ضرباً من الشكليات والألغاز فاقداً لروحه ودوافعه وحوافزه ومنطلقاته؛ فـ(الثقافة العلمية)، كجزء أصيل من (العملية التعليمية)، ينبغي أن تكون على رأس الأولويات في التفاعلات المختلفة في المختبر والمكتبة والفصل والأنشطة اللاصفية؛ ولذا فإنها تحتاج إلى أكثر من وقفة إحداها في الأسبوع المقبل بإذن الله.
|