أزمة التمويل .. مازالت تُغَيّبُ مشروع "بيت لكل مواطن"!
د. أمين ساعاتي
يقلقني جداً أن تمر فترة الرواج والانتعاش الاقتصادي التي يمر بها الاقتصاد السعودي في هذه الأيام ولم تقم الهيئة العامة للإسكان بعلاج الأزمة التي يعانيها المواطن السعودي منذ عقود طويلة.
ولا شك أن وجود 70 في المائة من السعوديين دون سكن يملكونه يثير كثيرا من التساؤلات، ونؤكد أنه من غير المعقول ولا المقبول أن تصل معدلات الدخل الفردي للمواطن السعودي إلى مستوى 32 ألف دولار سنوياً حسب إحصائيات عام 2007، ومع ذلك فإن 70 في المائة من السعوديين ليس لديهم سكن مملوك يضم أفراد الأسرة الواحدة.
ولذلك يجب أن تتحرك الهيئة العامة للإسكان وتطرح مشاريع تحمل شعار "بيت لكل مواطن"، حيث تتجه كل هذه المشاريع إلى تقليص هذه النسبة وتجعل الذين لا يملكون سكناً في السعودية هم الأقلية وليس هم الأغلبية.
دعونا نكون صرحاء إن مشكلة المشكلات في قضية بناء المساكن هي النقص الهائل في مؤسسات التمويل العقاري، أو لنقل افتقار منظومة الاقتصاد الوطني السعودي إلى مؤسسات التمويل العقاري، ونعترف بأن المشكلة ليست سهلة أو بسيطة لأن قطاع الإسكان يحتاج إلى تمويل ضخم لسد الفجوة الغائرة بين العرض والطلب في قطاع المساكن، ويقدر المراقبون الماليون التمويل المطلوب بأكثر من 50 مليار ريال في العام الواحد، وهو مبلغ ضخم لن يكون بمقدور البنوك المحلية وشركات التمويل التي أنشئت حديثاً أو التي تحت الإنشاء توفير هذا المبلغ إلاّ بدعم حكومي كبير، مع ضرورة الإسراع في إصدار مجموعة النظم الأربعة المتعلقة بتنظيم العقار، وهي المشاريع التي أقرها متعجلاً مجلس الشورى في العام الماضي بما فيها إنشاء سوق ثانوية للصكوك والسندات.
والواضح أن سوق العقار في السعودية من الأسواق الواعدة التي استطاعت أن "تزوّغ" من التوابع التي جاءت مع الأزمة المالية العالمية التي نسمع عنها ونراها في قطاعات اقتصادية كثيرة إلاّ في قطاع العقار، وإزاء ذلك نلاحظ تقدماً كبيراً على صعيد بناء الأبراج الشاهقة، والعمارات الناطحة للسحاب، والفلل الوثيرة، والمولات الفارهة، ولكن مع كل هذا الإقبال على البناء، فإن قطاع الإسكان يعانى فجوة كبيرة بين العرض والطلب في قطاع المساكن التي تسعى إليها الشريحة الأكبر من مواطني السعودية، ونقول صراحة إنه بدون الإسراع في حل هذه المعضلة، فإن المملكة ستعيش أزمة سكن حقيقية لعقود طويلة قادمة حتى تصبح هذه المشكلة مع زيادة عدد السكان من الضراوة بحيث يصعب إيجاد حل لها في المستقبل.
ولذلك كي نحل هذه المعضلة فليس أمامنا إلاّ بناء مزيد ومزيد من مؤسسات التمويل العقاري التي ما زالت غائبة عن سوق العقار.
إن الهدف الرئيس الذي نتوخاه من مؤسسات التمويل العقاري هو بناء مساكن لأكبر شريحة من شرائح المجتمع السعودي، أمّا بناء المولات والأبراج والشاليهات والاستراحات، فهذه المشاريع جزء كبير منها للرفاهية والترفيه، وقد تولاها أصحابها من الأثرياء والموسرين، ومشكلة هؤلاء الأغنياء هي عكس مشكلة الفقراء، فبينما يزيد الطلب على العرض بالنسبة للمساكن الاقتصادية، فإن العرض يزيد على الطلب بالنسبة للمولات والشاليهات والاستراحات.
ولذلك في الوقت الذي تفيض المولات عن الحاجة والاستراحات عن الحاجة والشاليهات عن الحاجة في المدن الكبيرة، فإن السوق يعاني نقصا هائلا في الوحدات السكنية لمحدودي الدخل.
