عرض مشاركة واحدة
قديم 07-08-2009   رقم المشاركة : ( 6 )
صقر قريش
مشرف الأقسام التعليمية

الصورة الرمزية صقر قريش

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 2814
تـاريخ التسجيـل : 22-08-2008
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 31,556
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 596
قوة التـرشيــــح : صقر قريش تميز فوق العادةصقر قريش تميز فوق العادةصقر قريش تميز فوق العادةصقر قريش تميز فوق العادةصقر قريش تميز فوق العادةصقر قريش تميز فوق العادة


صقر قريش غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير سورة البقرة

قصة البقرة وإحياء الميت

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ(67)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68)قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70)قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ(72)فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)}.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى بعض قبائح اليهود وجرائمهم، من نقض المواثيق، واعتدائهم في السبت، وتمردهم على الله عز وجل في تطبيق شريعته المنزلة، أعقبه بذكر نوعٍ من مساوئهم ألا وهو مخالفتهم للأنبياء وتكذبيهم لهم، وعدم مسارعتهم لامتثال الأوامر التي يوحيها الله إِليهم، ثم كثرة اللجاج والعناد للرسل صلوات الله عليهم، وجفاؤهم في مخاطبة نبيّهم الكريم موسى عليه السلام، إلى أن ما هنالك من قبائح ومساوئ.

سبب هذه الحادثة العظيمة التي سميت أطول سورة باسمها، أن رجلاً من بني إسرائيل كان ثرياً جداً ولم يكن له وارث، فتآمر على ابن أخيه فقتله ليلاً ثم أخذ الجثة وألقاها في مكان قريب من إحدى القرى المجاورة ليتهموا بقتله. وكذلك كان الحال واحتدم الخلاف بينهم وأقارب القتيل، فذهبوا إلى موسى عليه السلام ليدعو ربه فيكشف القاتل، فاستجاب الله دعاءه وأمرهم بذبح البقرة.

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قال لكم نبيكم موسى إِن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.

جاء الأمر هنا من غير علة وقد أرجئت إلى آخر القصة، والحكمة في ذلك أن الأمر إذا كان صادراً ممّن هو أعلى ينبغي المبادرة إلى تنفيذه من غير البحث عن علة ذلك، فالعبد يمتثل أوامر مولاه ظهرت له الحكمة والعلة أو أخفيت عنه للابتلاء. قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي فكان جوابكم الوقح لنبيكم أن قلتم: أتهزأ بنا يا موسى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} أي ألتجئ إِلى الله أن أكون في زمرة المستهزئين الجاهلين.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أي ما هي هذه البقرة وأي شيء صفتها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} أي لا كبيرة هرمة، ولا صغيرة لم يلحقها الفحل {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي وسط بين الكبيرة والصغيرة {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} أي افعلوا ما أمركم به ربكم ولا تتعنتوا ولا تشدّدوا فيشدّد الله عليكم.

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي ما هو لونها أبيض أم أسود أم غير ذلك؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي إِنها بقرة صفراء شديدة الصفرة، حسن منظرها تسر كل من رآها. ومع هذا اختلفوا بينهم في تحديدها فرجعوا إلى موسى عليه السلام.

و {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أعادوا السؤال عن حال البقرة بعد أن عرفوا سنها ولونها ليزدادوا بياناً لوصفها، ثم اعتذروا بأن البقر الموصوف بكونه عواناً وبالصفرة الفاقعة كثيرٌ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} أي التبس الأمر علينا فلم ندر ما البقرة المأمورة بذبحها {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} أي سنهتدي إِلى معرفتها إِن شاء الله، ولو لم يقولوا ذلك لم يهتدوا إِليها أبداً كما ثبت في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله لما تبينت لهم آخر الأبد".

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} أي ليست هذه البقرة مسخرة لحراثة الأرض، ولا لسقاية الزرع {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} أي سليمة من العيوب ليس فيها لونٌ آخر يخالف لونها فهي صفراء كلها {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي الآن بينتها لنا بياناً شافياً لا غموض فيه ولا لبس، وكأن ما قاله لهم موسى عليه السلام وحياً من ربه قبل ذلك ليس حقاً. قال تعالى إِخباراً عنهم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة أو تماطلاً في تطبيق الأوامر الإلهية كما هو شأنهم ولعله الأرجح.

ثم أخبر تعالى عن سبب أمرهم بذبح البقرة، وعما شهدوه من آيات الله الباهرة {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قتلتم نفساً {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أي تخاصمتم وتدافعتم بشأنها، وأصبح كل فريق يدفع التهمة عن نفسه وينسبها لغيره {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر ما تخفونه {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أي اضربوا القتيل بشيء من البقرة يحيا ويخبركم عن قاتله {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} أي كما أحيا هذا القتيل أمام أبصاركم يحيي الموتى من قبورهم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يريكم دلائل قدرته لتتفكروا وتتدبروا وتعلموا أن الله على كل شيء قدير.



ما يستخلص من الآيات [67-73]:

1- أراد الله تعالى من قصة ذبح البقرة وضرْب الميت ببعضها أن يثبت لبني إسرائيل ومَنْ جاء بعدهم من المتشكيين أن الله {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6-7].

ومن هنا سميت أطول سورة في القرآن باسمها -سورة البقرة- لأن القصة عالجت قضية تتعلق بركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يسبقه بعث الناس من القبور.

2- إن بني إسرائيل أكثروا من الأسئلة وشددوا فشدد الله عليهم ولو أنهم امتثلوا الأمر في البداية وذبحوا أية بقرة لأجزأتهم. لأجل ذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من كثرة الأسئلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" [رواه الشيخان]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} [المائدة: 101].

والأسئلة المنهي عنها: مثل السؤال عما أخفاه الله عن عباده كالسؤال عن قيام الساعة وعن حقيقة الروح، وعن القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، والسؤال عن الأغاليط والسؤال عما لا يحتاج إليه، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام وما نحو ذلك.

وأما السؤال عمّا ينفع وينبني عليه عمل فهو أمر مطلوب شرعاً.

3- كان الأمر بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل ليُهَوِّن عندهم أمر تعظيمه.

4- المال الحلال يبارك الله فيه ولو كان قليلاً، وخير دليل على ذلك هذه القصة فقد كانت تلك البقرة لرجل صالح يتحرى الحلال فعندما حضرته الوفاة ورث زوجه وابنه الصغير عِجْلة كانت فيما بعد تلك البقرة الوحيدة التي انطبقت عليها المواصفات، فكان ثمنها كما جاء في الحديث (… حتى انتهوا إلى البقرة التي أمِروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها ..." [تفسير ابن كثير 1/108].

5- أظهر الله تعالى عظمته لخلقه من خلال هذه الآية، وذلك أنه أحيا ميتاً بجزء من ميت، ولو أنه تعالى أحياه بدون أن يضرب ببعضها لقالوا: لم يكن ميتاً، وإنما كان في حالة إغماءة ثم أفاق. ولكنه تعالى أراد أن يعطيهم درساً وهم الماديون {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحي الله الموتى، وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حياً بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة جَلّ جلاله.

جفاء اليهود وقسوة قلوبهم

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)}.



ثم أخبر تعالى عن جفائهم وقسوة قلوبهم فقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} أي صلبت قلوبكم يا معشر اليهود فلا يؤثر فيها وعظٌ ولا تذكير {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد رؤية المعجزات الباهرة {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} أي بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة كالحديد.

ذكر الله تعالى القلب ونسب القسوة إليه ولم ينسبها إلى النفوس، لأن القلب هو موضع الرقة والرحمة والعطف، فكلما امتلأ القلب ذكراً لله تعالى امتلأ رقة ورحمة وعطفاً، ولكما غفل عن ذكر الله ازداد قسوة وجفاء، وانعكست آثاره في الحالتين على الجوارح فيصلح المجتمع به أو يفسد. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [رواه الشيخان].

{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} أي تتدفق منها الأنهار الغزيرة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} أي من الحجارة ما يتصدع إِشفاقاً من عظمة الله فينبع منه الماء.

والفرق بين تفجر الأنهار من الحجارة وتشققها ليخرج منها الماء، أنه عند تفجر الأنهار يأتي الماء إلينا ونحن في مكاننا. وعندما تتشقق ليخرج منها الماء نذهب نحن إلى مكان الماء لنأخذ حاجتنا. وفرق بين عطاء نذهب إليه، وعطاء يأتي إلينا. وكلٌّ من عطاء ربنا.

{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي ومنها ما يتفتّت ويتردّى من رؤوس الجبال من خشية الله.

وحدث ذلك عندما تجلى الله تعالى للجبل فجعله دكاً، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].

فالحجارة تلين وتخشع وقلوبكم يا معشر اليهود لا تتأثر ولا تلين {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم لا تخفى عليه خافية، وسيجازيكم عليها يوم القيامة، وفي هذا وعيد وتهديد.



ما يستخلص من الآيات [74]:

1- أساس شيء في الإنسان قلبه، فإذا صلح صلحت سائر جوارحه وإذا فسد فسدت سائر جوارحه.

2- القلب معرض لأمراض كثيرة، وأخطرها القسوة التي أشارت إليها الآية القرآنية. وسبب القسوة العناء والتماطل في تطبيق أوامر الله تعالى كما فعل بنو إسرائيل. ومن قسى قلبه لا ينفعه بشيء إن لم يتدارك نفسه، وهو عرضة لغضب الله، ومن غضب الله عليه طبع على قلبه. ومن طُبِع على قلبه فلن يهتدي أبداً.

فعلى المسلم العاقل الراجي رحمة ربه أن يبادر إلى تطبيق أوامر ربه فور استماعها لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

3- الحجارة في قبضة الله تعالى والقلوب كذلك، فمن شعر بقسوة في قلبه فعليه أن يلتجيء إلى الله تعالى مالك القلوب ليغير قلبه إلى أحسن حال وليفجره خشوعاً وليناً وانضياءاً كما فجّر الحجارة عيوناً وأنهاراً {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].



