شق طريقه عبر الحي القديم متوجها ناحية سويقة والتي لا تبعد كثيرا عن القهوة، كانت الشمس على غير عادتها هذا الصباح في الطائف فهي متوارية خلف السحب والجو يميل قليلا إلى البرودة، وأرجع بذاكرته إلى الوراء قليلا وتذكر أن هذا اليوم هو بداية دخول فصل الشتاء على حسابهم، دلف إلى داخل السوق وإتجه نحو المحلات التي إعتاد الشراء منها وقابله البائعين وألقى عليهم تحيته المعهودة وبزيه الذي تعودوا عليه وأخذ يتجول بين المحلات وكانت معدودة على الأصابع. وقد لاحظ شيئا غريبا في السوق لم يعهده من قبل هو إرتفاع الأسعار الكبير على غير العادة وسأل أحد البائعين عن السبب فقرّب البائع رأسه من الوالد بعد أن إلتفت يمينا وشمالا وهمس في إذنه أن الإرتفاع بسبب الحرب وإغلاق قناة السويس وتوقّف الملاحة البحرية، فرد عليه الوالد "إيه إيه" لايريده أن يكمل.. ويبدو أن الكلام في السياسة كان محرما في ذلك الحين، فإكتفى بشراء نصف الكمية من الضروريات التي كلّف بشرائها وكأني به يقول مالا يدرك كلّه لا يترك جلّه، فبدل المتر الواحد من الفتيلة إكتفى بنصف المتر فقط وكذا القصب والحرير الإفلاطوني، غادر السوق ومر على المنشية وإشترى كيلو لحم قعود ووجده غاليا كذلك لكنه لم يسأل عن السبب! كذلك مر على محل التمور وإشترى إثنان كيلو من التمر الصفري، وعكف راجعا إلى المركاز بعد أدائه صلاة الظهر في مسجد إبن العباس رضي الله عنهما حيث لايبعد كثيرا عن القهوة وسار في الحي القديم حيث الساحات الكبيرة التي نصبت على أطرافها المراجيح الخشبية وشاهد أطفال الطائف بنين وبنات يلعبون في هذه المراجيح مستبشرين بهذه الأجواء الغائمة وكأني به يقول لم يحملوا هم المسئولية بعد كما حملناها صغارا، وسار ناحية المقهى العتيق ووجد الجميع يتناولون طعام الغداء الذي يحوي لحم حرّي وسليق طائفي بالسمن البري وشاركهم الأكل ثم طلبوا شاهي أخضر كما هي عادتهم بعد الأكلات الدسمة وتم حساب الفرقة فيما بينهم، وفي هذه الجلسة ذكر لهم أحد الحاضرين بشارة عن بدء التقديم على الضمان الإجتماعي وأنه قدّم عليه وتم قبول طلبه وذكر لهم شروط التقديم منها أن السن لا يقل عن ستين عاما كذلك لا يعمل في وظيفة وكان أغلب الموجودين تنطبق عليهم الشروط وإستبشروا خيرا غير مصدقين، ماعدا والدي حيث أن سنه لم يصل بعد الستين، وكانوا يذكرونه بأنهم قالوا له مرارا يكبّر سنّه عندما إستخرج التابعية لكنه لم يرد عليهم، وقبيل العصر إستعد السائق بتسخين السيارة إيذانا برجوع الوفد إلى ديارهم وأهاليهم محملين بالمقاضي والمئونة لمواجهة دخول فصل الشتاء القارس التي بدأت تلوح بوادره في الأفق منذ الصباح الباكر.