وإذا كان غياب أنظمة الرهن العقاري أحد أهم معوقات التمويل العقاري، فإن غياب سوق الصكوك والسندات في المملكة يعد هو الآخر ثاني أكبر العوائق التي تواجه قضية التمويل العقاري، ذلك لأن ضخامة حجم التمويل في مجال العقار تتطلب ـ كما ذكرنا ـ وفرة كبيرة من المال تتجاوز مليارات الدولارات، وهذا المناخ لا شك أنه يشجع على وجود سوق للصكوك والسندات قادرة على توفير الرساميل اللازمة لشركات التمويل العقاري، ولا سيما نحن نعرف أن هناك إقبالاً هائلاً على الصكوك من قبل بعض المؤسسات المعروفة بملاءتها المالية مثل المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية والمؤسسة العامة للتقاعد.
ويظل السؤال القضية يطرح نفسه بقوة في قلب الأزمة وهو: هل غياب نظام الرهن العقاري هو العائق الوحيد لتمكين المواطنين من تملك المساكن، أم أن ضعف مستويات الدخل للشريحة الأكبر من العاملين في القطاعين الحكومي والخاص هو الذي يؤكد أن نظام الرهن العقاري وحده لا يحمل معه مفاتيح حل مشكلة الإسكان، فالأعداد القليلة من المستفيدين من برامج التمويل العقاري حالياً.. تعطى مؤشراً على أن المستفيد الأول من البنك العقاري سيظل محصوراً في الأثرياء والقادرين، وهنا تكمن أهمية إيجاد نظام رهن عقاري يتناسب مع ذوى الدخل المنخفض، وإلاّ فإن البنك العقاري يظهر ولن يكون مفيداً للمستضعفين على الإطلاق.
وهذا يقود تلقائياً إلى الخوض في قضية أهم وهي ضرورة تحسين مستويات الدخل للعاملين من ذوي الدخل المنخفض وهم ـ للأسف ـ الأغلبية في المجتمع السعودي، ويبدو إننا في حاجة ماسة إلى تعديل سلم الرواتب بالزيادة لصغار الموظفين وتطبيق نظام الحد الأدنى للأجور هو الحل الأنسب في مثل هذه الظروف التي يعيشها الموظف في هذه الأيام، وتطرح صحيفة "الاقتصادية" في هذه الأيام فكرة جديرة بالاهتمام للقضاء على مشكلة السكن لذوى الدخل المحدود، وهي توفير الوحدة السكنية جاهزة السكن بدلاً من منح الأراضي، أمّا بالنسبة للمتقاعدين الذين طفق عددهم يتعاظم وهم جديرون بسكن كريم يلم أسرهم نظير ما قدموه خدمة للوطن والمواطن، لأنه من غير المعقول ولا المقبول لا أخلاقياً ولا دينياً أن يفني الموظف كل شبابه لوظيفته، وفي النهاية نتركه للأيام القاسية تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال، بل الأدهى والأمر من ذلك نحيطه بمجموعة من الأنظمة القاسية التي تمنع عنه حق الاقتراض لبناء سكن له ولأولاده وتمنع عنه حق التأمين للعلاج، أليس من حق المتقاعدين علينا أن نرعاهم في كبرهم، كما رعونا في شبابهم ولو حتى من باب رد الجميل؟!
على كل حال، إن توفير المسكن للمواطن حق للمواطن وواجب على الحكومة تجاه كل مواطنيها وبالذات أصحاب الدخل المحدود.
توفير المسكن للمواطن .. المطلوب حلول متعددة أم استراتيجية موحدة؟
كلمة الاقتصادية
لم تعد حاجة الإنسان إلى تملك بيت أو مسكن خاص به بالمسألة الهامشية في عملية التنمية, فتلبية مثل هذه الحاجة صارت من المؤشرات المهمة في ميزان التنمية البشرية, بل حتى تحديد حالة الفقر وتعريف الفقير صارت مسألة المسكن أحد المكونات الرئيسية لها. فازدياد نسبة بناء المساكن وتملكها أصبح هدفا يسعى إليه الجميع, فهو مؤشر له ثقله الاقتصادي وله تأثيره الكبير في دفع عجلة التنمية الاقتصادية ويستبشر به كثير من المتابعين للاقتصاد المحلي والعالمي, فتباطأ قطاع المساكن في الولايات المتحدة بقدر ما أسهم في الركود الاقتصادي بقدر ما كان السبب في إغلاق عدد كبير من المصانع الصينية وتسريح الملايين من العمال الصينيين, وهو مؤشر يراقبه أهل الاختصاص في علم الاجتماع لأن كثيرا من المشكلات الاجتماعية تمتد جذورها إلى حيث هذه المسألة وحيثياتها, فعدم القدرة على امتلاك مسكن خاص قد يؤخر قرار الإنسان في الإقدام على الزواج, وهذا له تبعات اجتماعية, وامتلاك المسكن له أيضا تأثيره في الاستقرار الأسري.
