عرض مشاركة واحدة
قديم 03-07-2010   رقم المشاركة : ( 24 )
المقداد
كاتب مبدع

الصورة الرمزية المقداد

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 3563
تـاريخ التسجيـل : 12-02-2009
الـــــدولـــــــــــة : ضوء الظل
المشاركـــــــات : 1,283
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 89
قوة التـرشيــــح : المقداد تميز فوق العادة


المقداد غير متواجد حالياً

افتراضي رد: الفصاحة في اللغة ..

لا أحد أكثر غروراً من غرور الأدباء، وأكبر شموخاً بمعاطسهم منهم! لكن هل لهذا الغرور ما يشفع له؟ إن كان فالأمر هيّنٌ ، ولكن العجب كل العجب إن كانت يداه من الأدب صِفراً ثم يغتر بنفسه ويشمخ في كبريائه، ويزري على الناس وهو أقل منهم بمراحل ومراحل!

دونكم أحد هؤلاء الأدباء، لكنه من القسم الأول، ألا وهو شُمَيم الحِلِّي؛ علي بن الحسين بن عنتر..

قال ياقوت الحموي :

" وكنتُ قد وردتُّ إلى آمد في شهورٍ سنة أربع وأربعين وخمسمائة، فرأيت أهلها مطبقين على وصف هذا الشيخ، فقصدت إلى مسجد الخضر ودخلتُ عليه فوجدته شيخاً كبيراً قضيف الجسم في حجرةٍ من المسجد ، وبين يديه جامدان مملوءٌ كُتباً من تصانيفه فحسب، فسلمتُ عليه وجلست بين يديه، فأقبل عليّ وقال : من أين أنت؟ قلت من بغداد. فهش بي وأقبل يُسائلني عنها وأخبره، ثم قلت له: إنما جئت لأقتبس من علوم المولى شيئاً ، فقال لي : وأي علم تحب؟ قلت له: أحب علوم الأدب.

فقال: إن تصانيفي في الأدب كثيرة، وذلك أن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم وأشعارهم وبّوبوها، وأما أنا فكل ما عندي من نتائج أفكاري، وكنت كلما رأيت الناس مجمعين على استحسان كتاب في نوعٍ من الأداب استعملت فكري وأنشأت من جنسه ما أدحض به المتقدم. فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته، وأما أنا فعملت حماسةً من أشعاري وبنات أفكاري، "ثم شنع أبا تمام وشتمه" ، ثم رأيت الناس مجمعين على تفضيل أبي نُواس في وصف الخمر، فعملتُ كتاب الخمريات من شعري ، لو عاش أبو نواس لاستحيا أن يذكر شعر نفسه لو سمعها، ورأيت الناس مجمعين على تفضيل خُطب ابن نباتة فصنفت كتاب الخخطب فليس للناس اليوم اشتغالٌ إلا بخطبي.

وجعل يُزري على المتقدمين ويصف ويجهِّل الأوائل ويخاطبهم بالكلب ، فعجبت منه وقلت له : فأنشدني شيئاً مما قلت! فابتدأ وقرأ عليّ خطبةَ كتاب الخميريات فعلق بخاطري من الخطبة قوله :" ولما رأيت الحكميّ قد أبدع ولم يدع لأحدٍ في أتباعه مَطْمعاً ، وسلك في إفشاء سر الخمرة ما سلك ، آثرت أن أجعل لها نصيبا صمن عنايتي مع ما أنني علم الله لمْ ألْمُمْ لها بلثمِ ثغرِ إثم مُذْ رضعت يدي أم" أو كما قال.

ثم أنشدني من هذا الكتاب:



امزُج بمسبوك اللجيـنِ
ذهباً حكته دموع عيني
لما دعا داعـي الفـرا
ق بين من أهوى وبيني
كانت ولم يُقدر لشـي
ءٍ قبلها إيجـاب كـونِ
وأحالها التحريـم لـمْ
مَا شُبِّهتْ بدم الحسيـن
خفقتْ لنا شمسان مـن
لألائها فـي الخافقيـنِ
وبدت لنا فـي كأسهـا
من لونها فـي حلتيـنِ
فاعجب هداك الله مـن
كونِ اتفـاق الضَّرَّتيـن
في ليلةٍ بـدأ السـرو
ر بهـا يُطالبنـا بِدَيـن
ومضى طليق الراح مَن
قد كان مغلول اليديـن
ذ زينةُ الأحياء في الـدْ
نيا وزينـة كـل زيـنِ

فاستحسنت ذلك ، فغضب وقال: ويلك ما عندك غير الاستحسان؟ قلت له: فما أصنع يا مولانا؟ فقال لي: تصنع هكذا! ثم قام يرقص ويصفِّق إلى أن تعب ثم جلس وهو يقول: ما أصنع وقد ابتليت ببهائم لا يفرّقون بين الدُّرِّ والبعر، والياقوت والحجر! فاعتذرت إليه وسألته أن ينشدني شيئاً آخر، فقال لي : قد صنفت كتاباً في التجنيس ، سميته أنيس الجليس في التجنيس ، في مدح صلاح الدين لما رأيت استحسان الناس لقول البُستي، فأنا أُنشدك منه ، ثم أنشدني لنفسه:



ليت مَن طوّل بالششام نواه وثوى بـهْ
جعل العود إل الزّوراء من بعض ثوابهْ
أتُرى يوطئني الـدهر ثرى مِسْك تُرابهْ
وأرى أي نُور عيني موطئاً لي وتُرى بهْ

ثم أنشدني لنفسه في وصف الساق:



قل لي فدتْك النفس قل ليمـاذا تريـد إذاً بقتلـي
أأدرْتَ خمراً فـي كـؤوسِك هذه أم سُـمَّ صِـلِّ

وأنشدني غير ذلك مما ضاع مني أصله ، ثم سألته عمن تقدم من العلماء ، فلم يحسن الثناء على أحدٍ منهم، فلما كرت له المعرّي نهرني وقال لي : ويلك كم تسيء الأدب بين يدي، من ذلك الكلب الأعمى حتى يُذكر بين يديّ وفي مجلسي؟ فقلت: يا مولانا ما أراك ترضى عن أحدٍ ممن تقدم!

فقال : كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني؟ قلت: فما فيهم قطُّ أحدٌ جاء بما يرضيك؟ فقال: لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نُباتة في خطبه، وابن الحريري في مقاماته فهؤلاء لم يُقصِّروا. قلت له : يا مولانا قد عجبتُ إذ لم تصنف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي : يا بني اعلم أن الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، عملتُ مقاماتٍ مرتين فلم ترضني فغسلتُها، وما أعلم أن الله خلقني إلا لأُظهر فضل ابنِ الحريري. ثم سطح في الكلام وقال :

ليس في الوجود إلا خالقان: فأحدٌ في السماء وأحدٌ في الأرض، فالذي في السماء هو الله، والذي في الأرض أنا. ثم التفتَ إليّ وقال: ها كلامٌ لا يحتمله العامة لكونهم لا يفهمونه، أنا لا أقدر على خلق شيءٍ إلا خلق الكلام فأنا أخلقه . ثم ذكر اشتقاق هذه اللفظة ، فقلت له: إيا مولانا ، أنا رجل محدِّث وإن لم تكن في المحدِّث جراءةٌ مات بغُصّته، وأُحب أن أسأل مولانا عن شيءٍ إن أذِن، فتبسم وقال : ما أراك تسأله إلا عن معضلة، هاتِ ما عندك . قلت: لِمَ سُمِّيت بالشُّميم؟ فشتمني ثم ضحك وقال: اعلم أنني بقيت مدة من عمري "ذكرها هو ونسيتها أنا" لا آكل في تلك المدة إلا الطِّيب فحسْب قصداً لتنشيف الرطوبة وحِدة الحفظ ، وكنت أبقى أياماً لا يجيئني الغائط، فإذا جاء كان شِبْه البُندُقة من الطين وكنت آخذه وأقول لمن أنبسط إليه: شُمّه فإنه لا رائحة له، فكثر ذلك حتى لُقِّبت به، أرضيتَ يا ابن الفاعلة؟.
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس