الموضوع: كنتُ جمّالاً ..
عرض مشاركة واحدة
قديم 01-12-2011   رقم المشاركة : ( 68 )
المقداد
كاتب مبدع

الصورة الرمزية المقداد

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 3563
تـاريخ التسجيـل : 12-02-2009
الـــــدولـــــــــــة : ضوء الظل
المشاركـــــــات : 1,283
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 89
قوة التـرشيــــح : المقداد تميز فوق العادة


المقداد غير متواجد حالياً

افتراضي

جمــلي بــرك قلتـ له قـــوم يا طــــويل البـــــاع
قلي العيَا حط بي وأحس بين الضلوع أوجــــاع


وذات مساء وبعد أن هرولة شمسه موشكة على الغروب كأن في قرصها المذهب لفحات من حمم قررت أن تثور وأخرى تخبأ خلفها لجملي شعيل أمراً لا يمكن التنبوء به ولا يستطيع أحداً إدراكه ..؟؟
وكان شعيل واقفاً بالمراح المجاور للدار وقد بدا لي بائساً حزيناً عيناه زائغتان ، وجبة عشاءه المعتادة التي قدمتها له أمامه لم يثني لها عنقه ولم يتناول منها شيئاً على غير عادته وكأنه أحس بأن هناك أمراً عظيماً ينتظره ؟؟!!
وقفت أنا جواره تملّكني القلق والحيرة ولا أعرف كيف أتصرف حيال ما أراه من تصرفات غريبه لم أعتادها على بعيري..!!
يقول المقداد الأكبر: وبعد أن أسدل الظلام ستارة، أويت إلى داري وأوصدت بابي، ولم ألبث إلا قليلاً وإذا بنباح الكلب المربوط أسفل الدار (أجلكم الله) يضج نباحه العالي هدوء الدار يحاكي في الوقت نفسه نباح كلب آخر من طرف القرية , بددت أصواتها سكون القرية وكأن نباحهما هذا يوحي بمقدم شخص غريب الي الدار ,أو بمثابة فالاً سيئاً ونذير شؤم حَلًقَ بالخراب فوق مراح شعيل هذه الليلة..!!
فقمت مُتثاقلاً إلى نافذة الغرفة وفتحتها لأرقب ماذا يدور في الخارج وما الذي حدا بكلاب القرية وأخرجها عن صمتها في هذه اللحظة ؟
وبينما أنا أقف بالشباك وإذا بي أسمع طرقاً متكرراً على باب الدار منادياً بصوته العالي "يا أهل الحلة...، يا أهل الحلة..."!! وأهل الحلة تعني أهل الدارـ ولم يكن ذلك الصوت غريباً عليه بل عرفته من خلال نبرته القوية وصوته الجش ، كيف لا أعرفه؟ وهو صوت صديقي القديم ورفيق دربي وزميلي في المهنة أنه الجمّال "حسن" رحمه الله تعالى" اتجهت إلى الباب ُمباشرة وفتحته لأرى صديقي القديم "حسن" قادماً إلي وقد ترجل عن ظهر ذلك الحمار الذي بدا عليه التعب الشديد والهزال!!
استقبلته حينها بكل ودٍ وترحاب و اصطحبته إلى الدار بعد أن أوثق حماره في جذع شجرة "عنقاة"في باحة الدار" الشرعة " , وبعد أن تناول عندي ما قسمه الله تعالى لنا من رزق دعا لنا بكثرة الخير وجزل العطاء , بادرته بسؤالي: مالي أرى صاحبي قد ابدل جمله الفحل بهذا الحمار المتعب ؟؟
فأجابني والحزن والأسى يكسوان وجهه بأنه قبل أسبوع وأثناء رحلة العودة من مكة المكرمة إلى الطائف تقطعت بي السبل والأسباب ونفق بعيري بعد ان تعرض للدغة " داب " بالقرب من "حزم القميع" بطريق السيل وذلك قبل إيصال حمولته إلى الطائف!!
وأني قد أتيتك الآن ياصاحبي أود منك أن تتجمل معي وتفزع لي بجملك شعيل بضعة أيام, أود أن أستخدمه في تحميل ماتبقى لي من متاع بالطائف قاصداً ايصاله لقريتي في "نـــمــــــرة !!
تفاجأت من طلبه ...!!
وكان أهون لدي من نزع ضرسي من مكانه ! فجاش صدري كما يجيش المرجــل ,ومضى صديقي وبمعيته شعيل " وهو يرسل بحنات عذبة أتاني صوتها كالسكاكر رشت بإتقان فوق " شراغيف دهنت بسمن بري وشيء من عسل " كالتي تصنعها والدتي في مواسم الأفراح !!
مر يومان فقط وأنا منكفئ في منزل والدتي موصداً باب دارنا الصدئ ! والتي تنبعث من فتحاته الريح , مرسلة شتى أنواع الصفير خلاله ..
وفي صدر اليوم الثالث بعث الجمال حسن أحد الصبيان لداري يطلبني لأمر هام في وادي نمرة !!
تقدمت لذلك الوادي برفقة الصبي وأذا بقوم قد أحتاطوا حول بئر في منتصف الوادي , دعيت الله ساعتها أن يذلل كل عسير , فشذى إيماننا يعلو بنا دائماً على مرارة الخطوب .
وقفت بالقرب منهم أناشدهم , "الرجل سلم ..الرجل سلم ..الرجل سلم "
جاوبني أحد الواقفين لا تتفاول هذا شعيــــــــــــــل هوى فالبئـــر !! ((والحمد لله جات فالجمل ولا فالجمّال )) ... !!!
معللاً كلامه أن سقطته كانت اثر " غًرَفَةَ رديف يانعة " تعلو قُف البئر أراد تناولها في حين غفلة من الجمال حسن , واذا به يهوي من علو في جوف البئر !!
أستطرد المكلوم في جمله : بعد أن أصبحت وحيداً وغريباً إلى ما لا نهاية، وبعد أن أخذ شُعيل طريقه ومضى مأسوفاً عليه .. وبعد كل هذه التجربة المترعة بأسمى معاني الحب والوفاء المتبادل بين الجمل والجمّـال والتي احتلت حيزاً لا بأس به من حياته، لم يقتني بعد أن خاض غمارها بكل ما فيها أي بعير، لا.. بل يصد نظره عنها إذ لم تكن لديه عين تسمح له برؤية غير شعيل وقد غاب عن دنياه في صمت، وتجاويف قلبه لا تتسع لأن يتربع في أي من زواياها غير شعيل وقد رحل عنه تاركاً إياه وحيداً يكابد مرارة وحسرة فقده، لا يجد من يؤنس وحدته..
غير أن الرضا بما قسمه الخالق والتسليم يتسيدان الموقف, فقرر بعد عمق تفكير مغازلة حظه ومعاودة الكرّه مره أخرى..!!
ولكن هذه المَرّة ليست كسابقتها بل في مجال آخر، حيثُ أستقر به الرأي على إكمال مشوار حياته وذلك من خلال الاتجاه إلى نشاط ومهنة آخري ظن في نفسه بأنها لن تختلف كثيراً عن مهنة الجمّال, بل رأى أنها تأتي منسجمة وتتماشى مع مهنة الجمّال وامتدادا لها؟
ألا وهي مهنة الفلاحة والزراعة.! وقد شجعه في ذلك توفر المقومات الأساسية لهذه المهنة كونه يمتلك أرض زراعية خصبه مساحتها جيدة بها "بئر" واسع وعدة بساتين تحتوي على عدد لا بأس به من أشجار العنب والرمان والليمون، وحوطتي برشومي ,أضف إلى ذلك ما أصابها من مطر في الآونة الأخيرة ولا يزال موسم الأمطار في بدايته والخير قادم بإذن الله تعالى .
أطلق زفرة عميقة خرجت من الأعماق بددت سكون المكان ومسح من على جبينه عرقه المتصبب بطرف عمامته "الدوت" والدوت هو نوع من القماش الثقيل سكري اللون تُصنع منه العمائم في تلك الأيام ذو حجم كبير يُغطى بجزء منه هامة الرأس بشكل دائري وينسدل الجزء الآخر منه على الظهر والأكتاف يقي مرتديه حرارة الشمس" فحك جفن عينه بسبابته، ومرر بسواكه داخل فمه عدة مرات، ثم ألتقط عصاه ونهض ماسحاً ردائه من الخلف مما علق به من تراب , رافعاً رأسه إلى السماء وقال بصوت جهوري: " يا الله يا وسيع الجال " وسلك طريقه نزولاً إلى الوادي لأمر يتعلق بأحد بساتينه يخطو خطوات متأنية وهو يتمتم بينه وبين نفسه بكلمات يظن أنها كلمات تحفيزية ومشجعه وأن الركون للحزن لن يُجدي نفعاً.
ومن هذه اللحظة بدأ مرحلة جديدة من حياته عقد خلالها صداقه من نوع آخر ولكن هذه المرة كانت صداقته مع
" اللـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـومه "..

والي هنا أسدل الستار على حقبة زمنية تابعنا من خلالها مسيرة ثمانية عقود من الجهد و الكفاح ..
كما لايفوتني أن أســــدي الشكر الجزيل لكل من تابع هذه الحلقات وتفاعل بقلبه وترجم ببنانه ..
والي اللقاء ..

المقداد


آخر مواضيعي

التعديل الأخير تم بواسطة المقداد ; 01-12-2011 الساعة 11:47 PM
  رد مع اقتباس