المملكة وهي تعيش زيادة سكانية كبيرة بالمقاييس العالمية أمامها تحد كبير وهو مساعدة مواطنيها على تملك المساكن الخاصة بهم, ولم يعد هذا الأمر من خصوصيات الفرد للأسباب التي ذكرنا بعضها, فهي اليوم من قضايا وهموم التنمية الرئيسية, وهي مسألة وطنية مجمع على أهميتها. وإذا كانت المملكة تسعى جاهدة إلى بناء نفسها اقتصاديا وعلميا وثقافيا واجتماعيا فإنها تريد لكل هذه الأمور أن تتم في إطار تطوير الإنسان السعودي والارتقاء بمستواه المعاشي والحياتي, وتأتي مسألة توفير المسكن المناسب محورية في هذا الإطار. فالكل متفق على أن قطاع الإسكان لا بد أن يحظى بالأهمية المطلوبة حاضرا ومستقبلا, ولكن هكذا مسألة كبيرة ومحل اهتمام المجتمع كله, فمن الطبيعي أن تتنوع الطرق والأساليب لحلها, ولكن هذه الطرق والأساليب لا تعطينا النتائج المرجوة منها ما لم تجمعها استراتيجية موحدة تأخذ بأبعاد المشكلة المتعددة وترشد الموارد المخصصة لها وتحدد مسارات التعامل معها.
المراقب لا يجد هناك نقصا في الحلول المطروحة للتعامل مع مشكلة الإسكان, بل إن الأمر وصل في بعض الأحيان إلى التعجل في طرح حلول غير عملية ولا تجدي نفعا في حل المشكلة, فهناك جهود لدعم الصندوق العقاري ودعمه بمزيد من الموارد المالية لتسهيل مهمته وأداء دوره, وهناك بداية وإن كانت مترددة ومتواضعة لدخول البنوك في عملية التمويل بانتظار التشريعات المطلوبة لتقنين الرهن العقاري, وهناك مبادرات من قبل بعض الشركات الكبرى لاستحداث برامج إسكانية لمنتسبيها, وهناك حركة بناء واسعة تشهدها المملكة ولا يستبعد أن يبقى قطاع البناء والعقار في صدارة القطاعات الاقتصادية لمدة طويلة في المستقبل. هذه كلها حلول جيدة وسيكون لها أثر ملموس في تحقيق إنجازات في المستقبل ولكن ستبقى المشكلة على حجمها إن لم تكبر في المستقبل ما لم يجمع هذه الحلول إطار استراتيجي موحد. فميزة الاستراتيجية أنها تضع أهدافا واضحة ومحددة زمنيا وأنها تضع آليات فاعلة لتحقيق هذه الأهداف وأنها تتيح مناخا لتكامل هذه الحلول مع بعضها.
هناك كثير من القضايا ذات العلاقة القوية بامتلاك المسكن والمطلوب أن تحيط بها هذه الاستراتيجية المبتغاة, فالدولة لها دور تمويلي وتشريعي مهم ولا بد من تأطيره بشكل واضح, فالصندوق العقاري بشكله الحالي وبتنظيماته وطريقة إدارته الحالية لم يعد المؤسسة التي تناسب هذه المرحلة بتفرعاتها وتعقيداتها. والدولة بمفردها لا تستطيع الوفاء بالموارد المالية لقطاع بهذا الحجم وإن كانت مساهمتها ستبقى مطلوبة وبقدر كبير في المستقبل المنظور إلا أنها هي الأقدر على إيجاد القنوات والأدوات التمويلية للتعامل مع هذه القضية. وهناك مسألة الأراضي وأسعارها وتوافر الخدمات لها وهي كلها مسائل تضغط وبشكل سلبي على الحلول المتاحة للتعامل مع المشكلة, فنمو تجارة العقار والأراضي وبشكل مبالغ فيه جدا هو من الجوانب التي بحاجة إلى ترشيد في إطار هذه الاستراتيجية, فترك هذا الأمر على أنه نشاط اقتصادي مفتوح بالكامل لا يساعد على حل المشكلة.
لا تعني المطالبة بإيجاد استراتيجية في هذا الشأن التقليل من أهمية وحاجة ما هو موجود وما قد يطرح من حلول تهدف إلى معالجة المشكلة ولكن ما تقدمه الاستراتيجية لا تستطيع الحلول أن تقدمه وحدها, إنها توفر البيئة لإيجاد حلول عملية ومتكاملة, فتوفير المسكن للمواطن محل اهتمام القيادة في المملكة وعليه تأتي أهمية تنادي المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والجامعات للخروج باستراتيجية موحدة للتعامل مع مشكلة الإسكان.