المدينة : الاثنين 1430/11/14 هـ العدد : 16994
عذابات المعلمين
عبدالعزيز السليم
لم أر في تاريخ التعليم السعودي وضعا انحدر بالمعلم إلى هذا الحضيض من الهوان النفسي والاجتماعي والبدني . ويكلل ذلك التوجه الصحفي العام الذي قام بتنميط المعلم بالشخصية المتخلفة الجشعة التي تقبض نهاية الشهر مهملة أبناء البلاد والعباد لتتلقفهم أذرعة التأثير الأخرى إن لم يكن – المعلم – نفسه سببا في تشكيل عقل هذا الجيل بهذه الصورة المشوهة التي تطالعنا في شوارع المملكة قاطبة . بيد أن المعلم الضعيف تقبل تلك الفكرة وصدقها ، ثم ألقت به رياح الوظيفة نحو الزوايا المظلمة عن وظيفة التعليم بالتحايل والهروب من الأبواب الخلفية بحجة التطوير وتحسين الأداء والتقدم وهو في الحقيقة لايعدو محاولة مستميتة في النجاة من لهيب النار وسط غابات الطلبة المقلقة ، ومفاجآت الجانحين ممن تتلقفهم المدارس عن الشوارع والموبقات .لايعلم من هو خارج دائرة التعليم عن الصراع الدائر في الأوساط التعليمية للهروب من العمل وسط أكوام الطلبة ، وهو الوسط الذي بلغ هذا الوضع المقزز من التراجع الأخلاقي مالم نبلغه في أي جيل من الأجيال ، فأصبح هم المعلم الانتقال إلى الإرشاد أو وكالة المدرسة أو إدارتها أو الإشراف التربوي أو مصادر التعلم ، أو أي من الوظائف الإدارية التي تقتلعه من هموم الصف الذي جلب له الأمراض النفسية والعصبية .طبعا ليست المدارس واحدة وتعليم الإبتدائي غيره في المتوسطة والثانوي ، والتعليم في القرى غيره في المدن ، والتعليم في أطراف مملكتنا غيره في مناطق أخرى ، فالمسألة نسبية لكن الجوهر واحد وهو المعلم المعني الأصل في العملية التربوية الذي لم يصل للتكريم اللائق به – على الأقل – لإخراج جيل نقي من العقد والرواسب التي تشربها من حياة سابقة ولاحقة وهموم وقناعات يستوحيها غيره بالاحتكاك المباشر كالانفلونزا المعدية لاعن طريق التلقين الببغاوي ّ.وهانحن تطالعنا الصحف بأخبار عن « ضرب المعلم « و « الاعتداء « وهي الأخبار العادية التي قوبلت بالتأمين عليها كون المعلم يحظى بالعائد المادي والإجازة الممتدة والجزاء بحجم العطاء ، بل أزيد أن الوضع المأساوي الذي يعامل به المعلم في محيط المدرسة هو الأشد والأنكى فقد غذى الإعلام عقول الطلبة بالصورة النمطية الكاريكاتورية عن المعلم وصارت وظيفته مجرد روتين ممل لا أكثر من الرغبة فيه من الخروج بالإياب دون تحرشات مهينة أو استخفاف بشخصه أو بقناعة تامة بعدم فاعلية دوره كون المعلم الأول خارج أسوار المدرسة . ولهذا فالوزارة تتحمل جزءاً كبيراً في إعادة القيمة الاعتبارية للمعلم وإزجاء التقدير اللازم بما يستحقه من تطوير وجزاء كونه عصب التعليم والمؤثر الأول ، ومن هنا مفارقة عجيبة تطالعنا بها الوزارة بين الفينة والفينة عن تقدير لمنسوبيها من المشرفين الجشعين الذي لايدعون الفرصة تفلت من أيديهم في دورة تزيحهم عن هم ثقيل وتدر عليه الربح المادي بالعلاوات أو فرصة للسياحة بالإيفاد أو مواصلة الدراسة ، بينما المعلم لايستطيع إلا بما يلقى عليه من فتات الفرص أو بالوساطة أو القتال المستميت لانتزاع فرصته من براثن المتنفذين في إدارات التعليم .وقد يقول متحذلق : وماالذي يمنعك ؟ أقول : السياجات الوهمية والحواجز غير المحسوسة من التخذيل والتيئيس ! بل الأغرب أن الوزارة اتخذت قرار مواصلة الدراسة للمشرفين التربويين دون المعلمين وهذا القرار مجحف بحق المعلم الدينمو الحقيقي الذي يعمل بغض النظر عن كفاءته فهو الأحق والأجدر والأقدر على الفاعلية والاستفادة من عوائد دراسته ودوراته.وقد يعود هذا المتحذلق ليقول : وماالذي يمنعه من الدورات وصقل تخصصه؟
أقول : تلك دورات « مجانية « وبريستيج يقوم بها معلمون آخرون غير متخصصين ولاتخرج دوراتهم عن النصائح والمواعظ ، فأين الدورات الفصلية في المعاهد المتخصصة من أساتذة متخصصين ، وأين التشجيع الذي يتغلغل داخل كهف المعلم المنسي فينتشله من دهاليز المدارس الأهلية والغرف الرطبة في المباني غير الحكومية ..
إن الوزارة وليست الصحف ، والوزارة وليس الناس ، والوزارة وليس الطالب ، والوزارة وليست المناهج .. الوزارة هي المسؤول الأول الذي يتحمل تبعة اهتزاز المعلم والوصول به إلى هذا المستوى من التهميش والامتهان ..
وللحديث بقية في مقالات قادمة بإذن الله ..
ودمتم بخير وحب وأمل .