الجمعة, 16 أكتوبر 2009
د.عائض القرني
حق على كل من يحترم عقله من المنتسبين إلى الشريعة، والمنتمين إلى الملة أن يهتموا بالنص الشرعي من الكتاب والسنة أكثر من اهتمامهم بالشروح والتعليقات والحواشي والردود، والتي زادها الناس على النص، فالنص وحده هو الذي يقذف الله به نور الإيمان في القلب، وبركة الفهم في الذهن، وضياء الحكمة في البصيرة، والنص وحده هو المقصود بالتفهم والتدبر والدراسة.
وما أُشبِّهُ الذين لووا أعناق النصوص عن مقاصدها بكلامهم وشروحهم إلا كمن أخرج درة نفيسة من عمق البحر ثم أكثر من لمسها وتقليبها حتى أذهب بريقها، وأخفى لموعها.
إن أصفى شيء من النهر ما أخذ من عند مصبه مباشرة، وكذلك النص أنفع شيء فيه قراءته هو قرآناً وسنة مباشرة، والمران على تفهمه وتدبّره (أفلا يتدبرون القرآن) وإن أعذب شيء من الغيث ما كان منه قبل وصوله الأرض، واختلاطه بالتراب، وكذلك النص الشرعي آية وحديثاً أعذب شيء منه ما أخذت البصيرة منه بلا واسطة من شارح ومعلق ومذيل، وإن ما تراه من أكوام هائلة من الشروح إنما طرأت في عصور الوهن، وشحوب القرائح، وجمود الأذهان، وركود الخواطر، وفتور الهمم، وسقوط العزائم، وإلا فإن عصر الصحابة لم يكن إلا عصر نص يفهم على سياق اللغة، ويؤخذ على ظاهر الخطاب، فهل كان عند الصحابة هذه التفاسير التي بلغت المئآت؟! وشروح الأحاديث التي فاقت الحصر؟ مع مصنفات في الوسائل من أصول فقه، وعلوم قرآن، ومصطلح حديث، ولو كانت هذه لدى الصحابة لصرفتهم عن متعة العيش مع النصوص المباركة من الآيات والأحاديث ولسلبت عليهم شطراً من أذهانهم في الوقوف على كلام الناس، وتعليق الناس، وشرح الناس. إن أحسن ما في حياة الصحابة هذا التفرغ الجاد للوحي، وهذا الانكباب العجيب على النص، وهذا التلهف الحار على الخطاب الشرعي مباشرة، وإن من أزكى أعمال الصحابة تنقيب بصائرهم في مناجم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة دون عائق من تقليد، أو حائل من كلام متكلف، أو صارف من شبهة ذي هوى. لقد قل كلام الصحابة فكثر علمهم، وغزر فهمهم، وعظمت معرفتهم لأنهم وقعوا على قلب الحقيقة، وأمسكوا برأس الحبل، ولزموا وسط الجادة، علموا أن القرآن بيّن واضح جلي، مشرق معجز، فوقفوا خاشعين لبلاغته وسجدت بصائرهم في محراب البيان لفصاحته، فاهتدوا بهداه، واستضاؤوا بنوره، وعلموا أن السنة كلام أفصح من تكلم، وحديث أبلغ من تحدث، فأخذوا دلالتها دون زيادة ولا نقصان، فالقرآن فصيح مشرق معجز، حتى يأتيك متحذلق متكلف ليملأ الصحف بشروحه وكلامه على القرآن، فيكاد يغطي بجلباب كلامه على نور القرآن، ليذهب بروعته وجماله وقوة أثره، وما أفصح المسلم ساكتاً في محراب التفقه في النص الشرعي يتصيد بقلبه مقاصد الخطاب، ويلقط بفهمه درر الإعجاز، لكن قوماً أهمهم الكلام والشرح والتعليق والزيادة، حتى أذهلهم هذا العناء عن روعة البيان الزاهي الخلاب للنص الشرعي.
إن غالب النصوص الشرعية تقدم نفسها للناس في يسر وسهولة وإشراق، وإن جل الكتاب والسنة خطاب مبين لا يحتاج إلى شرح من ألكن أصابه داءُ التبلد، فظن الناس مثله، وعنده مرض التخلف الذهني فحسب الناس كحاله. إن الآية معجزة مؤثرة معبرة أخّاذة نافذة، حتى يأتينا متكلم ما تدرب على فهم الإعجاز، ولا تمرن على معايشة الوحي ليخبرنا هو بمراد الآية دون أثارة من علم أو نقل عن سلف صالح.
إنني أقف مدهوشاً أمام البنيان المرصوص من هذه التفاسير فأُطالع أكثرها فلا تزيدني إلا شروداً في الذهن، وانغلاقاً في الفهم، ثم أعود إلى المصحف مباشرة فإذا المعنى المقصود يلقى في الروع من أول نظرة، وإذا الكلام يفسر نفسه في صفاء وسناء وجمال ووضوح بيان.