استبعاد إيمان اليهود

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76)أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77)وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ(78)}.



المنَاسَبَة:

لما ذكر تعالى عناد اليهود، وعدم امتثالهم لأوامر الله تعالى، ومجادلتهم للأنبياء الكرام، وعدم الانقياد والإِذعان، عقَّب ذلك بذكر بعض القبائح والجرائم التي ارتكبوها كتحريف كلام الله تعالى، وادعائهم بأنهم أحباب الله، وأن النار لن تمسَّهم إِلا بضعة أيام قليلة، إلى آخر ما هم عليه من أماني كاذبة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وقد بدأ تعالى الآيات بتيئيس المسلمين من إِيمانهم لأنهم فطروا على الضلال، وجبلوا على العناد والمكابرة.



سبب النزول:

نزلت في الأنصار كانوا حلفاء لليهود وبينهم جوارٌ ورضاعة وكانوا يودون لو أسلموا فأنزل الله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ..} الآية.

وروى مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون: إِن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإِنما نُعذب بكل ألف سنة يوماً في النار، وإِنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى {وقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}.



يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين فيقول {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} أي أترجون يا معشر المؤمنين أن يُسلم اليهود ويدخلوا في دينكم {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} أي والحال قد كان طائفة من أحبارهم وعلمائهم يتلون كتاب الله ويسمعونه بَيِّناً جَلِياً {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي يغيّرون آيات التوراة بالتبديل أو التأويل، من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم يرتكبون جريمة أي أنهم يخالفونه على بصيرة لا عن خطأٍ أو نسيان.

هذه الآيات تحمل أعظم تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه مكلف بالبلاغ فقط، ولكن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمان أهل الأرض كلهم لا يعني أنه لم يفهم خطاب ربه، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله.

والطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوباً لها. فكلمة "أفتطمعون" هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. وهداية اليهود أمر زائد على ما كُلِّفنا به وإن كان محبوباً لدينا. {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 20-24].

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} أي إِذا اجتمعوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون من اليهود: آمنا بأنكم على الحق، وأن محمداً هو الرسول المبشَّر به {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أي إِذا انفرد واختلى بعضهم ببعض {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي قالوا عاتبين عليهم أتخبرون أصحاب محمد بما بيَّن الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي لتكون الحجة للمؤمنين عليكم في الآخرة في ترك اتباع الرسول مع العلم بصدقه {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أفليست لكم عقول تمنعكم من أن تحدثوهم بما يكون لهم فيه حجة عليكم؟ والقائلون ذلك هم اليهود لمن نافق منهم.

قال تعالى رداً عليهم وتوبيخاً {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ألا يعلم هؤلاء اليهود أن الله يعلم ما يخفون وما يظهرون، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، فكيف يقولون ذلك ثم يزعمون الإِيمان!!

ولما ذكر تعالى العلماء الذين حرّفوا وبدّلوا، ذكر العوام الذين قلدوهم ونبّه أنهم في الضلال سواء فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} أي ومن اليهود طائفة من الجهلة العوامّ، الذين لا يعرفون القراءة والكتابة ليطلعوا على ما في التوراة بأنفسهم ويتحققوا بما فيها {إِلا أَمَانِيَّ} أي إِلاَّ ما هم عليه من الأماني التي منّاهم بها أحبارهم، من أن الله يعفو عنهم ويرحمهم، وأن النار لن تمسهم إِلا أياماً معدودة، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، إِلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي ما هم على يقين من أمرهم، بل هم مقلّدون للآباء تقليد أهل العمى والغباء.

الأماني جمع أمنية، وهي الشيء الذي يحب الإنسان تحققه وهو مستحيل الحدوث عادة. كما قال الشاعر:

ألا ليت الشباب يعود يوماً فأُخبره بما فعل المَشيبُ

ومَنْ فاته شبابه لن يعود إلى يوم القيامة.



ما يستخلص من الآيات [75-78]:

1- النفاق ظاهرة عامة موجودة عند جميع الأجناس، فليس هو محصوراً فيمن نافق من أهل المدينة فقط، بل هو موجود عند أهل الكتاب من اليهود كما أشارت الآيات، وعند النصارى وغيرهم ومن هنا وجب على المسلمين أخذ الحيطة حتى لا ينخدعوا بالإيمان المزيّف، ويتجرعوا من ورائه الويلات.

2- دلَّت الآية الأخيرة من هذا المقطع {وإن هم إلا يظنون} على بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، فلا بد للإيمان من يقين يقوم على الحجة والبرهان وهو ما عليه سلف هذه الأمة إذ كل من قلَّد في التوحيد إيمانه لا يخلو من ترد يد. ولذا قال الحق جل وعلا {فاعلم أنه لا إله لا الله} والعلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع بدليل.

يتبع
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس