بسم الله الرحمن الرحيم
من بنى سد السملقي ؟ ( الجزء الثاني )
سبق في الحلقة السابعة ذكر الأقوال في هذه المسألة , و أدلة من قال إن قبيلة ثمالة هي من بنى السد ,
و مناقشة هذه الأدلة .
و في هذه الحلقة سيتم عرض أدلة من قال إن السد إسلامي , ومن بناء دولة بني أمية .
رابعا ً : الأدلة على أن سد السملقي إسلامي :
أغلب الباحثين المعاصرين يقولون بهذا القول , وأنا أميل إليه حتى يثبت خلافه ,
لأن من قال إن السد جاهلي لم يقدم من الأدلة ما يكفي لإثبات قوله , سوى ما تقدم من أدلة
من قال: إن السد من بناء قبيلة ثمالة، وقد تمت مناقشة تلك الأدلة في الحلقة السابقة .
وأنا هنا سأجمع أهم الأدلة لمن قال بأن السد إسلامي ،وليس من بناء قبيلة ثمالة، وهي في نظري :
1- أنني لم أطلع على أي نص ، من شعر أوغيره، لأي ثمالي ينسب فيه هذا البناء لقبيلته ،
و يفخر فيه بهذا الإنجاز ( وهو عمل يستحق الفخر بالتأكيد ) . ولو كانوا هم بناته
لما عدمنا بقايا من هذه الأشعار أو الأقوال أو المفاخرات ، بل الذي وجدناه في ذاكرة القبيلة هو العكس ،
فإلى الوقت الحاضر والقبيلة لا تدعي هذا الإنجاز، ولو سألت أحدهم الان عمن بنى السد ؟
لأجابك بأنه لا يدري ، أو ردد الأسطورةالشائعة بين القبيلة ، بأنه من بناء بني هلال .
حتى ان الأسطورة التي تتردد بينهم في هدم السد : " بنيناك يا سد السملقي ...."
منسوبة هي الأخرى لبني هلال وليس للقبيلة .
والمقصود أن بناء القبيلة للسد عمل عظيم ،لابد أن يبقى في ذاكرة القبيلة أثر من هذا الإنجاز ،
لكننا لم نعثر على هذا الأثر ، بل عثرنا في ذاكرة القبيلة على أثر معاكس ،
وهو أنهم يصرحون بأنهم ليسوا بناته .
2 – أن هذا العمل الهندسي يحتاج إلى جهد كبير ومال وفير , و لا يمكن أن يتوفر
لدى قبيلة لوحدها , مهما كان كبر هذه القبيلة وغناها , ولا يمكن أن يتوفر لقبيلة صغيرة من باب أولى ,
وقبيلة ثمالة معروفة في التاريخ أنها لم تكن قبيلة كبيرة , بدليل المنازل القليلة التي حلت بها ,
والتي لا تعادل جزءا ً يسيرا ً من منازل بني عمومتها ( كالحجر , و غامد , و دوس ... )
وحين سار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد فراغه من حنين , قال كعب ابن مالك :
قضينا من تهامة كل ريب / وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت / قواطعهن : دوسا ً أو ثقيفا
فذكر الشاعر بعد فتح مكة وهزيمة هوازن ،أن الرغبة الآن في محاربة ثقيف أو دوس ,
وما اقتصاره على هاتين القبيلتين إلا لكبرهما وشهرتهما .
وحين أراد عبد الصمد ابن المعذل أن يهجو المبرد , قال :
سألنا عن ثمالة كل حي / فقال القائلون : ومن ثمالة ؟
فهو يعرض بالمبرد من أنه من قبيلة غير معروفة , والمقصود: أن صغر القبيلة وقلة عدد أفرادها،
يجعلها غير معروفة عادة ( وهذا واضح و ملموس حتى في الوقت الحاضر )
مع ملاحظة أن صغر القبيلة وقلة عدد أفرادها ليس عيبا ،ً ولكن نحن هنا نقرر واقعا ً ونستدل به ,
و مازالت ثمالة حتى الآن ،من حيث المنازل،ومن حيث عدد الأفراد، تـُعد من القبائل الصغيرة .
