ولَسْنا على الأَعقابِ تَدْمَى كُلُومُنا * * * ولكن على أَعقابنا يَقْطُرُ الدَّمُ
ثم داس الـ ....! لا أدري والله بم أصفه ؟ إن قلتُ المجرم، فمِنَ المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجِستين على التي قتلها ظلمًا؛ ليتوثَّق من موتها ! ولكنه فعل ذلك كما أوصاه مَنْ بعث به لاغتيالها ؟؟
دعس عليها برجليه؛ ليتأكد من نجاح مهمته ! قطع الله يديه ورجليه، لا !!
بل أدَعُه وأدع من بعث به لله ... لعذابه ... لانتقامه ... ولعذاب الآخرة أشد من كل عذاب يخطر على قلوب البشر ...
لقد كلَّمْتُها قبل الحادث بساعة واحد !
قلتُ :أين عصام ؟ - يقصد عصام العطار زوجها – قالت :« خَبَّرُوه – يعني السلطات الألمانية - بأن المجرمين يريدون اغتياله، وأبعدوه عن البيت ، قلت: وكيف تبقين وحدكِ ؟ قالت : بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير
ثِقْ والله يا بابا أنني بخير ، إن الباب لا يُفْتَح إلا إنْ فتحتُه أنا ، ولا أفتح إلا إنْ عرفتُ من الطارق وسمعتُ صوته ، إنْ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة ،والمسلِّم هو الله .
ما خطر على بالها أن هذا الوحش ، هذا الشيطان ! سيُهدِّد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي ، فتطمئن ، فتفتح لها الباب .
ومرّت الساعة ... فقرع جرس الهاتف ... وسمِعْتُ من يقول : كَلِّمْ وزارة الخارجية ... قلتُ: نعم.
فكلَّمني رجل أحسسْتُ أنه يتلعثم ويتردَّد ، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدْلاء به بُلَغاء الرجال ، بأن يخبرني ... كيف يخبرني ؟؟
ثم قال : ما عندك أحدٌ أكلِّمه ؟ وكان عندي أخي . فكلّمه ، وسمع ما يقول ورأيته قد ارتاع مما سمع ، وحار ماذا يقول لي ؟
وأحسست أن المكالمة من ألمانيا ، فسألته : هل أصاب عصاماً شيء ؟؟ قال : لا ، ولكن .... قلت : ولكن ماذا ؟؟ قال : بَنَان ، قلت : مالها ؟؟ قال ، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء!....
وفهمتُ وأحسستُ كأنَّ سكيناً قد غُرِس في قلبي ،ولكني تجلَّدتُ وقلتُ هادئاً هدوءاً ظاهرياً ، والنار تضطرم في صدري : حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعتَ. فحدَّثَني ...
وثِقوا أني مهما أُوتِيتُ من طلاقة اللسان ، ومن نفاذ البيان ، لن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعتُ ....
كنت أحسبني جَلْداً صبوراً ، أَثْبُتُ للأحداث أو أواجه المصائب ، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات...... !!
و انتشر في الناس الخبر، و لمستُ فيهم العطف و الحب و المواساة...
ووصلتْني برقيَّات تُواسيني، و إنها لـَمِنَّة ممن بعث بها وممن كتب، يعجز لسان الشكر عن وفاء حقها .
ولكني سكت ! فلم أشكرها و لم أذكرها, لأن المصيبة عَقَلَتْ لساني, وهدَّتْ أركاني، و أضاعت عليّ سبيل الفكر!
فعذرًا و شكرًا لاصحاب البرقيات و الرسائل.....
صحيح أنه:
ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة * * * يُواسيك أو يُسْلِيك أو يتوجَّعُ
ولكن لا مواساة في الموت, والسَّلْو مُخَدَّرٌ أثَرُه سريع الزوال.
والتّوجع يُشْكر ولكن لا ينفع شيئا!!
وأغلقت عليّ بابي، وكلما سألوا عني ابْتَغى أهلي المعاذير,يصرفونهم عن المجيء, ومجيئهم فضل منهم, و لكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع.
لم أرِدْ أن تكون مصيبتي مضغة الأهواء, ولا مجالا لإظهار البيان, إنها
مصيبتي وحدي، فدعوني أتجرَّعها وحدي على مَهَلٍ.
ثم فتحتُ بابي, وجعلت أُكلِّم مَنْ جاءني, جاءني كثير ممن أعرفه ويعرفني وممن يعرفني ولاأعرفه ؟
وجعلت أتكلم في كل موضوع إلا الموضوع الذي جاؤوا من أجله! واستبقيتُ أحزاني لي, و حدَّثْتُهم كل حديث، حتى لقد أوردتُ نُكَتًا - يعني فوائد- ونوادر!!!
أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء ؟ أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يُعْرَفوا بها؟
لا والله، ولكن الأمر ما قلتُ لكم.
كنتُ أضحك، وأضْحِك القوم! وقلبي وكل خلية في جسدي تبكي!!
فما كل ضاحك مسرور:
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا * * * فالطير يرقص مذبوحا من الألم!!
إني لأتصوّر الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة, و يوما يوما، تمر أمامي
متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني.
لقد ذكرتُ مولدها، وكانت ثانية بناتي, ولقد كنتُ أتمنّى أن يكون - يعني أول أولاده - ذَكَرًا !
وقد أعددتُ له أحلى الأسماء!
ما خطر على بالي أن يكون أنثى!
وسمَّيْتُها عنان – هي بنته الكبرى - وولِدَتْ بعدها بسنتين بنان .
اللهم ارحمها .وهذه أول مرة أو الثانية التي أقول فيها: اللهم ارحمها!!
وإني لأرجوا الرحمة لها، ولكني لا أستطيع أن أتصوَّر موتها!!
ولـمَّا صار عمرها أربع سنوات ونصف السنة أصرَّتْ على أنْ تذهب إلى المدرسة مع أختها, فسعيتُ أن تُقْبَل من غير تسجل رسميًّا.
فلما كان يوم الامتحان ووزِّعتْ عَلَماتها المدرسية، وقد كتب لها ظاهريا لتسرَّ بها ولم تسجِّل عليها.
قلت هيه؟ ماذا حدث؟
فقفَزَتْ مبتهجة مسرورة، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات, متلاحقة الألفاظ:
بابا : كلها أصفار أصفار أصفار!!
تحسب الأصفار هي خير ما يُنَال؟!
وماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفارًا أم كانت عشرات ؟
وماذا ينفع المسافر الذي ودَّع بيته إلى غير عودة, وخلَّف متاعه وأثاثه؟
ماذا ينفع طراز فرش البيت ولونه وشكله ؟ ... ).
وكتب زوجها المجاهد عصام العطار يقول:
( وقد بلغت محبّة علي الطنطاوي لي، وثقته بي، وبلغت أُخُوَّتنا وصداقتنا ذروتها العالية عندما اختارني زوجًا لابنته: بنان، وتجاوزَتْ هذه الأخُوّةُ والصّداقةُ كل ذروة من الذُّرَى عندما استشهدت بنان الحبيبة في: 17/03/1981م ، في مدينة : ( آخن ) في ألمانيا.
فالتقتْ منه ومني إلى الأبد: جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع،وذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات.
ولم تندمل قطّ جراح علي الطنطاوي لفقد بنان، ولم تندمل جراحي، ولم يرقأ دمعه، ولم يرقأ دمعي، ولم يسكت حزنه، ولم يسكت حزني، إلى أن اختاره الله إلى جواره .
[ولقد]كتبَ – يعني علي الطنطاوي - في الحلقة« 199»( من ذكرياته)
بعد سنوات من استشهاد ابنته، بمناسبة يوم عيدٍ [فقال]:
« أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم الـمُرّ.. فأنَّىَ لي الآن، وهذا يومُ عيد، أنْ أقوم بهذا الذي كنتُ أراه واجباً عليّ ؟
كيف أصِل ُإلى القبريْن الذَّيْن ضمّا أحبَّ اثنين إليّ : أمّي وأبي، وبيني وبينهما ما بين مكّة والشّام!
وكيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة (آخن) في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها ؟؟
ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكْزِنَ في قائمة مَنْ أزور أجداثَهم: بِنْتي!!
ويا ليتني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكون أنا المقتولَ دونها؟
وهل في الدّنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بِنْتَه ؟ إذن لـمُتُّ مرّة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً !
بينما أنا أموت الآن كل يوم مرّة أو مرّتين، أموت كلّما خطرَتْ ذكراها على قلبي! »
ثم قال عصام العطار عن الشيخ الطنطاوي : ( وفي أيّامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركّزة بين الحضور والغياب، كان يُحِسّ مَن يحفُّون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّصِ إخوانه، أنه يفتقد بينهم شخصًا لا يراه ؟
ويُرمز إليهم رمزًا واضحاً إلى بنان، ولا يُسعِفُه اللسان، وارتفعت يدُه لتعانق حفيده «أيمن» ابن بِنْتَه الشهيدة - وقد حضر إليه من ألمانيا - عندما رآه.
ثمّ سقطت اليد الواهنة على السرير، وافْترَّتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة سعيدةٍ حلوةٍ، امتزج فيها الحزن والسرور والشكوى، ونطقت عيناه وأسارير وجهه بما لا يُوصف من الحنان والشكر والأسى، مما لا يعبّر عنه – كما قالوا – قلمٌ ولا لغةٌ ولا كلام ... ) .
قلت أنا أبو المظفر السناري كاتب هذا المقال :
كلما قرأت هذا الحديث للشيخ الطنطاوي عن ابنته «بنان» أشعر أن الأرض لا تحملني !
وأكاد أُحْصَر عن الكلام وينعقد لساني !
وتعتريني قشعريرة يهتزُّ لها كياني ! وينكسر لأجلها أعلام جسماني !
وأحسُّ أن كبدي كأنه يتقطَّع ، وأن نِيَاط قلبي كأنها تتمزَّع !
وأن الوجود قد صغر في عيني حتى لا أكاد أرى أحدًا !
وتهون الدنيا في نفسي حتى لا أجد للذيذها حلاوة ! ولا لجميلها طلاوة !
ولقد تذكَّرت هذا الحديث – قبل يومين – عند غروب الشمس في ساعة الإفطار، وقد حضر الطعام والشراب ، فوالله ما استطعتُ أن أستسيغ لقمة واحدة!
وكأن لا أرى أمامي إلا ظلامًا دامسًا، وقبرًا رامِسًا !
وقد فاضت الدموع كأنها الغيث المِدْرار ! وقمتُ عن الطعام وليس في جوفي غير الأسى والمرار!
وما أرى هذا : إلا رحمة يقذف بها الله في قلب من يشاء من عباده.
وقد قال عصام العطار يرثي زوجته :
بنان ياجبهةَ الإسلام دامية * * * مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍ
بنان يا صورة الإخلاص رائعةً * * * ويا منال الفِدَى والنُّبْل والكَرَمِ
عِشْنا شريدَيْن عن أهلٍ وعن وطنٍ * * * ملاحماً من صراع النور والقِيَمِ
الكيد يرصدنا في كل مُنْعطَفٍ * * * والموت يرقبنا في كل مُقْتحمِ
والجرح في الصدر من أعدائنا نَفِذٌ * * * والجرح في الظهر من صُدْقاننا العَدمُ .
* * * * * * * *
وهذه هي صورة المجاهدة الصابرة بنان الطنطاوي :
وكأني لو مُدَّتْ الأنفاس بالمجاهدة « بنان» دقائق معدودات - بعد رميها بالرصاص - لكان لسان حالها يقول لأبيها – بعدما علمتْ بحزنه عليها ، ومرضه لغيابها - :
ما ساءني ألمي .. ولكن ساءني *** زفراتُ حُزْنك في الهواء تطيرُ
بالله مهلا .. ما لِقَلْبي أن يرى *** منك المدامعَ في العيون تثورُ
إني أرى دون السحاب بشائراً *** قد أقبلتْ بين الغمام تسيرُ
تلك الملائكُ لا تَسَلْ عن حُسْنها *** جاءتْ ركائبُها بها والحورُ
فكأنهم لِزِفاف روحي قد أتوا *** والحور فوقي كالبدور تدورُ
معهم لِتجْهيزي : ثيابٌ سندسٌ *** ولِغسْلِ دمعي : عنْبرٌ وكفورُ
أبتاه لا تغْفلْ زيارةَ مرقدي *** يوماً لئلاَّ يجزعَ المقبورُ
فأنا الوحيدة رَهْنَ قبرٍ مظلمٍ *** أمسيتُ فيه .. وخاطري مقهورُ
أبتاه قد حلَّ الفراق فليْتنا *** وَافىََ بنا قبل الرحيل : نذيرُ !
*******
وكأني أرى لسان حال أبيها يرد على ابنته ويقول :
فأجبْتُها والدمع يَحْرقُ مُقْلتي *** والقلب ينزفُ والمصاب كبيرُ
بِنْتاه ياروحي ومُقْلةَ ناظري *** وجمالَ نفْسي إنْ عَراهُ فُتورُ
يا بسْمةً كانتْ على الثَّغْر الذي *** ما إنْ بدا فاحتْ هناك عُطورُ
قد كنتِ لي نور الحياة وشمسها *** فغدوتُ أعمى في الظلام يسيرُ
ضحكاتُ فرحُكِ لا تزال تهزُّني *** وتُطيلُ أنَّاتِ الْجَوَىَ وتُثِيرُ
دقَّاتُ قلبُكِ في الفؤاد طوارقٌ *** يصْدعْنَ نفسي والإلهُ خبيرُ
تلك المحاسن في التراب تغيَّبتْ *** وجمالها في قبرها مَدْثورُ
بنتاهُ قد عظم المصاب وإنني *** أبداً على العهد القديم أسيرُ
كأسُ المنيَّةِ قد أصابكِ بغْتةً *** فَشَرَبْتِ ماء الموتِ وهومريرُ
قد كان لا يحلو غيابُكٍ ساعةً *** كيف التَسَلِّي والغيابُ دهورُ
ياليتني قد كنتُ قبلكِ ثاوياً *** حُفَرَ الترابِ فَيَشْتفي المصْدُورُ
ما طاب عيشي في الحياة حبيبتي *** مُذْ غاب بدرُ جمالكِ المستورُ
كبدي يسيل مرارة أبداً وإنْ *** مرَّتْ عليَّ صوارفٌ وعُصورُ
إنْ قيل صبراً .. قلتُ قد غربتْ له *** شمسي وغاب ضياؤها والنورُ
أو قيل رفْقاً .. قلتُ كيف وهذه *** أمواتُ فرْحِي ما لهنَّ نشورُ
فإلى اللِّقاء حبيبتي في عالمٍ *** ما فيه حُزْنٌ بل هناك سرورُ
في جنَّةٍ فيها الأحبَّةُ تلْتقي *** والرَّبُّ راضٍ .. والشَّرابُ طَهُورُ .
*************
خاتمة المقال
تابع البقية ....