تساؤلات حول الوضع الحالي لأسواق النفط
د. أنس بن فيصل الحجي
عندما نتحدث عن العرض والطلب في أسواق النفط علينا أن نتذكر أن أسواق النفط أبعد ما تكون عن أسواق المنافسة الحرة التي تتحدث عنها كتب الاقتصاد, وذلك بسبب وجود ضرائب عالية على المشتقات النفطية في الدول المستهلكة من جهة، وقيام «أوبك» بتغيير الإنتاج بهدف استقرار الأسعار من جهة أخرى. إلا أن بعض أساسيات السوق، مثل النمو الاقتصادي ومستويات المخزون، ما زالت تلعب دورا في تحديد أسعار النفط, فارتفاع معدلات النمو الاقتصادي يرفع الطلب على النفط، وبالتالي يرفع أسعاره, كما أن انخفاض المخزون التجاري يرفع أسعار النفط، والعكس بالعكس.
المشكلة الأساسية في أسواق النفط أن هناك بعض القناعات حول العلاقة بين عديد من المتغيرات، مثل العلاقة بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي، أو مستويات المخزون وأسعار النفط، التي تكونت تاريخيا في ظل ظروف معينة، لكن بعض الخبراء والمحللين والسياسيين يعتقدون أن هذه العلاقات موجودة في كل الحالات. فمع مرور الزمن تكونت قناعة لدى كل الأطراف في أسواق النفط العالمية بوجود علاقة عكسية بين أسعار النفط ومستويات المخزون في الدول الصناعية، وبالتحديد في دول منظمة التعاون والتنمية OECD. بناء على ذلك، يرى بعضهم أن أسعار النفط الحالية، في حدود 80 دولارا للبرميل، غير منطقية ولا تعكس أساسيات السوق، وذلك لأن مستويات المخزون التجاري في دول منظمة التعاون والتنمية مرتفعة بشكل كبير، ومع ذلك فإن أسعار النفط مرتفعة. هذه الملاحظة جعلت بعضهم يعتقد أن سبب ارتفاع الأسعار إلى 80 دولارا للبرميل هو المضاربات في البوروضات العالمية على عقود النفط.
هذه المعضلة، ارتفاع المخزون والأسعار معا، تشكل تحديا، ليس لـ «أوبك» فقط، وإنما لكل المتخصصين في هذا المجال، خاصة لأن كل النظريات الاقتصادية والبيانات توضح أنه لا يمكن للمضاربين أن يحددوا اتجاه أسعار النفط على المدى الطويل، وأن أثر المضاربين يقتصر على زيادة ذبذبة أسعار النفط على المدى القصير. والأسئلة التي تتبادر إلى الذهن هي: هل القناعة التاريخية بالعلاقة العكسية بين مستويات المخزون التجاري صحيحة؟ وإذا كانت صحيحة، تحت أي شروط؟ ماذا لو كانت هذه العلاقة غير موجودة الآن؟ وماذا سيحصل في أسواق النفط العالمية إذا كانت سياسات «أوبك» الإنتاجية مبنية على هذه القناعة، في الوقت الذي لم تعد في هذه العلاقة صحيحة، أو أن شروط وجود هذه العلاقة غير موجودة في الوقت الحالي؟ بعبارة أخرى، هل تشهد أسعار النفط صعودا حاداً في المستقبل القريب بسبب إصرار «أوبك» على عدم زيادة الإنتاج بحجة ارتفاع مستويات المخزون في دول منظمة التعاون والتنمية، في الوقت الذي لم يعد لهذا المخزون أثر في أسواق النفط؟
إن القناعة التاريخية بالعلاقة العكسية بين مستويات المخزون في دول منظمة التعاون والتنمية وأسعار النفط تكونت في ظل ارتفاع مستمر في الطلب على النفط في الدول الأعضاء في المنظمة، إلا أن الطلب انخفض بشكل كبير منذ نهاية عام 2008، ويتوقع له أن يستمر في الانخفاض خلال السنوات المقبلة. فهل الزيادة المستمرة في الطلب كانت شرطا أساسيا للعلاقة العكسية بين المخزون التجاري في هذه الدول وأسعار النفط؟ هل انعدام هذا الظرف حاليا يعني أن دور هذا المخزون في تحديد أسعار النفط قد تلاشى؟
هناك اعتقاد لدى كل الخبراء بأن أغلبية الزيادة المتوقعة في الطلب على النفط في الأعوام المقبلة ستكون في الهند والصين وبعض الدول الآسيوية والشرق الأوسط، وكلها ليست عضوة في منظمة التعاون والتنمية. هل هذا يعني أن على «أوبك» والمحللين في أسواق النفط التركيز على الطلب في هذه الدول لشرح سلوك أسعار النفط بدلا من النظر إلى مستويات المخزون في دول منظمة التعاون والتنمية؟
يبدو أن الإصرار على الربط بين مستويات المخزون التجاري في دول منظمة التعاون والتنمية وأسعار النفط سيجعل «أوبك» تفقد السيطرة على أسعار النفط وذلك لأن القناعة التاريخية بالعلاقة العكسية بين المخزون والأسعار تمت في ظل زيادة مستمرة في الطلب على النفط في دول منظمة التعاون والتنمية، بينما نجد الآن أن هذا الطلب في تناقص، وأن هناك زيادة كبيرة في الطلب في دول ليست عضوة في هذه المنظمة. وربما ترتفع أسعار النفط بشكل كبير في الصيف المقبل، حتى لو قامت «أوبك» بزيادة الإنتاج، لأن زيادة الإنتاج ستخفض الطاقة الإنتاجية الفائضة التي ينظر إليها على أنها صمام الأمان في حالة انقطاع مفاجئ لإمدادات النفط.
خلاصة الأمر أنه يجب عدم التسليم بما يسمى البدهيات التاريخية في أسواق النفط, لأنها تكونت في ظل ظروف معينة، وربما تتغير هذه البدهيات بمجرد تغير الظروف. لقد كان أحد أهم الدروس التي تعلمها الخبراء من تجربة ارتفاع أسعار النفط بين عامي 2004 و2008 هو أن المسلمة التاريخية بالعلاقة العكسية بين أسعار النفط والنمو الاقتصادي في الدول المستهلكة مشكوك فيها, حيث يمكن أن ترتفع أسعار النفط دون التأثير في النمو الاقتصادي ضمن شروط معينة كالتي سادت في تلك الفترة, وهي ارتفاع الإنفاق الحكومي، وارتفاع الإنفاق العسكري وزيادة الدخول والاستهلاك، في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الدولار وأسعار الفائدة. القناعة التاريخية بعكسية العلاقة بين أسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي بنيت في فترة حصل فيها عكس ما سبق, حيث انخفض الإنفاق الحكومي في أواخر السبعينيات وانخفضت الدخول وارتفاعات معدلات البطالة وانخفض الاستهلاك وارتفعت أسعار الفائدة. لهذا فإن على المهتمين تدارك الأمر عن طريق إعادة النظر في العلاقة بين أسعار النفط ومستويات المخزون التجاري في دول منظمة التعاون والتنمية قبل أن «يضرب الفأس بالرأس»
من تجارة السوق إلى تجارة المافيا
محمد بن عبد الكريم بكر
لا بد للمرء أن يشيد بالقرار الحازم الذي صدر عن الحكومة في الآونة الأخيرة بالتصدي للمتلاعبين في سلعة الحديد من تجار وموزعين. إذ جاء ذلك القرار دعما لخطوات وزارة التجارة والصناعة في ملاحقة الانتهازيين الذين لجأوا إلى ممارسات مقيتة لا يعاقب عليها القانون فحسب، بل إن الله -سبحانه وتعالى - قد توعد أصحابها بعذاب أليم. فقد أسفرت الحملات المباغتة التي اضطلعت بها فرق التفتيش من الوزارة وأجهزة الأمن لمستودعات الحديد في مناطق عدة من المملكة عن إدانة عدد من المتلاعبين بإخفاء مخزونهم لرفع الأسعار، كما كشفت عن تورط بعض «الأسماء الكبيرة» التي لم تربأ بأنفسها عن المشاركة في حماقات ضارة باقتصاد الوطن.
وما يدحض ادعاءات أولئك المتلاعبين ما جاء في حديث لرئيس شركة سابك (أكبر منتج للحديد في السوق) نشرته جريدة «الوطن» يوم الأربعاء الموافق 15/4/1431هـ، إذ أكد أن الزيادات في الأسعار غير واقعية، ولا تتناسب مع معطيات السوق، مشيرا إلى أن الطاقة التصميمية لمصانع الحديد المحلية تبلغ 7.2 مليون طن سنويا، في الوقت الذي لا يستهلك السوق أكثر من 6.2 مليون طن سنويا. بمعنى آخر أن أزمة الحديد هي أزمة مفتعلة حيكت خيوطها من قبل من سماهم رئيس سابك «الأيدي الخفية في السوق المحلية» في غفلة من ضمائرهم، وما أكثر تلك الغفلة لدى بعض التجار.
إلى الأمس القريب كان اسم «تاجر» ينبئ عن خصال حميدة كالأمانة والمروءة وتقوى الله، ومن ثم كان التاجر يتبوأ مكانة رفيعة في المجتمع لا تقل عن مكانة العلماء مهما كان حجم تجارته، إذ كان المقياس هو حسن الخلق وشرف الكلمة. ولا شك أن خير نموذج لخلق التاجر في الإسلام هو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام كعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما- بينما اليوم أصبح اسم «تاجر»، ولا سيما إذا أضيفت إليه صفة «كبير»، من الأسماء المخجلة للبعض بسبب الأذى الذي تتعرض له السوق بين الحين والآخر على أيدي حفنة ممن يشتغلون في مهنة التجارة. لقد تكررت أزمة الحديد، ومن قبلها الأسمنت، أما أزمات المواد الغذائية والأعلاف وغيرها فقد باتت أمرا مألوفا يعانيها المواطن وتتناولها الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى كأحد أبوابها الثابتة. وليت أزمات السوق اقتصرت على تلك المرتبطة بما يحصل في الأسواق العالمية، بل لجأ بعض من التجار إلى اختلاق أزمات خاصة بنا لا مبرر لها سوى الجشع. بالطبع لم تقف الحكومة في أي وقت من الأوقات مكتوفة الأيدي أمام تلك الأزمات، سواء المفتعل منها أو غيرها، بل تصدت لكثير منها بمعالجات سريعة كمنع تصدير بعض السلع، زيادة قيمة الإعانات، تعليق الرسوم الجمركية، التدخل المباشر بزيادة المعروض عن طريق الاستيراد، ومراقبة المخزون في المستودعات. لكن تلك المعالجات، رغم وجاهتها، يبدو أنها ليست كافية لضبط السوق. وهذه ليست دعوة لمزيد من التدخل الحكومي في السوق وإرباك آلياتها على المدى الطويل، وإن كان البعض يرى حتمية ذلك إذا استمر بقاء بعض المتلاعبين فيها وسعيهم إلى السيطرة على مفاصلها. فقد حرصت المملكة منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز (رحمه الله) على مبدأ حرية التجارة ووضعت النظم واللوائح لحماية ذلك المبدأ. لذا قد ترى الجهات المختصة أن الوقت أصبح مناسبا لدراسة دقيقة تبحث عن الأسباب الخفية لأزمات السوق المتكررة وتسليط الضوء على سلوكيات وتحركات كبار المتلاعبين فيها بما في ذلك مصادر التمويل المتاحة بين أيديهم (؟؟؟).
من المؤسف أن البعض يحاول جاهدا أن يسيء إلى حركة التجارة في المملكة في أكثر من مجال تحت ذريعة حرية السوق، وكأنه مكلف بتلك الإساءة. فأزمة الحديد، التي ستنقشع قريبا بإذن الله، ليست أزمة منفردة أو منعزلة، بل هي فصل من مسرحية بدأت عروضها قبل نحو عشر سنوات ولا ندري متى سيسدل الستار عليها، وإن كان ما تم عرضه من فصول حتى الآن يشير إلى نهاية درامية.