قطاع المصارف والخدمات المالية:
يتركز الاهتمام في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها الاقتصادات والأسواق المالية حول العالم على المفاصل الأكثر أهمية، يأتي في مقدمتها القطاع البنكي؛ لكونه الخط الفاصل الذي يكشف عن حقيقة الاستقرار الاقتصادي والمالي في أي اقتصاد من عدمه. لهذا أفرد لقطاع المصارف والخدمات المالية مقطعاً خاصاً يجدر قراءته بحرصٍ وعناية بالغين. لقد أظهرتْ البيانات المالية الأخيرة للقطاع عدداً من المؤشرات الهامّة التي عكست في مجملها استقراراً مغلفاً بالحذر وأخذ أعلى درجات الحيطة من قبل إدارات البنوك المحلية مدعومةً بقوةٍ كاملة من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي، بما يعني قوله: إن القطاع البنكي السعودي استوعب تبعات الأزمة المالية العالمية بكل اقتدار، أدّى تحققه إلى إضفاء المزيد من الثقة على بقية قطاعات الاقتصاد والسوق المالية، أؤكد ذلك على الرغم من بعض المآخذ التي أوخذت على البنوك السعودية تجاه التوقف على منح المزيد من الائتمان المحلي، الذي يقف تقريباً عند نفس مستوياته في بداية العام الجاري، والتي في اعتقادي أنها جاءت استجابةً إلى خوفٍ قصير الأجل من عدم القدرة على السداد في ظل اقتصادات تعيش تحت مظلة عدم الاستقرار، ولنا أن نتصور تبعات الإفراط في منح الائتمان غير المدروس للعواقب والمخاطر القائمة، وما كان سينعكس به من آثارٍ سلبية على الاقتصاد والسوق إن انكشفت أحد مراكز البنوك المحلية؟!
نعم، انكشف لنا أجزاء كبيرة الاختلال في القطاع البنكي سواءً عبر ارتفاع تركزه، أو عبر ارتفاع تركز قروضه للقطاع الخاص، وهذه ليست وليدة الأزمة بقدرِ ما أن الأزمة قامت بالكشف عنها وهي (أي ارتفاع تركز الإقراض لأسماء وشركات محدودة) التي حان الوقت لمعالجتها بصورةٍ عامّة من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي. (من رأى مصيبة غيره هانت مصيبته) هذا بالضبط ما تنطوي عليه أوضاع بنوكنا المحلية، ففي الخارج شهدنا بأم أعيننا ما أدّت إليه انهيارات البنوك التجارية في تلك الاقتصادات، (رب ضارةٍ نافعة) إنها الفرصة الآن بيد مؤسسة النقد العربي السعودي لمعالجة أي تشوهات قد تكون قائمة في القطاع الأكثر أهمية لأي اقتصاد، وذلك عبر توسيع دائرة التراخيص للمزيد من البنوك التجارية المتنوعة الأنشطة، ووفقاً لاحتياجات المناطق الإقليمية الشاسعة الأطراف عبر البلاد، وأن تقنن بصورةٍ أكثر صرامة القروض الممنوحة للشركات لا حسب أسماء ملاكها، بل حسب ملاءتها المالية وقدرتها بالتالي على السداد، أسوةً بما فعلته في نهاية عام 2005م حينما قننت بصرامة ضوابط القروض الاستهلاكية الممنوحة للأفراد.
أن يتحقق الإصلاح والضبط والتقنين حتى ولو جاء متأخراً خيرٌ ألف مرّة من ألا يأتي، هذه المسؤولية التي تقع على عاتق مؤسسة النقد العربي السعودي في الوقت الراهن، ولا أرى هذه القضية خارجة عن أولى الأولويات بالنسبة لمؤسسة النقد في الوقت الراهن ومستقبلاً. وجوه التقلبات الاقتصادية وأزماتها لن تقف على الإطلاق هنا عند حدود الأزمة المالية العالمية، فما هو قادمٌ من الزمن كما أنه يحتمل الفرص والنمو والدورات الاقتصادية الفائرة لأعلى، فهو أيضاً يحتمل حدوث كوارث اقتصادية ومالية قد تفوق في قسوتها ما تفضلت به الأزمة الراهنة من مآس على العالم من شرقه إلى غربه.
لعل من أهم الإيجابيات التي يجب الإشارة إليها في مؤشرات القطاع البنكي السعودي، أنه استطاع أن يحافظ على مستويات ربحيته القياسية، فرغم تراجع صافي أرباحه مقارنةً بالربع السابق من العام الجاري بنحو -6 في المائة، إلا أنه تمكن من تجاوز مستوياتها المتحققة قبل عامٍ مضى بأكثر من 2.2 في المائة، ليصل صافي قيمتها خلال الإثنا عشر شهراً الماضية إلى أكثر من 23.8 مليار ريال، انعكست بالزيادة الجيدة على حقوق المساهمين في القطاع إلى نحو 157.7 مليار ريال. كما وجدنا ارتفاعاً ملموساً في موجودات القطاع البنكي وصل بها إلى نحو 1.1 تريليون ريال، وهذا يعطي لنا إشارة إيجابية أن موجودات البنوك لم تتعرض لتأثيرات سلبية قوية من قبل الأزمة المالية، كما شهدناه في الكثير من القطاعات البنكية حول العالم التي شهدت تآكلاً كبيراً في موجودات بنوكها وصل إلى افلاساتٍ تاريخية لبنوك عتيدة تجاوز عمرها القرنين، ويجب الإشارة هنا إلى الدور الكبير الذي لعبته مؤسسة النقد العربي السعودي في دعم البنوك المحلية بصورةٍ غير مسبوقة، اتضحت تلك العمليات من الدعم والمساندة بجلاء في بيانات أربعة بنوك (الرياض، الجزيرة، سامبا، البلاد)، وذلك من خلال زيادة إيداعات الودائع الحكومية في تلك البنوك. كما استطاعت البنوك التجارية السعودية تحقيق قيم مضافة على مستوى كل من إجمالي أرباح عملياتها البنكية في المقارنة السنوية بنحو 17 في المائة، وخلال التسعة أشهر السابقة بالمقارنة مع مثيلتها من العام المنصرم بنحو 5.5 في المائة، وذات الأمر تحقق في جانب صافي دخل العمولات الخاصة التي نمت خلال السنة بنحو 8.6 في المائة، وخلال التسعة أشهر السابقة بالمقارنة مع مثيلتها من العام المنصرم بنحو 8.2 في المائة.
أخيراً، لا يحمل هذا التقرير أي توصية بالشراء أو البيع، على أن الهدف الرئيس منه هو وضع الصورة الحقيقية للسوق المالية ونتائجها المالية للربع الأخير أمام القارئ الكريم.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
