عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2009   رقم المشاركة : ( 9 )
اخ مشارك
عضو


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 5118
تـاريخ التسجيـل : 15-12-2009
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 17
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 10
قوة التـرشيــــح : اخ مشارك


اخ مشارك غير متواجد حالياً

افتراضي رد: بيان من أهل العلم من قبيلة غامد عن ما سطره المدعو : أحمد قاسم الغامدي

فصل




في الوقفات مع كلام الغامدي

الوقفة الأولى: من نظر إلى مبتدأ المقال وجد أنه عن فضيلة جامعة الملك عبدالله، وأهميتها في العصر الحاضر، وكانت هذه الإشادة في بضعة أسطر! ثم دخل في موضوع (الاختلاط) وكأنه أمرٌ عارض اقتضى ذكره المقام، إذ الشيء بالشيءِ يُذكر! فقال الغامدي: (بهذه المناسبة سأتطرق في حديثي هنا عن (الاختلاط).. ).
فلا يُدرى عن أصل موضوعه: أهو جامعة الملك عبدالله أم لا الاختلاط؟!
وعجباً لهذا الأمر العارض الذي استغرق حلقتين في صفحتين كاملتين، فكأنه الأصل، وأمر الجامعة هو الفرع، فيحق أن يقال: إنه أمرٌ قضي بليل! وأن منشأ الكلام كله إنما هو تقرير رأيه الفاسد في مسألة الاختلاط، والوصول إلى هذا المطلب تذرعاً بجامعة الملك عبدالله تجهيزاً لغطاء أمني وهمي! وفي إيراده مقاصد لا تخفى!
الوقفة الثانية: مسائل الدين لا تبحث في مواطن السخافة والصحافة! إلا على وجه الرد على المخالفين لدين الله تعالى، وإلا فالعلم يجل ويصان طرحه أمام النوكى والحمقى والجهال، وفي صحيفة عرفت بتوجهها المناوئ لأبسط أبسط الأخلاق الإسلامية تحت أقلام كتابها الليبراليين المنافحين عن الليبرالية بالتصريح والتلميح.
فهل تعذَّر على الغامدي أن يذكر أدلته في رسالة أو شريط كسائر مسائل الدين؟
أيبتغي العزة والشهرة بمثل هذه الصحيفة لأنها ستفرح بمقالته لموافقته لهواها؟ (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) (النساء:139) حتى صدرت صورته، وعنوان خبره على الصفحة الأولى من صفحاتها كأهم خبر، وأقوى مقال!ّ
سبحان الله العظيم.
الوقفة الثالثة: لا أحد يجحد فضيلة العلم الطبيعي، وأهميته في ريادة الأمم، وحاجة الأمة إليه، ولكن لم تكن ريادة وسيادة الأمة الإسلامية بعلم الكيمياء ولا الفيزياء ولا الرياضيات ولا غيرها من العلوم الطبيعة بل ولا الفنون الحربية، وإنما ريادة الأمة وسيادتها بدين الله تعالى، وبه العلو والرفعة وقد قال تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) ، فجعل شرط العلو والرفعة هو الإيمان بالله تعالى، وهذا العلو وصف دائم لأهل الإيمان على مستوى الفرد والمجتمع، وقد قال تعالى لموسى وهو على بلاط فرعون، والدولة دولة فرعون، وموسى فرد واحد، ليس معه إلا القليل من الناس، ومع ذلك قال الله تعالى له: (قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) (طه:68) .
فلا نأسى على قصور المسلمين في علوم الطبيعة عن غيرهم، فغيرهم أوتوا ذكاء وما أوتوا ذكاء، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأحقاف:26) .
فهذه العلوم لا رفعة ولا عزة بها بذاتها، بل هي دليل على وبال من لا يؤمن بالله وسوء حاله كما قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الرُّوم:7).
وإنما الأسى كلّ الأسى -يا فضيلة الدكتور- عندما يتخلف المسلمون عن ركب الموحدين، وجيش المجاهدين، والتمسك بالدين، ويتجهون إلى التنكب عن سبيل المؤمنين، والتشكيك في ثوابت سنة سيد المرسلين.
إنما الأسى كلّ الأسى؛ عندما نتراجع إلى الوراء، ونحكم الشرع إلى أهواء البشر، بدل أن نأطرُ أهواء البشر تحت شرع الله وأمره.
إنما الأسى كلّ الأسى؛ عندما تزعزع الثوابت بلسان النوابت، ويُعرف ما كان منكرا، ويُنكر ما كان معروفاً.
إنما الأسى كلّ الأسى؛ عندما نرى شباب المسلمين يتهافتون إلى تعظيم الغرب، والاغترار بحضارتهم الزائفة، وقد كانوا على هدى وصراط مستقيم.
وإنما الأسى كلّ الأسى؛ عندما يركن البعض للكفار يريدون منهم العزة، فأذاقهم الله (ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ) (الإسراء:75) ولم يجدوا لهم على الله نصيراً.
هذا الذي يجب أن يحرك مشاعر الصادق في إسلامه، وهذا المجد الذي تحنُّ إليه قلوب الموحدين الصادقين المجددين.
فعزة الدين، والسعي إلى تعزيزه، هو بساط المجد الذي من جلس عليه رفع الله ذكره، وأخلده بين العالمين.
فلم تذكر الأمة اليوم مسلماً كيميائيا ولا فيزيائيا ولا حسّابا كما ذكرت زهد الحسن البصري وأويس القرني، وعلم أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وإمامة ابن تيمية وابن القيم.
فهذا هو المجد الذي تتطلع قلوب الموحدين إلى تجديده، والإكثار فتح الجامعات ودور العلم لإحيائه ونشره بين المسلمين.
فإن تمّ لنا تمسكنا بدين الله تعالى، وتعظيم شرعه، والاقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن بحاجة إلى مثل جامعة الملك عبدالله في تقرير العلوم الطبيعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا الباب.
وأما قول الغامدي: (هنا نقف مع من ضاق بهم الأفق فأخرجوا من إرثنا الإسلامي هذه العلوم المادية فنقول: إن ذلك إرث أسسه علماء هذه الأمة آخذين بسنن الله الكونية التي جعلها الله تعالى موصلة لأسرار حكمته في الكون وسلما لعمارة الأرض وخدمة البشرية والدين) فلا يُدرى من يعني بهؤلاء! غير أنه لا يُعرف أحدٌ يُعتد بقوله أخرج الاهتمام بهذه العلوم من الشريعة الإسلامية، واهتمام (بعض) علماء المسلمين بها.
وقلت (البعض) لأن الأمر بها (كفائي) إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ولذلك فالقائمون بمهمة هذه العلوم الطبيعية قلة بالنسبة لعلوم الشريعة، فلا وكس ولا شطط، ولا إفراط ولا تفريط، فلا تهمل هذه العلوم، ولا يبالغ في التوجه إليها مقابل التفريط في دين الله تعالى، وتعظيم حرماته.
وأما قول الله تعالى: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11) وقد استدل به الغامدي على رفعة من تعلم العلوم الطبيعة، فإن هذا لا يدل على ذلك، مع شرف العلم في الجملة على الجهل، وإنما يدل على أن الرفعة موكولة بالإيمان بالله تعالى، فلولاه لم تكن لعلوم الدنيا بأسرها فضيلة ولا مزية على الجهل.
ومثله قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزُّمر:9) ، فقد جاء تفسير الذين يعلمون في أول الآية فقال تعالى: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزُّمر:9).
فالعالم صدقاً وعدلاً هو القائم القانت الساجد الخائف من عذاب الآخرة، وما زاد على ذلك فهو من حلية الحياة الدنيا.
الوقفة الرابعة: زعم الغامدي أن الاختلاط لفظ محدث! والحق أن الاختلاط لفظ معهود، والقول بجوازه هو القول المحدث، وإحداث الأحكام أقبح من إحداث الألفاظ، روى الخلال في كتاب السنة عن التابعي الجليل الحسن البصري أنه قال: (إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة)(3).
فالقول بالاختلاط هو البدعة في دين الله تعالى، بل في حياة البشرية! وقواعد الفطرة الإلهية، وقد جبل الخلق على التفريق بين مجالس النساء وحديثهن عن مجالس الرجال وحديثهم، والله تعالى يحكي عن صالحات نساء بني إسرائيل البعد عن مواطن تزاحم الرجال، فقال تعالى عن موسى عليه السلام: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) .
ويقول تعالى (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب:53) ، وبغية طهارة القلب فيمن هنّ أدنى من أمهات المؤمنين من سائر المسلمات أولى وأولى.
فلم تكن المرأة تزاحم الرجل في ميدان عمله، ولا تدخل في معترك أكتاف الرجال، وإنما هي في معزل عن الرجال كما سيأتي بيانه بإذن الله.
وأما لفظ (الاختلاط) فليس كما ذكر الغامدي أنه لم يرد في النصوص الشرعية، بل هو وارد كما روى البخاري وغيره عن ابن جريج أخبرنا قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال، قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حُجرة من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال، الحديث.
وروى أبو داود في "سننه" عن أبي أسيد -مالك بن ربيعة - رضي الله عنه: أنه سمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النِّساءِ في الطريق: (استَأْخِرْنَ ، فليس لَكُنَّ أن تَحقُقْنَ الطَّرِيق ، عَليكُنَّ بحافَّاتِ الطَّريق) فكانت المرأة تَلصَقُ بالجدار، حتى إِنَّ ثَوبَها ليتعلقُ بالجدارِ مِن لُصُوقِها بهِ.
وهذا الحديثان ونحوهما يقضيان بثبوت هذا اللفظ، وأنه ليس دخيلاً على الفقه الإسلامي، وأن اشتقاقه كاشتقاق غيره من الألفاظ الفقهية، وقد أوردهما الغامدي في أدلة المخالفين له! ومرّ على ذلك مروراً سريعاً، وكأنه غفل أو تغافل! والمراد بالاختلاط اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد على وجه تحصل به الفتنة، وتتحرك به الشهوة.
والشهوة تتحرك بدوام النظر، وتلاقي الأبدان، وطول المجالسة، ونحو ذلك.
والإذن باختلاط الرجال بالنساء من(المِذَاء)، وضده الغيرة، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الغيرة من الإيمان، والِمذاء(4) من النفاق) رواه البزار والبيهقي وغيرهما بإسناد فيه ضعف، وقد حسَّنه المناوي وغيره.
ونقل البيهقي في "شعب الإيمان" بعد إيراده لهذا الحديث عن الحليمي قوله في تفسيره: المذاء؛ أن يجمع الرجال و النساء ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا، وأخذ من المذي و قيل: هو إرسال الرجال مع النساء من قولهم مذيت فرس إذا أرسلتها ترعى(5).
فجعل لفظ (الاختلاط) مصطلحاً منصرفا إلى اجتماع النساء بالرجال على الصورة المذكورة يوافق نصوص الشريعة ومقاصدها، والمخالفة لهذا من (المغالطة ممن لم يميز أو ممن أراد التلبيس) فالملبس هو من خالف الأصل بغير دليل شرعي، والأصل الشرعي الفصل بين الجنسين.
وقول الغامدي: (لذلك لما ذكرت بعض الموسوعات الفقهية المعاصرة الاختلاط في قاموس ألفاظها، لم تستطع أن تشير إلى أن من معانيه اختلاط النساء بالرجال، بل ذهبت إلى معان أخرى: في الزكاة، والحيوان، والسوائل، وألمحت إلى معناه في مصطلح الحديث) قول لا قيمة له عند التحقيق، منقوض بما تقدم، وهذا العيني الحنفي يقول في كتابه "عمدة القارئ" عند شرحه لقول البخاري رحمه الله تعالى: (باب طواف النساء مع الرجال) فقال العيني: أي هذا باب في بيان حكم طواف النساء مع الرجال هل يختلطن بالرجال أو يطفن معهم على حدة من غير اختلاط بهم أو ينفردن، انتهى.
وفي "حاشية ابن عابدين"(2/233) في فقه الحنفية، في ذكر ما يكره في المقابر: والكراهة فيها من وجوه عدم اللحد ودفن الجماعة في قبر واحد بلا ضرورة واختلاط الرجال بالنساء بلا حاجز وتجصيصها والبناء عليها، انتهى.
قلت: وتأمل أن منع الاختلاط بين الجنسين حتى بعد الموت، تعظيما لجناب كلّ جنس.
وقال الشاطبي المالكي في "الاعتصام" (1 / 397) : ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن، ذكر النووي أنها من البدع القبيحة ، وأنها ضلالة فاحشة جمع فيها أنواع من القبائح . منها إضاعة المال في غير وجهه ، ومنها إظهار شعائر المجوس ، ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ، ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع، انتهى.
وهذا ابن أبي شامة الشافعي في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"(ص34) عن بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان: ويجري فيه الفسوق والعصيان واختلاط الرجال بالنساء، انتهى.
وقال(ص39) في إنكاره لاجتماع الرجال والنساء ليلة ختم القرآن: وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان من اختلاط الرجال والنساء ومضامة أجسامهم ومزاحمة في قلبه مرض من أهل الريب ومعانقة بعضهم لبعض كما حُكي لنا أن رجلا وجد يطأ امرأة وهم وقوف في زحام الناس قال وحكت لنا امرأة أن رجلا واقعها فما حال بينهما إلا الثياب وأمثال ذلك من الفسق واللغط فهذا فسق فيفسق الذي يكون سببا لاجتماعهم، انتهى.
وقال(ص94) في الكلام عن بعض البدع التي تحدث على جبل عرفات من بعض الحجاج: منها إيقاد النيران عليه ليلة عرفة واهتمامهم لذلك باستصحاب الشمع له من بلادهم واختلاط الرجال بالنساء في ذلك صعودا وهبوطا بالشموع المشتعلة الكثيرة وقد تزاحم المرأة الجميلة بيدها الشمع الموقد كاشفة عن وجهها وهي ضلالة شابهوا فيها أهل الشرك في مثل ذلك الموقف الجليل وإنما أحدثوا ذلك من قريب حين انقرض أكابر العلماء العاملين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحين تركوا سنة رسول الله، انتهى.
ومثل ما قال العيني سابقاً قال الحافظ ابن حجر الشافعي في "فتح الباري"(3/480): أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن، انتهى.
وقال الماوردي في "الحاوي"(2 / 148) في فقه الشافعية: وإن كان معه رجال ونساء، الإمام في الصلاة ثبت قليلا لينصرف النساء ، فإن انصرفن وثب لئلا يختلط الرجال بالنساء، انتهى.
وقال البجيرمي في "حاشيته على الخطيب في حل ألفاظ أبي شجاع" في فقه الشافعية في كلامه عن الحالات التي يباح فيها عدم الإجابة لوليمة العرس: المرأة إذا خافت من حضورها ريبة أو تهمة أو قالة لا تجب عليها الإجابة وإن أذن الزوج وأولى ، خصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه اختلاط الأجانب من الرجال والنساء في مثل ذلك من غير مبالاة بكشف ما هو عورة كما هو معلوم مشاهد، انتهى.
وفي "حاشية الشرواني مغني المحتاج على منهاج النووي " (1/497) في فقه الشافعية في الكلام عن الاجتماع يوم عرفة لغير الحاج، عند قول المصنف (ومن جعله بدعة لم يلحقه بفاحش البدع بل يخفف أمره) : أي إذا خلا من اختلاط الرجال بالنساء وإلا فهو من أفحشها، انتهى.
وفي "الإقناع" (1/330) في فقه الحنابلة في حقوق المسجد: ويمنع فيه اختلاط الرجال والنساء.
وفي "المغني" (1/632) لأبي محمد ابن قدامة الحنبلي في ذكر استحباب تأخر الإمام والمأموم في الانصراف من الصلاة، قال: ولأن الإخلال بذلك من أحدهما يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة"(1 / 361): وهذا كله لأن اختلاط أحد الصنفين بالآخر سبب الفتنة فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كان بمنزلة اختلاط النار والحطب، انتهى.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية الحنبلي في "الطرق الحكمية"(ص407): ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال : أصل كل بلية وشر ، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة ، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة ، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا ، وهو من أسباب الموت العام ، والطواعين المتصلة .
إلى أن قال: فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا والرعية قبل الدين لكانوا أشد شيء منعا لذلك، انتهى.
وذكر البصروي في "تاريخه" (ص 176) في أحداث عام 901هـ بشأن مسجد فتن به بعض الناس، وأفتى بعض العلماء بهدمه، فكان مما قال: ثم حضر إلى ابن خطيب المعضمية والشيخ محمد البصير إمام جامع منجك وذكر ما في هذا المكان بالبقاع من المفاسد واختلاط الرجال بالنساء في مكان ضيق بهم مسفرات عن وجوههن وقبائح أخرى كثيرة فلا قوة إلا بالله تعالى، انتهى.
فهذه بعض النقول من كتب بعض علماء المذاهب الأربعة نصوا فيها على (الاختلاط) ومرادهم (بين الرجال والنساء) فدلّ على أنه مصطلح فقهي وارد، تناقله العلماء جيلاً بعد جيل، فكيف يزعم الغامدي أنه محدث مخترع، وأنه خارج عن قواميس الفقهاء قديماً وحديثاً؟! وأن (الاختلاط بهذا المعنى المعاصر مصطلح طارئ غير معروف بذلك المعنى عند المتقدمين في مباحث الفقه).
وتأمل كيف يجزم بأن (الموسوعات الفقهية المعاصرة) لم تذكر هذا المعنى في كلمة (الاختلاط) بينما أقرب وأشهر الموسوعات "الموسوعة الكويتية" ذكرت هذا في بحث مفصل في حرف (الخاء) عند مادة (اختلاط) فليراجع (2/290).
فأين الأمانة العلمية يا دكتور؟!
الوقفة الخامسة: قال الغامدي فيما يرى أنه من المبالغة في المنع من الاختلاط: (ومثل ذلك لو بالغ الناس في التحذير من جلوس النساء والرجال ولو كان لمصلحة أو عادة، ولا خلوة ولا ريبة فيه).
فلم يقتصر على إباحة الاختلاط لـ(الحاجة والضرورة!) بل اتسعت الدائرة عنده إلى أن وصل الاختلاط مباحٌ لتحقيق (المصلحة!) والمصالح أوسع من الضروريات، بل زاد الأمر إلى توسيع الدائرة إلى (العادة).
و(الضرورات) و(المصالح) و(العادات) لا ينظر فيها إلا إذا كان الأصل خلاف ذلك، فيكون الأصل عند الغامدي هو المنع! ومع ذلك فقد زعم أن الأصل هو الاختلاط، فقال: (ولذلك كان الخلط في حكمه أكثر جناية حين قال بتحريمه قلة لم يعتبروا بالبراءة الأصلية في إباحته، ولم يتأملوا أدلة جوازه، ولم يقتفوا هدي المجتمع النبوي فيه).
والبراءة الأصلية إنما هي بما يوافق الشرع لا بما يخالفه، والأصل في الشرع المفارقة بين الجنسين، والتحذير من كلّ ما يسبب الفتنة بينهما، فلا يُخرج عنه إلا بدليل شرعي، أو ما يسوغه الأصل الشرعي.
أما (العادة) فلا يجوز أن تُخالف بها النصوص والأصول الشرعية، بل مخالفة الأصول والنصوص الشرعية بـ(العادة) من جنس دين المشركين الذين حكى الله قولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزُّخرف:23) .
أما الضرورة والمصلحة، فلو وجدت فإنها تبيح الخروج عن الأصل للأفراد في القضايا العينية لا أن يعمم حكمها للمضطر وغير المضطر، بله أن يقال بأنها الأصل في حال الجنسين!
الوقفة السادسة: قال الغامدي في جناية من جناياته: (قال بتحريمه قلة لم يعتبروا بالبراءة الأصلية في إباحته، ولم يتأملوا أدلة جوازه، ولم يقتفوا هدي المجتمع النبوي فيه).
قلت: أهل العلم قاطبة على المنع من الاختلاط، والبراءة الأصلية هي الحظر من اجتماع الجنسين، والله تعالى يقول: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (الأحزاب:33) .
وما ظنّ الغامدي فيما أورد من أدلة أنها تدل على الجواز كلها بعيدة كلّ البعد عن الدلالة على المطلوب كما سيأتي، وهدي المجتمع النبوي قضى بـ:
الفصل بين الرجال والنساء في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيرُ صفوفِ الرِّجالِ أوَّلُها ، وشرُّها آخِرُها ، وخيرُ صفُوفِ النِّساءِ آخِرُها ، وشَرُّها أوَّلُها) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وفي صحيح ابن خزيمة عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا رأى النساء قال : (أخروهن حيث جعلهن الله).
بل فصل النبي بين الرجال والنساء في الدخول في المسجد كما روى الإمام أبو داود في باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال من حديث ابن عمر رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء).
وفضل النبي صلى الله عليه وسلم صلاتها في بيتها عن الصلاة في المسجد: (صلاةُ المرأةِ في بيتها أفضلُ من صلاتها في حُجرتها، وصلاتُها في مَخْدَعِها أفضل من صلاتها في بيتها) أخرجه أبو داود.
والفصل بينهن في الجهاد، كما روى الإمام أحمد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم صف الرجال، ثم صف النساء من وراء الرجال.
والفصل بين الرجال في الطواف كما ثبت في الصحيح عن ابن جريج أخبرنا قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال، قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حُجرة من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال، الحديث.
وروى الفاكهي وغيره عن إبراهيم قال: نهى عمر رضي الله عنه أن يطوف الرجال مع النساء ، قال : فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة.
وفصل بين الجنسين في الطرقات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمشيَ الرَّجُلُ بين المرأتين) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه، وفي إسناد ضعف.
وتقدم حديث الأمر بسيرهن على جنبات الطريق، وقوله صلى الله عليه وسلم: (استَأْخِرْنَ، فليس لَكُنَّ أن تَحقُقْنَ الطَّرِيق ، عَليكُنَّ بحافَّاتِ الطَّريق).
وحذر من الدخول على النساء فقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء) متفق عليه(6).
وأخبر النبي صلى الله عليها وسلم أن المرأة إذا خرجت كانت محط نظر الشيطان، وجلب الأنظار إليها فتنة بها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) رواه الإمام الترمذي وابن خزيمة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (احبسوا النساء في البيوت، فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: انك لا تمرين بأحد إلا أعجب بك)، أخرجه ابن أبي شيبة.
وروى ابن أبي حاتم عن أم نائلة رضي الله عنها قالت: جاء أبو برزة فلم يجد أم ولده في البيت، وقالوا: ذهبت إلى المسجد، فلما جاءت صاح بها فقال: (إن الله نهى النساء أن يخرجن، وأمرهن يقرن في بيوتهن، ولا يتبعن جنازة، ولا يأتين مسجداً، ولا يشهدن جمعة).
كلّ هذه النصوص وأشباهها تدل على صورة الهدي المجتمع النبوي في معايشة الرجال للنساء، وأن الأصل الفصل بين الجنسين حسماً لمادة الشر، ودرءً للفتنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة"(1/359-361) : وقد كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه التمييز بين الرجال والنساء والمتأهلين والعزاب فكان المندوب في الصلاة أن يكون الرجال في مقدم المسجد والنساء في مؤخره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) وقال: (يا معشر النساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال رؤوسهم) من ضيق الأزر، وكان إذا سلم لبث هنيهة هو والرجال لينصرف النساء أولا، لئلا يختلط الرجال والنساء، وكذلك يوم العيد كان النساء يصلين في ناحية، فكان إذا قضى الصلاة خطب الرجال ثم ذهب فخطب النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة، كما ثبت ذلك في الصحيح، وقد كان عمر بن الخطاب -وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قد قال عن أحد أبواب المسجد -أظنه الباب الشرقي-: (لو تركنا هذا الباب للنساء) فما دخله عبد الله بن عمر حتى مات، وفي "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء: (لا تحققن الطريق وامشين في حافته) أي لا تمشين في حق الطريق -وهو وسطه-، وقال على عليه السلام: (ما يغار أحدكم أن يزاحم امرأته العلوج بمنكبها) يعني في السوق، وكذلك لما قدم المهاجرون المدينة كان العزاب ينزلون دارا معروفة لهم متميزة عن دور المتأهلين، فلا ينزل العزب بين المتأهلين، وهذا كله لأن اختلاط أحد المصنفين بالآخر سبب الفتنة فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كان بمنزلة اختلاط النار والحطب، انتهى المقصود.
الوقفة السابعة: قال الغامدي: (والحق أنه لم يكن الاختلاط من منهيات التشريع مطلقا بل كان واقعا في حياة الصحابة، ولقد استمر ذلك الحال على مر العصور حتى طرأ على ذلك الأصل ما غيره من العادات والتقاليد).
قلت: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) (الكهف:5) وأين تذهب النصوص الشرعية المتقدم ذكرها؟ وفهم علماء الأمة لها؟
وتأمل يا طالب الحق فاسد استدلاله! وكيف يستدل بما تعاقب عليه الناس على مر العصور! مع أن عمل سائر أهل العصور على مر الدهور كان على الفصل بين الجنسين، وأن الاختلاط بلية حادثة.
بل أول ما دخل النقص على الأمم السابقة كان به وبغيره، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الطرق الحكمية" (ص409): ولما اختلط البغايا بعسكر موسى وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفا والقصة مشهورة في كتب التفاسير، انتهى.
ثم تأمل كيف أوحى كلام الغامدي إلى أن (منع الاختلاط) لا يجاوز أن يكون عادة وتقليداً لمن مضى! ويرى أن هذه العادة والتقليد غيرت الأصل المزعوم! سوى ما له ارتباط بشرع الله كالطواف والسعي والصلاة لتعذر التغيير في ذلك، فقال: (حتى طرأ على ذلك الأصل ما غيره من العادات والتقاليد، وبقي منه ما لا يمكن أن تمحوه تلك العادات والتقاليد، فظل كما هو؛ لأنه ارتبط بما شرع الله امتثاله من الطاعات على النساء والرجال كالطواف والسعي والصلاة فهم يؤدونها في مكان واحد).
بل زعم أنه لا يوجد عالم من علماء المسلمين منع من (الاختلاط) وهذا زيف وكذب وزور، وينقضه كثير، ويكفينا صراحة ودلالة ما تقدم في شأن الطواف ما رواه البخاري عن ابن جريج أخبرنا قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يخالطن الرجال، قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حُجرة من الرجال، لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك، وأبت، يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال، الحديث.
وتقدمت عدة أخبار في الفصل بين الجنسين في الصلاة في دخولهن، وفي صفوفهن، وفي انصرافهن، وكذلك جاءت الأخبار بالفصل بينهن وبين الرجال في جلوسهن في مصلى العيد وغير، بل جاء تفضيل صلاتها في بيتها على الصلاة في المسجد صيانة لها.
وليكن هذا الاختلاط باقياً في هذه الحالات الثلاث لضرورة الحال، ولزوم المقام، فهل لدى الغامدي دليل واحدٌ على تزاحم و(اختلاط) جماعات الرجال بجموع (النساء) في غير الشعائر المقدسة؟!
الوقفة الثامنة: ومن فاسد استدلال الغامدي قوله: (وهكذا الحال في كثير من شؤون حياتنا اليومية، وفي واقع بيوت الكثير من المسلمين -ومنهم المانعون للاختلاط- تجدها مليئة بالخدم من النساء يقدمن الخدمة فيها وهي مليئة بالرجال الأجانب عنهن، وفي مظهر قد يكون من أشد مظاهر الاختلاط في حياتنا اليومية لا يمكن إنكاره).
وليتأمل الناقد العاقل سخف هذا الدليل، وأي دلالة فيه على المطلوب، كيف وأصل الدليل غير موافق للواقع، والقول به تحكم لا دليل عليه، فمن قال له بأن الخادمات يختلطن مع أصحاب البيوت؟
فكما ينزل على النساء ضيوف، فهي ضيفة مقيمة على نساء البيت، ولا يجوز بحال تبرجها وسفورها واختلاطها بصاحب المنزل، ولا بسائر الرجال، ومن فعل شيئاً من ذلك فلا شك أن المظنون به الاعتراف بالخطأ والتقصير، لا أن يجعله أمراً مباحاً يبيحه لنفسه ولغيره.
الوقفة التاسعة: زعم الغامدي في فحوى كلامه أن منع الاختلاط بين الرجال والنساء إنما هو من فرط الغيرة، وأن هذا لا يجوز، فقال: (ويجب على كل مسلم منصف عاقل لزوم أحكام الشرع دون زيادة أو نقص، فلا يجعل من حماسته وغيرته مبررا للتعقب على أحكام الشرع، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على سعد بن عبادة رضي الله عنه حين قال: (والله لأضربنه بالسيف غير مصفح)...).
قلت: وهذا قلب للحقائق، واستدلال بالدليل في غير محله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل غيرة سعد ولم ينكرها، وإنما عرّض بعدم الموافقة على القتل، وهذا مخالف للنص الدال على إقامة الشهداء على ذلك، ولكن هل أقر أصل الفعل المنكر من فعل الفاحشة؟
والمبالغة في العقوبة بما يخالف النص لا تقاس بالمبالغة في التحرز من الفتنة ولو لم يرد فيها النص، كيف والنص قد ورد؟!
فالأولى مذمومة، والثانية محمودة، حيث حث الشرع عليها، وذم الدياثة، والرضى بالمنكر، وقد ثبتت العديد من الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيرتهم على النساء، وحسم مادة الفتنة.
الوقفة العاشرة: ذكر الغامدي أدلته على إباحة الاختلاط! مصدراً ذلك بقاعدة كلية كاذبة خاطئة! يزعم فيها بطلان كل دليل يمنع من الاختلاط! فقال: (وليس مع المانعين دليل إلا ضعيف الإسناد، أو صحيح دلالته عليهم لا لهم) وهذا كلام مزيف مرفوض منقوض بما تقدم من أدلة وغيرها الكثير والكثير، بل قاعدته منه بدأت وإليه تعود، فهو المعنيُّ بها حتما لا محالة، كما سيتحقق ذلك قريباً، وقبل البدء في مناقشة ما أورده من أدلة أصدّر تمهيداً وطرفة!
أما التمهيد:
فالغامدي عمد إلى نصوصٍ في قضايا فردية حصلت من التقاء أحد الجنسين بالآخر، فجعله حكماً عاماً، وهذا فساد في الاستدلال، فليس الكلام عن لقاء رجل بامرأة، أو سيره في طريق وهي تسير فيه، وإنما الكلام في حث جموع الرجال والنساء على ذلك، والتزاحم في قاعات الدراسة والعمل والأسواق بهذه الحجج الممجوجة.
فالغامدي نظر إلى اجتماع الرجل بالمرأة في غير خبر، فجعل ذلك أصلاً شرعياً يعمم على جنس الرجال وجنس النساء؟ وهذا ذكرني بطرفة تاريخية! وهي:
(طـرفة)
جاء في "أخبار القضاة" لأبي بكر البغدادي المعروف بوكيع (1/394) و"تاريخ ابن عساكر" (10/22) عن المستنير بْن أخضر، عَن إياس بْن معاوية؛ قال: إسماعيل، عَن عمه إياس؛ قال: شهدت دهقاناً أتاه، فقال: يا أبا واثلة ما تقول في المسكر؟ قال: حرام؛ قال: وما حرمه؟ وإنما هو تمر، وماء، وكشوت؛ قال: فرغت يا دهقان؟ قال: نعم؛ قال: أرأيت لو أخذت كفاً من ماء فضربتك به، كان يوجعك؟ قال: لا قال: أفرأيت لو أخذت كفاً من تراب فضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: لا؛ قال: فأخذت كف تبن فضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: لا؛ قال: فأخذت التراب، ثم طرحت عليه التبن، وصببت عليه الماء، ثم كمزته كمزاً، وجعلته في الشمس، ثم ضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: نعم، ويقتلني؛ قال: فكذاك هَذَا؛ حين جمعت أخلاطه وخمر حرم.
فكذلك الغامدي جاء إلى (مفترق) نصوص تدل على الإباحة (فجمعها) فأطلق القول بالإباحة المطلقة العامة في اجتماع الرجال بالنساء! كهذا الدهقان الذي جاء إلى (مفترق) النصوص الدالة على إباحة أجزاء الخمر! (فجمعها) فاستخرج بها إباحة الخمر!
فتأمل!
وبعد هذا أورد أدلة الغامدي دليلاً دليلاً، وأقف مع كلّ دليل بما يقتضيه ليرى طالب الحق مبلغ سوء فهمه واستدلاله.

يتبع . . .
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس