اخبار التربية الجمعة 9-5

[صقر قريش]

الوطن : الجمعة 9 جمادى الأولى 1431ـ العدد 3493 ـ السنة العاشرة
أمي.. أمية التعليم وتعليم الأمية
عندما بكت أمي ذات يوم لم يكن ذلك جوعاً وتعباً رغم جوعها وتعبها، لكنها حالة الحيرة والضياع التي تتملك المحارب حين يكتشف فجأة وفي ساحة المعركة أن جميع أسلحته التي يملكها ويجيد استخدامها، لم تعد صالحة للقتال.
لقد مارست أمي الإشراف والتخطيط والتنظيم والمتابعة لشؤون البيت والمزرعة والجيرة والأقارب تطوعاً بمفردها أو بمعاونة من يساعدها، فضلاً عن إدارتها لبيتنا ذي الثلاث أخوات والسبعة إخوة والأب المسافر أغلب أشهر السنة على بعيره من الجوف إلى فلسطين والشام والعراق ليأتي لنا بما نأكله صيفاً ونلبسه شتاء.
لقد حفرت أمي الأرض بأظافرها واحتطبت بالفأس ما نتدفأ به من حطب تأتي به على أقدامها من البر لأيام وليالٍ، وجلبت الماء من البئر، وحملت البندقية لتحمي أطفالها من الذئاب والسباع وبنت بالطين غرف دارنا، وحاكت بالإبرة والمخيط ملابس إخوتي وفراش إخوتي.
هذه المرأة التي تملك رؤية المنظرين وعزيمة الفلاحين وإرادة المناضلين، وجدت نفسها فجأة وسط جيل لا تنتمي إليه ومجتمع لا يعرف كيف يستفيد من تجاربها، فقط لأنها امرأة أمية... نعم... امرأة لا تقرأ ولا تكتب.. ولا تحمل شهادة دكتوراه مزورة.. هذه المرأة لم تستسلم للأمية،فقد حاولت المرة تلو الأخرى أن تكسر طوق أميتها، لكنه التعليم القليل المتأخر، عندها فقط بكت أمي طويلا.
إن المفتاح الرئيس للتنمية هو المرأة، فمن أراد منكم أن يغير مجتمعا، فليعلم المرأة، ومن أراد أن يعيد للأسرة دفئها، فليحفظ للمرأة كرامتها. ومن أراد أن ينهض بالوطن والأمة، فليمكن المرأة اقتصاديا وثقافيا وسياسياً.
إن المرأة هي نقطة ضعف مجتمعاتنا وهي نقطة قوتها. فنحن من يجعل المرأة جزءا من الحل ونحن من يجعلها جزءا من المشكلة. يا أمي، لو كنتِ بيننا الآن، لمنعناك أن تطفئي النار حين تشتعل في بيت أولادك، ولمنعناك من زراعة أو سقي ما تسدين به رمقهم، ولمنعناك من أن تجلبي الماء من البئر لتسقي أطفالك وأغنامهم، ولمنعناك من أن تحيكي فراشهم وملابسهم، ولمنعناك من أن تأخذي أطفالك للمشفى حين يمرضون، ولقلنا لك اتركي أطفالك يموتون حريقاً أو جوعاً أو مرضاً أو غرقاً، أو بردا، لأنك عورة، اسمك عورة وصوتك عورة ووجودك عورة وما تفعلينه عورة، وما تقولينه عورة وما تفكرين به عورة.
أيتها المرأة الأمية العظيمة، لم تخسري كثيراً ببقائك أمية، فأميتك لا تزال تتقدم على تعليمنا كثيراً، ليتهم يدرسون أميتك في مدارسنا، علنا نتعلم شيئاً مما لديك حتى لا يكون بيننا حملة دكتوراه مزورة ومزيفة. جيلك - يا سيدتي - يسبق أجيالنا بالصحة وبالإنتاجية وبالكرامة وبالإنسانية وبالأخلاق. وجيلك لم يشهد قصص الفساد الأخلاقي والمالي والإداري مثلما يشهده جيل المتعلمين. وجيلك - يا أمي - لم يكن لديه وقت يضيعه في جدليات بيزنطية لا تنتهي ولا تؤدي إلى حسم، فوقتكم عمل دؤوب لا يعرف الثقافة الاستهلاكية. وجيلك هو من آمن بالعمل التطوعي وعمل من أجله. وجيلك هو حاضن التكافل الاجتماعي والكرم الحقيقي والشهامة الحقيقية والنخوة الحقيقية والكبرياء الحقيقية والعصامية الحقيقية. رحم الله أمي وأبي ووالديكم أجمعين