عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 02-08-2011
الصورة الرمزية أبو خولة
 
أبو خولة
ذهبي مشارك

  أبو خولة غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 5550
تـاريخ التسجيـل : 25-02-2010
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 1,467
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 1101
قوة التـرشيــــح : أبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادةأبو خولة تميز فوق العادة
افتراضي الصحفي السعودي، نواف القديمي.. يتحدث من مصر عن مشاهداته "أيام الثورة"

الصحفي السعودي، نواف القديمي.. يتحدث من مصر عن مشاهداته "أيام الثورة" الصحفي السعودي، نواف القديمي.. يتحدث من مصر عن مشاهداته "أيام الثورة" الصحفي السعودي، نواف القديمي.. يتحدث من مصر عن مشاهداته "أيام الثورة" الصحفي السعودي، نواف القديمي.. يتحدث من مصر عن مشاهداته "أيام الثورة" الصحفي السعودي، نواف القديمي.. يتحدث من مصر عن مشاهداته "أيام الثورة"

نواف القديمي

استثناء ميدان التحرير الذي يبقى كخلية نحل حتى الصباح، تبدو بقية أحياء القاهرة في المساء وكأنها مدينة مهجورة.. فالخوف الذي أصاب الناس من الفوضى، وحظر التجوّل الذي فرضه الرئيس بصفته الحاكم العسكري، والذي بدأ في يوم الجمعة من الساعة السادسة مساءً، ثم تقدم يومي السبت والأحد ليبدأ الحظر من الرابعة عصراً، ثم تقدم مرة أخرى يوم الاثنين ليبدأ الحظر في الثالثة ظهراً.. فصار بعض الناس يخرجون في النهار لتموين البيوت وقضاء الأعمال الضرورية، كي يعود الجميع إلى المنازل قبل بدأ موعد الحظر.

وبعد أحداث يوم الجُمعة الماضية، شهِدت القاهرة حدثاً غريباً، حيث انسحب كل رجال الشرطة والمرور والدفاع المدني وبقيّة القِطاعات العسكرية التي تتبع وزارة الداخلية.. وفي نفس الوقت لم ينزل الجيش بعد.. فعمّت الفوضى في بعض المناطق.. وساد الرُعب عند السُكّان.. وبدأ بعض الأهالي بتنظيم أنفسهم لتشكيل مجموعات حِماية شعبيّة في الأحياء.. خاصة أن أحداث يوم الجمعة شهدت خروج الكثير من السجناء والمجرمين بعد هجوم الأهالي على السجون لإطلاق أبنائهم.. وتتحدث إحدى التقديرات عن أكثر من ثلاثين ألف سجين تم تهريبهم من السجون، وشارك هؤلاء في كثيرٍ من أعمال الفوضى والتخريب والسّرِقة.

واستمرت حالة غياب رجال الشرطة لعدة أيام، وحتى يوم الأربعاء لا تكاد تجد سوى أعداد قليلة جداً من رجال الشرطة بعد أن أعلنت وزارة الداخلية يوم الاثنين أنها ستُعيد نشر رجال الشرطة في العاصمة.

من جانبه فإن الجيش لم ينتشر في المدينة سوى في مناطق محدودة جداً، هي تلك التي توجد بها مرافق عسكرية وحكوميّة مُهمة.. أما بقية الأحياء الشعبية، فتتولى اللجان الشعبيّة حراستها طوال الليل.. لذا فإن سماع صوت إطلاق الرصاص ـ وبكثافة ـ صار أمراً مُعتاداً في ليالي القاهرة.

في كل ليلة، وعند قُرابة الساعة العاشرة مساء، تبدأ رحلتي للعودة على الأقدام برفقة بعض الشباب السعوديين من ميدان التحرير إلى الفُندق في الزمالك.. وهي مسافة تمتد لقُرابة الخمسة كيلومترات.. وفي طريق العودة نمرّ على أكثر من عشر نُقاط تفتيش شعبيّة يسألوننا فيها عن هويّتنا وأسباب رغبتنا بدخول الحي وموقع سكننا.. وبعد يومين، صار أفراد هذه اللجان الشعبية أشبه بالأصدقاء، حيث نكتفي بأن نلوّح لهم بالسلام أثناء مرورنا عليهم، وفي بعض الأحيان نقضي معهم بعض الوقت في الدردشة وسماع آخر النُكات التي خرجت على الرئيس.

المُلفت في هذه اللِجان ـ والظريف أيضاً ـ أن الأدوات المُستخدمة في الحِماية تتفاوت بحسب المستوى المعيشي في الحي، ففي الأحياء الشعبيّة ترى العصي الغليظة، والسيوف الكبيرة، والسكاكين، وسواها.. أما في الأحياء الغنيّة والتي تسكنها الطبقة البرجوازية، فترى مثلاً في أيدي بعض الناس مضارب بيسبول وقولف وعصي بلياردو!.. وحتى الوجوه في الأحياء الغنية تبدو مُختلفة، حيث كان أعضاء هذه اللجان غالباً من طلاّب الجامعات أو الأطبّاء والمُهندسين ورِجال الأعمال.

الظريف في الأمر أن هذه اللجان الشعبيّة كانت تفتّش ـ بل وتتعمّد التشديد في التفتيش ـ أي سيّارة شُرطة تمرُّ عليهم.. وفي أحد المرات رأينا أمامنا سيارة شرطة أوقفها شاب صغير من اللِجان الشعبيّة في الحي (عمره في حدود 16 سنة) ثم انهمك في تفتيشها، والشرطي الذي كان يقود السيارة يُخاطبه باستعطاف ويقول: ياباشا أنا شرطي، ميصحِّش تفتشني.. فيرد عليه الشاب بمكر: طيب إيه الي عرفني انك شرطي وماتكونشي سجين هارب وعاوز تعمل مشاكل.. أديني البطاقة وما تكترش الكلام.

وبعد يومٍ من اختفاء رجال الشرطة في القاهرة، وجدت رجل شرطة وحيد أمام أحد الفنادق.. قلت له مازحاً: إيه الحكاية ياعم.. انتو سبتوا البلد ليه.. فرد عليّ مبتسماً: (دي إشاعات ياباشا.. انتا لازم تطمّن.. إحنا حامين البلد كويس).. قلت له ضاحكاً: (واللهِ .. لأ دا واضح جداً).. بعد قليل اتضح أنه ليس رجال الشُرطة، وإنما مُجرد موظف أمن في الفندق.

وفي كل ليلة.. حين نصل إلى الفندق، ونتناول ما نجد من طعام قمنا بشرائه في النهار ـ لأن جميع الدكاكين تُقفِل بعد حظر التجوّل ـ ننزل أحياناً إلى اللجنة الشعبيّة القريبة من الفُندق، ونقضي معهم بعض الوقت في الدردشة وتحليل الأحداث وسماع أحدث النُكات.

وبالطبع فإن أحداث الفوضى التي حصلت لم تكن على يد المساجين الهاربين فقط، بل كانت أيضاً من بعض سكّان العشوائيات التي تُحيط بالقاهرة .. أذكر أن د.محمد سليم العوا قبل سنة تقريباً قال لي ونحن بمكتبه في إطار حديثنا عن السيناريوهات المُستقبليّة المُتوقعة في مصر: (نحن نخاف جداً من الفوضى.. فحوّل القاهرة حِزام بُؤس من العشوائيّات يسكن به قُرابة الستة ملايين إنسان.. وهؤلاء لو هجم نِصفهم على القاهرة، لجعلوها خراباً في ساعة واحدة).. وهذا بالطبع كان أكثر ما يُقلق السكّان في حال الفوضى.

* * * *

ولأننا نقضي غالب يومنا في ميدان التحرير، صرنا نلحظ بوضوح مقدار التفاوت في أعداد الحضور.. فالمتواجدون في الميدان يوم الأحد كانوا أكثر بوضوح من المُتواجدين يوم السبت، ويوم الاثنين زاد العدد بشكل ملحوظ عمّا كان عليه يوم الأحد، حيث قدّرت بعض وكالات الأنباء الأجنبية أعداد المتواجدين في الميدان بربع مليون.. وبدا واضحاً أن الأعداد تتزايد باستمرار.. وأن الإصرار يتعاظم.. وأن كل تراجع تُبدِيه الحكومة يعني مزيداً من الإصرار، وأعداد إضافية من المُشاركين.

وفي نفس الوقت بدأت الضغوط الدوليّة تتزايد.. تصريحات أمريكية وأوروبية.. ومُنظمات دوليّة لا تتوقف عن المُطالبة بالاستجابة لمطالب الشعب.. وأردوغان يُطالب مُبارك بالتنحي والاستجابة للجماهير.. والجيش المصري من جانبه أعلن أنه سيحمي التظاهرات السلميّة، وأنه يُقدِّر مطالب الشعب المشروعة (رغم أن مطلب الشعب الوحيد كان إسقاط النِظام!).. وعمرو موسى يدعوا إلى تغيير سِلمي في السُلطة.. وحتى لهجة كثير من المُحلّلين السياسيين المُوالين للسلطة بدأت تتغير باتجاه التضامن مع المطالب الشعبيّة.. بل إن شخصيات كانت حكومية حتى الصميم مثل الفنان عادل إمام اضطُر للحديث إلى قناة الجزيرة وأعلن تأييده لمطالب الشعب، وحين سأله المُقدِّم عن تصريحاته السابقة بدعم وتأييد نظام مبارك، أجاب عادل إمام بتوترٍ ظاهر أنها تصريحات مكذوبة عليه!

طِوال النهار وحتى منتصف الليل يبقى ميدان التحرير يضجُّ بالدويّ والمسِيرات والهتافات المُطالبة بخروج الرئيس وإسقاط النِظام.. وترى في ثنايا المجموعات المُحتشدة كثيراً من الشخصيّات السياسية والثقافية المعروفة.. بل إن عدداً من الفنانين المصريين المعروفين يشاركون يومياً في التظاهرات، مثل خالد الصاوي، وخالد أبو النجا، وعمرو واكد.. وكذلك المُخرج خالد يوسف الذي يقود بنفسه بعض المسيرات.. فيما يبقى المُمثّل خالد الصاوي هو الأكثر حماساً من الجميع، حيث يظلُّ طِوال اليوم محمولاً على الأكتاف أو في مُقدمة بعض الحشود، يهتف بالشعارات المُطالبة بإسقاط النظام، وآلاف المُتظاهرين يُرددون خلفه.

أيضاً لبعض الشخصيات السياسية والثقافية أدوار نشِطة في الميدان، مثل النائب الإخواني السابق محمد البلتاجي، والداعية عمرو خالد الذي حضر في أحد النهارات وألقى بعض الكلمات، والمُحلل السياسي المعروف د.عمرو حمزاوي.. وحتى د.عصام العريان الذي أُلقِي عليه القبض قبل بضعة أيام، ثم خرج مع الهاربين بعد اقتحام السجون، يقضي غالب وقته في الميدان.

من يتجوّل في أرجاء الميدان، ويُراقب التجمّعات والجماهير، ويتحدث مع بعضهم، يلحظ بوضوح أن غالب المُحتشدين هم أبناء الطبقة الوسطى بامتياز.. وأن دوافعهم للخروج ليست محصورة في العامل الاقتصادي، بل إن العامل السياسي هو الأكثر حضوراً وتأثيراً.

ويوم الأحد حضر للميدان د.محمد البرادعي الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة وأحد أكثر الشخصيات التي صارت حاضرة ـ مؤخراً ـ في المشهد السياسي المصري.. وألقى البرادعي كلمة في أحد الحشود، وأمضى بعض الوقت بين الناس، ثم غادر.. لكن لفتني أن كثيراً من المُحتشدين الذين كانوا يحيطون بالبرادعي هم من أبناء طبقة مختلفة، حيث معالِم الغِنى بدت واضحة على وجوههم وملابسهم، ونسبة الحجاب عند النساء مثلاً بدأت تقِل. ومظاهر الترف غدت أكثر وضوحاً.. بل حتى هُتافاتهم كانت وقورة وناعمة.

وفي عصر يوم الأحد حصل أمر لم يكن مُتوقعاً، وكان مؤشراً على مقدار الاستفزاز الحاصل عند السُلطة.. حيث بدأت طائرات حربيّة من طراز إف 15 وإف 16 بالتحليق بارتفاعات مُنخفضة فوق المُحتشدين في الميدان، مُحدثةً دوياً مُرتفعاً جداً، وذلك بهدف إخافة الحشود.

ورغم انزعاج البعض، وسقوط امرأة مغشياً عليها من ارتفاع الصوت، إلا أن الغالبيّة الساحقة من المُحتشدين لم ينزعجوا من ذلك، بل استغلوا هذا الأمر في السخرية من النِظام.. حيث تملك هذه الحُشُود موهبة مُبهرة في استحداث فوري لهُتافات جديدة تُلائم الحدث.. فبعد تحليق الطائرات بأصواتها المرتفعة، صارت الجُمُوع تشير بيديها إلى الطائرات وتُردد بمرح:

حسني اتجنن .. حسني اتجنن .. حسني اتجنن

وبعد تكرار تحليق الطائرات، بدأت الحشود تُردد:

اتعودنا .. اتعودنا .. اتعودنا

وبعد بعض الوقت بدؤوا يُشيرون إلى الطائرات الحربيّة ويرددون:

الجدع جدع .. والجبان جبان .. واحنا يا مُبارك حنموت بالميدان

ثم بعد قليل أعلن من يُمسك بالميكرفون خبراً مفاده أن البرازيل ألغت الاتفاقية التجارية مع مصر لاستيائها من تعامل الحكومة المصرية مع المُتظاهرين، وهنا بدأت الهتافات فوراً:

ألف تحيّة للبرازيل .. من ميدان التحرير

ولأن المصريين يملكون مهارة استثنائية في النُكتة.. لذلك لا تمرّ هكذا مناسبات دون مواقف ومشاهد ساخرة عديدة.. حتى أن المُشارك في ميدان التحرير لو قرر أن يلتقط فقط المواقف والعروض الساخرة، لأمكنه أن يخرج منها بكتابٍ كبير.

ففي أحد مداخل الميدان مثلاً، تجد مجموعة من الشباب يجلسون بقالب فني بديع، ويُغنّون بطريقة استعراضيّة مُخاطبين الجُمُوع التي تدخل:

الي يجي ميروحشِ .. علشان نِمشّي الجحش

وفي أحد أطراف الميدان ثمة سيّارة نقل محروقة بالكامل، ومملوءة بأكوام من القِمامة، ويقف على طرفها الخلفي شبابٌ قام بوضع لوحة كرتونية على الحوض الخلفي لسيارة النقل مكتوب عليها: (مقر الحزب الوطني)، ثم قام بوضع لوحة أخرى على صدره مكتوب عليها: (لا لنِظام مبارك .. انجازات مبارك: 1- فساد 2- قانون طوارئ 3- عدم تنفيذ أحكام القضاء 4- تزوير الانتخابات التشريعيّة 5- رعاية صحية وتعليم فاشل 6- غذاء مسرطن ومحسوبيّات 7- فقر).. ثم قام بتعليق لوحة ثالثة مرسوم عليها وجه كاريكاتيري لحسني مبارك، ومكتوب عليها: هارب العباسية (والعباسية هي المنطقة التي تضم مُستشفى المجانين)، وطوال ساعات يقف هذا الشاب على السيارة المُحترقة، ويهتف: هنا مقر الحزب الوطني الجديد، والحكومة في العربيّة مع الزبالة، وحسني مبارك اتجنن وبندوّر عليه!

وبالطبع لا تمضي هذه الأزمة دون تدشين عشرات النُكات والمقولات الفكاهيّة الساخرة.. فمثلاً مما يتردد في الميدان:

ـ قائد الجيش راح لحسني مبارك، وقال له: خلاص ياريّس.. انتهى كل شيء.. لازم تكتب خطاب الوداع.. هنا أجابه حسني مبارك: ألله.. هو الشعب رايح فين

ـ وزير الزراعة قال لحسني مبارك: ياريّس السُلحفات دي بتعيش 400 سنة.. فرد عليه الريّس: هاتها.. نشوف بقى هتعيش كم؟

ـ حسني مبارك اتصل على زين العابدين بن عليّ في جدة.. وقال له: لو حتنام بدري ابقى والنبي سيبلي المفتاح تحت الباب

* * * *

في الليل.. يتحوّل ميدان التحرير إلى مجموعة من اللوحات الفنيّة.. ففي الوقت الذي تبقى فيه مجموعات كبيرة تضم كل واحدة منها من بضعة مئات إلى بضعة آلاف، حيث تستمر في مسيراتها وهتافاتها السياسية المعتادة.. تتشكل في الوقت ذاته عشرات المجموعات التي تضم كل واحدة منها عشرات الشباب في كل أنحاء الميدان.. وتبدأ هذه المجموعات بإبراز المواهب الفنيّة المُختلفة عند الشباب.. فمجموعات تُردد بشكل جماعي الأغاني النِضالية لسيد إمام.. ومجموعاتٍ يردد فيها بعض الشُعراء قصائد فصحية.. وثالثة تتردد فيها القصائد المصريّة الشعبيّة.. وأخرى تضج بالأناشيد والأهازيج.. والتصفيق والتصفير يسود الجميع.. وكأننا في رحلة خَلَويّة لا حشد سياسي.

ومن المشاهد المُلفتة في الميدان حجم التكافل الاجتماعي المُبهر.. فكل حينٍ يدور بين المُحتشدين بعض الشباب الذين تطوّعوا بتوزيع بعض الأطعمة الخفيفة أو الماء.. لذلك.. وتضامناً مع هذا المشهد الجميل، قرر الشباب السعوديون وشاب كويتي الذين أترافق معهم يومياً إلى الميدان ـ وهم طلاّب جامعات ـ أن يقوموا يومياً بالاتفاق مع مطعم لتحضير 500 وجبة خفيفة لتوزيعها على المُحتشدين طوال أيام بقائهم.. وكنت أقول لهم ضاحكاً: أتمنى ألا يَعتبِر النِظام هذا الفِعل تمويلاً خارجياً للثورة

ومن المظاهر الجميلة أيضاً والتي رأيناها في ميدان التحرير، هو تطوّع العديد من الناس بحمل أكياس كبيرة وجمع القِمامة من أرجاء الميدان.. وكان واضحاً أن بعض هؤلاء هم من أبناء الذوات والمُتعلّمين، ومع ذلك لم يستنكفوا القيام بهذا العمل.. وفي الأحياء السكنيّة كان ينشط دوماً عدد من سكان الحي بمَهمّة تنظيف الطُرُقات.. وفي أحد النهارات رأيتُ في حي الزمالك ـ حيث نسكن ـ مجموعة من الفتيات من بنات الحي يرتدين أغطية للفم والأنف، وينظفن الشوارع.

* * * *

منذ أول صباح يوم الثلاثاء بدأت جُمُوع الناس تتجه بكثافة إلى ميدان التحرير تلبيةً للدعوة للمظاهرة المليونية التي نادت بها قوى المُعارضة.. من جانبها قامت الحكومة بعمل إجراءات عديدة لمنع تدفق الناس.. فقامت أولا بإيقاف كل شبكة القطارات منذ يوم الاثنين، حتى لا يتدفّق الناس من الأقاليم إلى القاهرة.. ثم قامت بعمل حواجز تفتيش أمنيّة كثيرة تتعمّد تعطيل الناس لساعات، سواءٌ في الطُرقات الخارجية، أو في الشوارع المؤدية إلى ميدان التحرير داخل القاهرة.

وتسببت هذه الإجراءات في منع عشرات الآلاف من الوصول للميدان.. لذا توقع البعض أن لا يكتظ الميدان بالحضور.. ولكن ما أن اقترب وقت الظهر، إلا وميدان التحرير مُمتلئ بالناس إلى حد الانفجار، في مشهد يُشبه زحام الحجيج المُتعجّلين في طواف الوداع.. فرغم ضخامة الميدان.. إلا أنك لا تستطيع السير بداخله بضعة أمتار سوى بمشقّة.. حتى أن أحد الشباب المُنظِّمين للتظاهرات قال ساخراً ووجهه ينضح بالفرح: إحنا صحيح قلنا عاوزين الناس تجي كتير.. بس مش للدرجة دي.. يقينا مش عارفين نمشي خطوتين.

وفي مدخل ميدان التحرير، كانت قوات الجيش تطلب من جميع الداخلين عرض هوياتهم الشخصيّة.. وكان أحد الضباط يقف على رأس الدبابة ويُردِّد: (طلعوا الهويات ياجماعة.. وممنوع دخول رجال الشرطة).. حيث كان الجيش يمنع دخول رجال الشرطة خشيةً من أي أعمال شغب أو تخريب يقومون بها.

كان ميدان التحرير يرتج بالدوي طِوال اليوم.. والأمواج البشرية التي تملؤه تهتف بأعلى صوت مُطالبة بإسقاط النظام.. وأحياناً تُردد هتافات فيها كثير من السخرية.. حيثُ خاطب المُتظاهرون الصحافة المصرية الرسمية التي شككت بقدرة المعارضة على حشد حتى عشرات الآلاف.. وقالوا:

الصحافة فييين .. المليون أهُمّ .. الصحافة فييين .. المليون أهُمّ

ثم استمروا في الهُتافات الساخرة:

عايزين حكومة حرّة .. العيشة بقت مُرّة

عايزين حكومة جديدة .. بقينا ع الحديدة

وفي وسط الميدان هناك شابٌ يحمل (كيس زبالة)، وكان يدور ويُردد وهو يجمع القِمامة من الناس: تبرّعوا للحزب الوطني .. تبرّعوا للحزب الوطني

وفي طريقنا إلى أحد أطراف الميدان، كانت هناك جُمُوع تُصلي العصر.. وهناك ممر صغير بمحاذاتهم لعبور الناس.. وإذ برجل مُسِن يسدّ هذا الممر ويصلي فيه.. الغريب أنه كان يصلي باتجاه مختلف عن اتجاه بقيّة المُصلّين!.. فقال له أحد المارّة وهو يُصلّي: ياحج انتا كدا قفّلت الطريق.. وبعدين انتا بتصلّي عكس القبلة.. فرد عليه شخص آخر كان يسير وراءه: ياعم مش مشكلة.. أهم حاجة انو بيصلي

وفي مُنتصف العصر، خرجت مع بعض الأصدقاء إلى أحد الطرق المُتفرّعة عن ميدان التحرير، وجلسنا على قهوة شعبيّة بقرب الميدان.. وإذ بجوارنا مجموعة من ثمانية أشخاص، واحد منهم مُستفرد بالكلام والبقية صامتين.. زعيم هذه المجموعة الذي كان يتحدث طِوال الوقت، استطاع وهو جالس في المقهى، وخلال ربع ساعة فقط أن يُعيِّن حكومة جديدة.. وشكّل مجلس جديد سمّاه مجلس رئاسة.. وبعدين عيّن رئيس للدولة.. ثم أعلن أول عشر قرارات ستُصدرها الحكومة الجديدة.. أولها قرار إنهاء معاهدة كامب ديفيد.. ثم قرار رفع الحد الأدنى للأجور.. وتشكيل مجالس شعبيّة.. بعد ذلك قام بوضع دستور جديد.. ولم يُبقِي شيء يُمكن للحكومة أن تفعله خلال عشرة أعوام إلا وعمله خلال الربع ساعة.. بعد قليل قال له أحد الجلوس بسخرية: ياعم انتا باقي بس تعلن الحرب

ثم ما هي إلا دقائق وإذ بالجماعة ـ بقيادة الزعيم طبعاً ـ يقومون بكتابة البيان رقم واحد.. بعد ذلك وقف الزعيم على الكرسي وبدأ يقرأ البيان على الناس.. علماً أن مجموع من كانوا في القهوة لا يتجاوز الـ 15 شخص!

وبعد أن فرغوا من هذه المهام النضالية الشّاقة.. وأنهى الزعيم قراءة البيان.. نزل من على الكرسي، وبدأ يُغني أغانٍ وطنية حماسية.. (خلي السلاح صاحي).. وصار جميع الحضور يُغنُّون معه.. وبدأ المُحيطون بالمقهى يقتربون ويُغنُّون ويصفِّقون.. واستمر الوضع على هذه الحالة قرابة النصف ساعة.. قمت خلالها بتسجيل عدد من المقاطع لهذا الاحتفال بالنصر.. ثم بعد فراغهم من الغِناء، صافح الزعيم جُمُوع المُواطنين (عندها كانوا قرابة الـ 25 شخص) وهو يقول: دي حاجة بسيطة كده.. يعني يمكن اعتبارها ترفيه للثورة.. بعدها راجعين تاني لمُبارك

وفي الطرف الآخر من المقهى كان هناك عجوزان يشربان الشاي ويتكلمان بحماس عن الثورة.. وبعد قليل جاءهم عجوز ثالث وقال لهم ضاحكاً: إيه الي مطلّعكم في وقت حظر التجوّل يابشوات؟ .. فرد عليه أحدهم: أصل انتا مش فاهم.. دا حظر تجوّل للحكومة مش للشعب.

وفي زاوية ثالثة بنفس المقهى كانت هناك امرأة كبيرة تجلس وبصحبتها طفلة صغيّرة.. الطفلة خاطبت أمها بلثغة جميلة: ياماما إحكيلي حتّوتة.. فردت عليها الأم: شوفي بابنتي.. لما الرئيس يغور ححكيلك أحلى حتّوتة

بصراحة حوت هذه الجلسة البسيطة في المقهى من الظَرَف ما لا يُمكن أن تجده في أي مسرحيّة ساخرة.

وبعد أن رجعنا إلى الميدان عقِب صلاة المغرب.. وأمضينا ساعتين بين الحشود.. عُدنا بعد ذلك في طريقنا المُعتاد إلى الفندق.. وعند وصولنا ذهبتُ إلى طاولة الاستقبال.. وطلبتُ من الموظف مفتاح غرفتي.. قلت له: غرفة 109 لو سمحت (الأرقام انجليزية).. فأعطاني مفتاح غرفة 106 .. وعندما نبّهته لخطئه.. أعطاني مفتاح غرفتي وهو يقول: والله ياباشا كل حاجة بقت ملخبطة في البلد.. حتى الستة بقت شبه التسعة اليومين دول

* * * *

طوال هذه الأيام التي قضيتها في مصر.. كنتُ بصُحبة بعض الشباب.. كان منهم سعوديين اثنين وكويتي قدموا لمصر لأول مرة.. وبسبب الظروف السياسية لم يرَ هؤلاء الشباب أياً من معالم مصر التي يزورها السُيّاح عادة.. لذلك قلتُ لهم: هذه المرة أنتم رأيتم مصر الثورة .. وفي المرة القادمة بإذن الله سترون مصر الدولة والتاريخ والثقافة.

في كل يوم أتجوّل فيه وسط الحُشُود بميدان التحرير، لا أجد شيئاً يتردد على لساني أكثر من: (رحم الله الدكتور عبدالوهاب المسيري).. فكم كنتُ أتمنى لو شَهِد هذه الأحداث.. فها هو الحُلُم الذي طالما آمن به واشتاق له يتحقق على الأرض.. وفي آخر لقاءٍ لي معه في القاهرة قبل شهرٍ ونِصف من وفاته، قُلت له وأنا أرى نشاطه المُستمِر مع قوى المُعارضة، ونزوله الدائِم في المُظاهرات رغم مرضه الشديد: يادكتور أمازلتَ تعتقدُ أن هُناك أمل؟! تخرجون في المُظاهرات ولا يخرج معكم سوى مئة شخص!.. الناس يئست من التغيير.. ولا أمل يلوح في الأفق.. عندها كان يُجيبني بثقة: صدقي أن الأمور تغيرت.. والناس صارت أكثر وعياً.. انظر ماذا فعل العُمّال في (المحلّة الكبرى)، لأول مرة يتحرّك المُحتجون بهذا العدد.. ويستمر د.المسيري بذكر شواهد عديدة على تطور الأمور.. ثم يقول: أنا مُتفائل، مُتفائل كثيراً بالتغيير!

وها هو التغيير قد بدأ بالفعل ..

يتبع>>>
توقيع » أبو خولة


(ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي
وأن أعمل صالحأً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك
وإني من المسلمين)
رد مع اقتباس