اعلمْ رحِِمكَ اللهُ: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هذه الثلاث مسائل والعملُ بهنَّ:
الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاًبل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾[المزمل:15-16].
الثانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18].
الثالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدليلُ قوله تعالى﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾[المجادلة:22].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه المسائل الثلاث التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى صلة لما قبلها، وتمهيد لما بعدها، فأعاد وكرر بقوله (اعلم رحمك الله)، وفي هذا ما فيه من التلطف بالمتعلمين، اعلم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل مع المسائل الأربع التي سبقت، وهذه المسائل يجب أن يتعلمها كل مسلم وكل مسلمة؛ لأن فيها بيان أصل الدين وقاعدة الدين:
· الأولى من تلكم المسائل: أن الله جل جلاله خلق الخلق لغاية، لم يخلقهم لغير غاية، لم يخلقهم سدا ولا عبثا سبحانه وتعالى عما يصفون، بل إنما خلق الخلق لغاية، قال جل وعلا ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[الملك:2]، وقال جل وعلا﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾[المؤمنون:115]، يعني لغير غاية ولغير حكمة ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[المؤمنون:115]، وأنه لن يكون بعث بعد خلقكم، وأنه لن يكون إرجاع لكم إلى من خلقكم، هذا فيه قدح، هذا الظن فيه قدح في حكمة الله جل وعلا، لذلك قال جل وعلا بعدها ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾([4]) تعالى عما يصفه به المبطلون، تعالى عما يظنه عليه الجاهلون القادحون في حكمته، فإذن الخلق مخلوقون لغاية، ما هذه الغاية؟ هي ما بينها في قوله جل وعلا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58]، الله جل وعلا ما خلق الجن والإنس إلا لغاية واحدة وهي الابتلاء؛ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾([5]) الاختبار اختبار في أي شيء ؟ في عبادته هل يعبد وحده لا شريك له أم يتخذ المخلوق هذا آلهةً أخرى مع الله جل وعلا؟ وهذه مسألة ولا شك عظيمة.
الإنسان خُلق لهذه الغاية، لكن يحتاج إلى من يُبَصِّره بهذه الغاية، ويعلّمه القصد من خلقه، ويعلمه كيف يصل إلى عبادة ربه على الوجه الذي يرضى به اللهُ جل وعلا عنه، فبعث الله جل وعلا رسلا مبشرين ومنذرين يدلون الخلق إلى وعلى خالقهم، يعرفونهم بمن يستحق العبادة وحده، ويعرفونهم بالطريق التي أذن من خلقهم أن يعبدوه بها؛ قال جل وعلا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبإ:28]، وقال جل وعلا ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾[المزمل:15]، وكل أمة قد خلا فيها نذير، كما قال جل وعلا ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر:24]، نذير ينذرهم ويبشرهم؛ يبَشِّر من أطاع وينذر من النار، ويخوف من النار ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، فثبت بهذه النصوص أن الله جل وعلا لم يترك الخلق وشأنهم بعد أن خلقهم، بل بعث لهم رسلا يعلمونهم ويهدونهم ويبصّرونهم الطريق التي يرضى الله جل وعلا بها أن يعبدوه بها دون ما سواها من الطرق الموصلة، وتلكم الطريق طريق واحدة، ليست بطرق متعددة كما قال جل وعلا ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة:6] فهو صراط واحد، وهناك صُرط أخرى، هي صُرط أهل الضلال والجهل والغِواية، والهوى أما الطريق الموصلة إلى الله جل وعلا فهو طريق المرسلين الذي جاءوا به من عند الله جل وعلا؛ وهو دين الإسلام العام، كما قال جل وعلا ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله, الرسل بينوا للناس هذه الغاية، ودلُّوهم على عبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، فقامت العداوةُ بين الرسل وبين أقوامهم في هذا الأصل؛ حيث إن الخلق يريدون أن يعبدوا الله جل وعلا بالطريقة التي يحبون لا بالطريقة التي يحبها الله جل وعلا، ولهذا قال بعض أئمة السلف «ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب»؛ ليس الشأن أن تحب الله، فإن محبة الله جل وعلا يدعيها المشركون، يدعيها الضالون، كل قوم بُعث فيهم الرسل يدعون أنهم يريدون وجه الله، يريدون ما عند الله يحبونه, ربما يتصدقون ويُصَلُّون ويدعون ويَصِلُون ويتقربون، وما فِعل أهل الجاهلية؛ جاهلية العرب مِنَّا ببعيد، لكن ليس الشأن أن يُحب المحبُّ ربَّه، ولكن الشأن أن يُحب العبدَ ربُّه؛ الشأن أن يحب الله جل وعلا العبد متى يكون ذلك؟ لابد أن يبحث العبد عن سبيل محبة الله جل وعلا له، هذا السبيلُ بيَّنه الله جل وعلا في قوله ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ زعمًا ﴿ فَاتَّبِعُونِي﴾ طاعةً ﴿يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ﴾[آل عمران:31]. فإذن سبيل محبة الله للعبد هي طاعة الرسل، واتباع الرسل وخاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ببعثته وبرسالته نُسخت جميع الرِّسالات ونسخت جميع الكتب من قبله عليه الصلاة والسلام، فبقي للناس طريق واحد يصلون به إلى ربهم جل وعلا؛ ألا وهو طريق محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هو الواسطة العملية للاتباع؛ لاتباعه للوصول إلى الله جل وعلا، فمن اتبع واهتدى بغير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الخاتم، فهو من الضالين الذين تنكبوا سبيل الحق.
هذا الأصل الأول، وهذه المسألة الأولى عظيمة جدا؛ لأنها إذا استقرت في قلب العبد قادته إلى كل خير، يعلم أنه ما خلق إلا لغاية. ما هذه الغاية؟ هي عبادة الله وحده دون ما سواه. كيف أعرف طرق هذه العبادة؟ باتباع النبي عليه الصلاة والسلام. فتلخص الدين في هذه المسألة العظيمة، وما أحسن قول شمس الدين بن القيم في نونيته بعد أبيات قال:
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان
(لواحد) لله جل وعلا وحده دون ما سواه, (كن واحدا) في قصدك وإرادتك وتوجهك وطلبك, (في واحد) في طريق واحد، قال بعدها (أعني سبيل الحق والإيمان) الذي هو سبيل النبي عليه الصلاة والسلام.
· المسألة الثانية: أن الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، بل كلٌّ عبيد لله جل وعلا. الله جل وعلا إنما يرضى التوحيد، يرضى أن يعبد وحده دون ما سواه، فمن أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فقد نقض الغاية العملية التي كُلِّف بها من خلقه ومن إيجاده؛ قال جل وعلا ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) دعاء مسألة، ودعاء عبادة مع الله أحدا.
المساجد يفعل فيها شيئان:
Û سؤال الله جل وعلا، دعاء الله جل وعلا دعاء المسألة، هذا نوع.
Û والثاني عبادة الله جل وعلا بأنواع العبادات من الصلاة؛ الفرض و النفل، ومن التلاوة، ومن الذكر، ومن التعلم والتعليم، ونحو ذلك.
قال جل وعلا ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ (الْمَسَاجِدَ) أقيمت لله جل وعلا؛ لعبادته وحده دون ما سواه، فلا تدعو دعاء مسألة أحدا غير الله، ولا تدعو دعاء عبادة أحدا غير الله، وكما أن المصلي لا يصلي إلا لله، فكذلك في المسجد وفي غيره فلا يسأل ولا يدعو إلا الله جل وعلا.
دعاء المسألة: هو الذي يسميه العامّة أو يسمِّيه الناس الدعاء، وهو المقصود به، إذا قيل دعا فلان يعني سأل به الله جل وعلا قال: اللهم اعطني، اللهم قني، اللهم اغفر لي. ونحو ذلك، هذا يسمى دعاء المسألة.
أمَّا دعاء العبادة: فهو العبادة نفسُها؛ لأن المتعبد لله جل وعلا بصلاة أو بذكر هو سائل لله جل وعلا، لأنه إنما عبد أو صلى، أو صام، أو زكى، أو ذكر، أو تلا، رغبةً في الأجر، كأنه سأل الله جل وعلا الثواب، لهذا يُقال الدعاء قسمان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، قال جل وعلا ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60]، قال في أول الآية (ادْعُونِي)، وقال في آخرها (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) فدل على أن الدعاء عبادة، أو هو العبادة، ولهذا فسر السلف قوله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الاستجابة هنا فُسِّرت بتفسيرين: (أَسْتَجِبْ) بمعنى أُعطكم ما سألتم، أو أُثِبْكُم؛ أدعوني أثبكم، إذا كانت في هذا التقسيم (أدعوني أثبكم) بهذا المعنى فيكون الدعاء هنا الدعاء بمعنى العبادة، لأنها هي التي يتعلق بها الثواب. وإذا كانت الإجابة هنا بمعنى إعطاء السُّول يكون الدعاء هنا دعاء مسألة.
وهذه المسألة مقررة تقريرا واضحا في كتب أهل العلم؛ ألا وهي أن قوله تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، أنه يشمل نوعي الدعاء؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة. وقد جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة»، وفي معناه ما جاء عن أنس مرفوعا «الدعاء مخ العبادة».
الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، قد يُتَوهَّم أن المخلوق إذا بلغ إلى غاية عظيمة أنه يمكن أن يوصل إلى الله جل وعلا باتخاذه واسطة، باتخاذه وسيلة، وأعلى المخلوقات مقاما عند الخلق الملائكة والرسل والأنبياء، لهذا نفى الشيخ رحمه الله تعالى هذين فقال: (الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل)، (لا ملك مقرب) حتى ولو كان جبريل الذي هو سيد الملائكة وأشرفهم وأعظمهم. (ولا نبي مرسل) حتى النبي عليه الصلاة والسلام. دليل ذلك ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، وجه الاستدلال أن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النفي، وقد تقرر أن النكرات إذا أتت في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام، فإنها تعُم. قال (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يدخل في (أَحَدًا) الملائكة، ويدخل فيه الأنبياء.
هذا الأصل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلمه علما يقينيا لاشك فيه ولا شبهة، بدليله وهو قوله ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، فلا يخطر على قلب المسلم أو المسلمة أنه يمكن أن يدعو غير الله، أو أن يستغيث بغير الله، أو أن يتوجه إلى غير الله، بأي نوع من أنواع العبادات، حتى ولو كان المتوجه إليه ملك مقرب، أو نبي مرسل.
ومن المتقرر أن ثمَّ فرقا بين النبي والرسول؛ فليس كل نبي رسولا، بينما كل رسول نبي، وقول الشيخ هنا (ولا نبي مرسل)؛ لأن الرسالة أرفع درجة من النبوة. والفرق بينهما أن:
النبي: هو من أوحي إليه بشرع، وأُمر بتبليغه إلى قوم موافقين له، أو لم يؤمر بالتبليغ.
والرسول: هو من أوحي إليه بشرع، أو كتاب، وأُمر بتبليغه إلى قوم مخالفين.
فإذن النبي مرسل، وقد يكون مرسلا إلى نفسه، لكنه ليس بالرسول بالمعنى الأخص.
وبهذا يتضح المقام بقوله، وذلك لقول الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾[الحج:52]، فأثبت أن الرسول مُرسل، وأن النبي أيضا يقع عليه الإرسال قال (وما أرسلنا من قبلك من رسول)، (الرسول) يقع عليه الإرسال (ولا نبي) أيضا النبي يقع عليه الإرسال، يعني يؤمر أن يبلغ ذلك لمن؟ لمن يوافقه هذا النبي، مثل أنبياء بني إسرائيل إذا مات فيهم نبي؛ خلفه نبي يبلغ من يوافقه في عقيدته، من يوافقه في إتباعه لشريعة النبي؛ الرسول الذي قبله، إذا بلَّغ موافقا، وكان هذا التبليغ مأمورا به من الله جل وعلا، ومعه شرع، أو بعض شرع، فإن هذا نبي. وقد لا يكون مأمورا بتبليغه إلى قوما موافقين، فقد يُبَلِّغ نفسَه، وعلى هذا يحمل بأحد تفاسير أو شروح العلماء، ما جاء في الحديث «أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد» قد يكون لأنه لم يُستجب له، وقد يكون بأنه إنما أُمر أو أوحي إليه لنفسه لا لغيره.
· المسألة الثالثة: أن من وحد الله وأطاع الرسول واتبع دين الإسلام لا يجوز له أن يوالي من حاد اللهَ ورسولَه, ولو كان أقرب قريب، لا يجوز له أن يوالي من حاد الله ورسوله, ولو كان ذلك أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو قريبه, وذلك لقول الله تعالى ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾[المجادلة:22]، إلى آخر الآية, وقال جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾[التوبة:23]، وقال جل وعلا ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51] لمـّا ذكر اليهود والنصارى، فأصل الدين الذي هو من معنى كلمة التوحيد الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين وللإيمان، والبراءة من المشركين والشرك، ولهذا يُعِّرف علمائنا الإسلام: بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
وها هنا تنبيه أنها في بعض نسخ كتاب الشيخ أنه عرّف الإسلام بهذا وقال في آخره (والخلوص من الشرك وأهله)، والمعروف عنه في النسخ الصحيحة التي قُرِأت على العلماء (البراءة من الشرك وأهله)؛ لأن البراءة تشمَل الخلوص وزيادة، وهي الموافقة لقول الله جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾[الزخرف:26-27].
هنا قال (لا يجوز لمن وحد الله، وأطاع الرسول، واتبع دين الإسلام، أن يوالي أحدا من المشركين). (الموالاة) معناها أن تتخذه وليا، وأصلها من الوَلاية، والوَلاية هي المحبة، قال جل وعلا ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾[الكهف:44]، يعني هنالك المحبة والمودة والنُّصرة لله الحق، فأصل الموالاة المحبة والمودة، ولهذا استدل بقوله ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ﴾[المجادلة:22]، ففسَّر الموالاة بأنها المُوادّة، وهذا معناه أن أصل الموالاة في القلب، وهو محبة الشرك أو محبة أهل الشرك والكفر. فأصل الدين أن من دخل في (لا إله إلا الله) فإنه يحب هذه الكلمة وما دلت عليه من التوحيد، ويحب أهلها، ويُبغض الشرك المناقض لهذه الكلمة، ويبغض أهله. فكلمة الولاء والبراء هي معنى الموالاة والمعاداة، وهي بمعنى الحب والبغض، فإذا قيل الولاء والبراء في الله هو بمعنى الحب والبُغض في الله، وهو بمعنى الموالاة والمعاداة في الله؛ ثلاثة بمعنىً واحد، فأصله القلب؛ محبة القلب، إذا أحبَّ القلبُ الشرك صار مواليا للشرك، إذا أحب القلبُ أهل الشرك صار مواليا لأهل الشرك، كذلك إذا أحب القلبُ الإيمان صار مواليا للإيمان، إذا أحب القلبُ اللهَ صار مواليا لله، إذا أحب القلبُ الرسول صار وليا ومواليا للرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أحب القلبُ المؤمنين صار مواليا ووليا للمؤمنين؛ قال جل وعلا ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ﴾[المائدة:55-56]، يعني من يحب وينصر اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.
الموالاة؛ موالاة المشركين والكفار محرمة وكبيرة من الكبائر، وقد تصل بصاحبها إلى الكفر والشرك، ولهذا ضبطها العلماء بأن قالوا تنقسم المولاة إلى قسمين: الأول التولِّي. والثاني المولاة. الموالاة باسمها العام تنقسم: إلى التولي وإلى موالاة.
Ûأما التولِّي فهو الذي جاء في قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51]، تولاه توليا؛ التولي معناه محبة الشرك وأهل الشرك، محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان، قاصدا ظهور الكفر على الإسلام، بهذا الضابط يتضح معنى التولي. والتولي -كما ذكرتُ لكم- تولِّي الكفار والمشركين كفر أكبر، وإذا كان من مسلم فهي ردة. ما معنى التولِّي؟ معناه محبة الشرك وأهل الشرك (لاحظ الواو)؛ يعني يحب الشرك وأهل الشرك جميعا مجتمعة، أو أن لا يحب الشرك ولكن ينصرُ المشركَ على المسلم، قاصدا ظهور الشرك على الإسلام، هذا الكفر الأكبر الذي إذا فعله مسلم صار رِدَّة في حقه والعياذ بالله.
Ûالقسم الثاني الموالاة: والموالاة المحرّمة من جنس محبة المشركين والكفار، لأجل دنياهم، أو لأجل قراباتهم، أو لنحو ذلك، وضابطه أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا، ولا يكون معها نصرة؛ لأنه إذا كان معها نصرة على مسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام صار توليا، وهو في القسم المُكَفِّر، فإن أحب المشرك والكافر لدنيا، وصار معه نوع موالاة، معه لأجل الدنيا، فهذا محرم ومعصية، وليس كفرا؛ دليل ذلك قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]، قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: أثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم باسم الإيمان اتخاذ المشركين والكفار أولياء بإلقاء المودة لهم. وذلك كما جاء في الصحيحين، وفي التفسير في قصة حاطب المعروفة حيث إنه أرسل بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه عظيمة من العظائم- للمشركين لكي يأخذوا حِذْرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كُشِفَ الأمر، قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق. قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: أتركه يا عمر، يا حاطب ما حملك على هذا؟ فدل على اعتبار القصد؛ لأنه إن كان قصد ظهور الشرك على الإسلام، وظهور المشركين على المسلمين، فهذا يكون نفاقا وكفرا، وإن كان له مقصد آخر فله حكمه. قال عليه الصلاة والسلام -مستبينا الأمر- ما حملك يا حاطب على هذا ؟ قال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة الشرك وكراهة الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله في مكة، وليس لي يدٌ أحمي بها مالي في مكة، فأردتُ أن يكون لي بذلك يد أحمي بها مالي في مكة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقكم. الله جل وعلا قال في بيان ما فعل حاطب ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[الممتحنة:1]، يعني حاطبا، ففِعْلُه ضلال. وما منع النبي عليه الصلاة والسلام من إرسال عمر أو ترك عمر إلا أن حاطبا لم يخرج من الإسلام بما فعل، ولهذا جاء في رواية أخرى قال: إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم لقد غَفَرْتُ لكم. قال العلماء: لعلمه جل وعلا بأنهم يموتون ويبقون على الإسلام. دلت هذه الآية وهي قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]، مع بيان سبب نزولها من قصة حاطب، أن إلقاء المودة للكافر لا يسلب اسم الإيمان؛ لأن الله ناداهم باسم الإيمان، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مع إثباته جل وعلا أنهم ألقَوا المودة.
ولهذا استفاد العلماء من هذه الآية، ومن آية سورة المائدة ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51]، ومن آية المجادلة التي ساقها الشيخ ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[المجادلة:22]، إلى أنَّ الموالاة تنقسم إلى تولٍّ وموالاة؛ الموالاة بالاسم العام منه تولٍ وهو المُكَفِّر بالضابط الذي ذكرتُه لك، ومنه موالاة وهو نوع مودة لأجل الدنيا ونحو ذلك.
والواجب أن يكون المؤمن محبا لله جل وعلا ولرسوله وللمؤمنين، وأن لا يكون في قلبه مودة للكفار ولو كان لأمور الدنيا، إذا عَامَلَ المشركين أو عَامَلَ الكفار في أمور الدنيا، إنما تكون معاملة ظاهرة بدون ميل القلب، ولا محبة القلب لما؟ لأن المشرك حمل قلبا في مسبَّة الله جل وعلا, لأن المشرك سابٌّ لله جل وعلا بفعله، إذ اتخذ مع الله جل وعلا إلها آخر، والمؤمن متولٍّ لله جل وعلا ولرسوله وللذين آمنوا، فلا يمكن أن يكون في قلبه مُوادَّة لمشرك حمل الشرك والعياذ بالله.
هذه الثلاث مسائل من المهمَّات العظيمات:
· الأولى: أن يعلم المرء الغاية من خلقه، وإذا علم الغاية، أن يعلم الطريق الموصلة لانفاذ هذه الغاية.
· الثانية: ليعلم أن الطريق واحدة، وأن الله جل وعلا لا يرضى الشرك به، حتى بالمقربين عنده، والذين لهم المقامات العالية عنده جل وعلا، لا يرضى أن يشرك معه أحد.
· الثالثة: أن لا يكون في قلب الموحِّد؛ الذي وحَّد الله، وأطاع الرسول، وخلص من الشرك، أن لا يكون في قلبه محبة للمشركين.
هذه الثلاث هي أصول الإسلام بأَحد الاعتبارات، أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن تحققوا بها قولا وعملا واعتقادا وانقيادا.
يتبع