وأكرر : هذا ليس عيبا ، وإنما هو واقع
3 _ ان بناء السدود ونحوها من المشروعات الكبيرة , لا تقوم به عادة القبائل , وإنما تقوم به الدول ,
ولا أعرف أن مشروعا ً كبيرا ً قامت به قبيلة بمفردها , ولا أعرف سدا نسب بناؤه لقبيلة بمفردها ،
فكيف تفردت ثمالة بمفردها بهذا المشروع ؟ وكيف اتفقت كلمتها على بنائه ؟
إننا لو سملنا جدلا ً ان هذا السد من بناء قبيلة ثمالة ، فلابد أننا نتحدث عن قبيلة كثيرة العدد ، واسعة الإنتشار ,
لا نعرف الآن حدود منازلها , فنحن إذا ً نتحدث عن قبيلة، ذات حضارة عظيمة، و ثراء واسع ورغد عيش ,
تجمع الضرائب، وتقيم المشروعات , إننا نتحدث إذا ً عن قبيلة أخرى، غير قبيلة ثمالة التي نعرفها ,
والتي نزلت جنوب الطائف , ذات المنازل المحدودة، والعدد المحدود، والقدرات المحدودة ,
والتي كانت كغيرها من القبائل المجاورة لها , تغزو وتغزى , تنتصر وتهزم , تتحالف مع الجيران
لتتقوى بهم ، وتتعرض لأذى القبائل والأفراد والصعاليك .....
كم كنت اتمنى أن تلك القبيلة العظيمة كانت موجودة , وأن تغلب عواطفي عقلي في هذا الشأن ,
ولكن : أنّى ؟ وكيف ؟
4 _ لا أعرف أن دولة وحضارة قامت في محيط الطائف عبر التاريخ المعروف , ولها شأن , ويمكن أن تقيم
مثل هذه المشروعات قبل دولة الإسلام .أما الحضارات العربية القديمة ( كالعماليق والحضارة الثمودية ... )
فلا اعرف هل كانوا في محيط الطائف حقيقة ؟ ولا أعرف لهم أثارا ً باقية , والعماليق اختلطت الأسطورة فيهم بالواقع ,
وقد ثبت أن لهم حضارة قامت في بلاد الشام ومصر ( كالكنعانيين و الأموريين .. وغيرهم )
ولو ثبت بطريقة علمية أن سد السملقي يعود لإحدى هاتين الحضارتين أو نحوهما من الحضارات القديمة ,
لكان هذا القول مقبولا ً , لأنه ينسب بناء السد لدولة وحضارة وليس لقبيلة صغيرة . ولكن
لا أعرف إلى الآن دليلا ً يؤكد نسبة هذا السد لأي حضارة من الحضارات العربية القديمة .
فإلى أن يثبت هذا ، فالقول المحقق في المسألة، أنه لم ينشأ في محيط الطائف دولة وحضارة ذات شأن وآثار باقية
إلى اليوم , قبل الدولة الإسلامية . مما يطمئن معه القلب على صحة نسبة بناء هذا السد لهذه الدولة والحضارة .
5 _ لا أعرف عبر التاريخ الإسلامي أن دولة إسلامية اهتمت بالطائف , على النحو الذي حصل في زمن
دولة بني أمية ، فهي الدولة التي اهتمت بالعروبة أولا ً , واهتمت بالطائف على سبيل الخصوص ،
واهتمام بني أمية بالطائف سبق بيان سببه , وهو الحلف الظاهر الذي نشأ بين بني أمية و ثقيف،
بالإضافة إلى التملك الواسع لقريش وبني أمية على سبيل الخصوص في أودية الطائف .
وحين حج سليمان بن عبد الملك ،زار الطائف وبقي فيها مدة . مما يدل على اهتمام خلفاء بني أمية بهذه المدينة.
فيترجح في العقل أن هذه الدولة هي من قام ببناء السدود في محيط الطائف بما فيها سد السملقي .
6 _ توجد مجموعة سدود أثرية في محافظة الطائف , ذكر بعضهم أنها تصل إلى سبعين سدا ً ,
ومازالت آثار بعضها قائمة حتى الآن , وأغلبها في محيط مدينة الطائف , وقد وجد على بعضها نقوش
إسلامية نحو ( محمد رسول الله ) ونحوذلك . وبعضها عليها تاريخ يحدد زمن بنائه نحو
( سد سيسد ) الذي بني عام ( 58 هجرية ) في زمن الخليفة معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه .
والملاحظ على هذه السدود أمران :
الأول : أنها أقيمت على فرو ع الأودية الكبيرة ( وج و ليه ) ولم تقم على بطونها , وذلك في نظري خشية
من الجريان الشديد للأودية الكبيرة , الذي قد يعيق إكمال البناء .
وقد عد الحارثي في ( المعجم الأثري لمحافظة الطائف ) وفي ( مدخل إلى الآثار الإسلامية في محافظة الطائف )
والسالمي في ( المعجم الجغرافي لمحافظة الطائف ) أكثر من ستة سدود على وادي عرضة , ونحوها على بعض
أودية الشفا , وليس على بطن وادي ليه سد واحد منها . كما ذكرا بعض السدود على بعض فروع وج ،
مثل ( السنح ) و ( صعب ) وليس على بطن وادي وج سد واحد .
ولم تبن السدود على بطون هذين الواديين إلا حديثا ، في عهد الدولة السعودية الثالثة .
الثاني : أن أغلب هذه السدود في محيط مدينة الطائف , وعلى فروع الأودية التي تنزلها قبيلة ثقيف .
مما يدل على أنهم هم المنتفعون بها، مع من يشاركهم في هذه الأودية وبخاصة من قريش . وهذا المعنى
يشمل سد السملقي , باعتباره على وادي جفن، وهو كما تقدم لثقيف ، وكذلك السدود التي من وراء جفن ,
فقد عد ( الحارثي والسالمي ) على وادي سلامة وامتداده قرابة سبعة سدود . ولا نستغرب هذا إذا علمنا أن المعدن
كان لثقيف وبعض قريش ( كما ذكر الهمداني ).
فإذا كان هو الحاصل في محيط الطائف , فلماذا نستثني سد السملقي من هذا ؟ ما الذي يمنع من قياس هذا السد
على السدود الأخرى التي بعضها مؤرخ بالعام ؟ نعم إن سد السملقي هو أكبرها , ولكن هل نقول :إن السد الكبير
من بناء قبيلة ، والسدود الأصغر من بناء دولة ؟
7 _ و أخيرا ً أقول : جميع ما ذكرت أدلة عقلية , ليس فيها دليل واحد نصي ، إلا أن هذه الأدلة
تتمشى مع التاريخ , والنصوص الأخرى , وواقع القبيلة ... ولكن لنفترض أن جميع هذه الأدلة العقلية لا تكفي ,
وأنه لابد من دليل محسوس يدل قطعا ً على تاريخ بناء هذا السد , ومن بناه ؟
فأقول : هذا مطلب مشروع , وبخاصة أني أتحدث عن موضوع لست مختصا ُ فيه , فلنترك الأمر للمختصين ،
وإلى أن يوجد مختصون يوثق بهم , سأذكر ثلاثة أمور :
الأول : قال محمد حسين هيكل في كتاب ( في منزل الوحي ) بعد أن زار سد السملقي :
" وسألت عن تاريخ بنائه , فقيل إنه يرجع إلى عهد معاوية ابن أبي سفيان في صدر الإسلام ,وأن الحجة في ذلك
هذه الكتابة المنقوشة على أحد أحجاره , والتي لا تكاد تتضح , فقد نقلها عبد الله باشا باناجي
بالفوتوغرافيا في اوائل هذا القرن , وبعث بها إلى مصر , حيث حلت رموزها , فإذا فيها :
أمر ببنائه عمرو بن العاص بأمر أمير المؤمنين معاوية ابن ابي سفيان "
ونظرا ً لأن موضع هذا النقش غير معلوم الآن , ونظرا ً لأن المستعين بالله قد ( غسل يده )من الباحثين المعاصرين :
فلماذا لا نعيد البحث عن هذا النقش ونقرأه مرة أخرى ؟
الثاني : قرأ الأستاذ الدكتور ناصر الحارثي ( أستاذ الآثار الإسلامية في جامعة أم القرى ) في كتابه
( الآثار الإسلامية في محافظة الطائف ) قرأ على السد، الآثار التالية :
( عزى الله ) ( أنا عبد الله ) ( الله سيد ) ( أنا دينار ) ( بأمير ال ) .
قلت : تكرر لفظ الجلالة الله في هذه النصوص قد يوحي بشيء يتعلق بالعهد الإسلامي .
لكن دعنا نفترض أن هذه النصوص غير موجودة , أو أن هذه القراءات غير صحيحة ,
أو أنها نصوص كتبت لاحقاً ... وهذا كله ممكن . فلننتقل للأمر الثالث .
الثالث : أن نفترض أن كل ما تقدم لا يدل على تاريخ إنشاء السد على سبيل اليقين ,
فيلزمنا أن ننتظر حتى يظهر نص صريح ، أو يأتي مختص متفق عليه ، ويحدد زمن البناء وفاعله .
فإن جاء هذا المختص وقال : هو إسلامي.كان هذا واضحا وكافيا لي ، ولا يتعارض مع ما قلته حول منازل القبيلة .
وإن قال : هو جاهلي وقديم . فعندها ننظر : إلى من ينسبه ؟ هل ينسبه إلى حضارة قديمة كالعماليق مثلا ً ؟
أو إلى قبيلة كثمالة ؟ أو إلى غيرهم ؟
فإن نسبه إلى غير قبيلة ثمالة ، بقي الأمر على ما تقدم ، وإن نسبه للقبيلة ، فيلزمني حينئذ النظر
في الحد الشمالي لمنازل القبيلة قديما .
وإلى أن يأتي هذا الخبير , وحيث إن موضوعنا هنا هو: تحديد منازل ثمالة جنوب الطائف قديما ً ،
فتبقى النصوص السابقة القائلة بأن وادي جفن لثقيف ، ويبقى التحديد الذي سبق ذكره لمنازل ثقيف ،
ومنازل ثمالة،إلى أن يثبت البديل، فهذه النصوص هي الأدلة المتوفرة على الموضوع , والقراءة السابقة لها ،
هي القراءة الممكنة ، حتى يثبت خلافها .
و أخيرا ً فإني أهيب بأبناء القبيلة , والمجاورين للسد على سبيل الخصوص،
أن يبحثوا عن هذه النصوص ويتتبعوها في السد , وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد نقشا ً فيه أكثر من سطر
على حجر قريب من الأرض، شمال السد إلى جهة الجبل الشرقي . وقد بحثت عنه قديما ً فلم أعثر عليه،
فلعله دفن تحت تراب المزرعة . فلو تطوع بعض الشباب ( و أخص منهم ذرية عمر بن سفر )
للبحث عن هذا النقش ,أ وعن أي نقش آخر، وفي مسقط أفقي رسمته إدارة الآثار والمتاحف ,
ظهر عليه إشارة إلى نقشين على جسم السد من جهة المزرعة .
بل قد تظهر الأدلة والنقوش على الجراب الممتد لمسافة بعيدة . وقد أخبرني من أثق به ، أنه دخل بنفسه
في هذا الجراب من ( بئر الكردي ) أسفل من السد قليلا،( ولا يظهر الجراب إلا في هذه البئر وبئر السويمة فقط )
قال : وكان المدخل ضيقا ً في بدايته ، ثم أصبح وسيعا ً . قال : كنت أمشي فيه قائما ً ,
حتى وصلت إلى موضع قدرت أنه أسفل السد تقريبا ً , قال : فوجدت متسعا ً تعلوه قبة ,
يتوسطها حجر مثقوب , وآثار الحبال على حواف الثقب .
قلت : ما أحوج شباب هذا العصر لخوض مثل هذه المغامرة , وقد توفرت الإمكانات أفضل من قبل
( نحو الحبال، و وسائل الإضاءة ، و الأكسحين .... ) والفرصة في وقت شح الأمطار أفضل ،
لنقص منسوب المياه في البئر والجراب .. ثم يقوموا بتوثيق عملهم بالصور والمقاسات والوصف الدقيق،
ليصبح وثيقة علمية يمكن نشرها وتوثيقها،والإعتماد عليها .
لكن :
أين الفتى الذي لم ترهقه المدنية بعد ؟
أين الحناش المحترش ؟
أين الدعيميص الولاج ؟
وإلى الحلقة القادمة التي سنجيب فيها عن السؤال : هل كان لثمالة غور ؟