شيخ في الثمانين من العمر , تداعب همته ونشاطه مخيلة أبناء العشرين .
ليس ابن جبرين من دهماء الناس وعامتهم , بل هو رأس الطبقة وزينة الوقت, وهو اليوم مفخرة من مفاخر علماء السنة , وعالم من أكابر علماء الزمن الحاضر .
كل من جالسه عرف أنه عالم وداعية , زاهد وداهية , عربي غير مستعجم , حضري غير خاضع لذل الحضارة , شيخ في طاقة شاب , ورجل يحمل همّ أمة .
بلغ من العلوم أعلاها , يرع في العلوم حتى أُعجِب به من رآه وسمعه , وبرع في التعليم حتى أتعب من بعده .
******************
بين الواحات بيوت القرية:
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين هكذا اسمه الكامل , ولد في عام (1349) في قلب جزيرة العرب , بين قرى وادعة , ونخيل باسق , وصحراء ممتدة شاسعة , تسمى بلدته الكبرى (القويعية) , وقريته التي نشأ بها مع والديه تسمى (الرين) وهي قرية صغيرة تتبع إدارياً البلدة الأم.
تقع هذه المنطقة بعيداً عن الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية بمسافة (160)كيلوا متر تقريباً , في الطريق المؤدي لمكة ويعرف بطريق الطائف , ولد ابن جبرين في قلب الجزيرة الصحراوي حيث عَرَف الرمال والتلال , وعرف المزارع والأشجار التي هي واحات في عمق الصحراء , تنقل على ظهور الجمال , , ذاق حرارة الشمس النجدية , جلس بجوار أشجار الغضا يناجيها وتناجيه , وسرح ببصره في جلال وعظمة الكون ليلاً ونهاراً .
لعب وقفز على بيوت الطين المنتشرة هناك , شرب من مياه الآبار الضحلة وجلس على أطرافها يسمع الأخبار والحكايات , لبس الملابس المتواضعة في قريته الطينية , لم يلبس الغالي والنفيس , لم يفكر في شراء أثواب كل شهر أو شهرين , بل كان مثل أبناء الجزيرة العربية آنذاك يفرح بالثوب والثوبين من العيد إلى العيد , عاش بين الناس الذين تقاربت مستويات معيشتهم , عاش بآمالهم , وعاش بأحلامهم , وتغنى بمستقبلهم , ضحك بين النخيل , جرى مع الطيور والعصافير يداعبها وتداعبه , وجرى مع الصبية وهم يلهون بين ماء الزروع وبقايا الغنم والإبل هناك , يراه الناس وهو قد ملأ الطين رجليه وساقيه النحيلتين ويفرح بذلك الجو البهيج فهو يعتبر ذلك شعاراً للإنسان الحر النبيل .
لم يكن والده في القرية رجلاً عادياً بل كان من المتعلمين , ولذلك أحاط ولده برعايته , ونشأ بن جبرين بين أبوين حنونين في بيوت الطين الجميلة , حيث الحياة الريفية الهادئة البعيدة عن منغصات المدن , حفظ القرآن وهو صغير , تعلم على طريقة الكتاتيب والكتابة في الألواح , نشأ بين مكتبة والده وقرأ عليه عدداً من العلوم , وتنقل على شيوخ القرى يطلب العلم , ومنهم شيخه الأكبر الذي يدعى عند الناس أبو حبيب واسمه ( عبد العزيز الشثري ) فقرأ عليه كثيراً من العلوم والفنون ولازمه ملازمة كثيرة وطويلة , يراه الناس بين المزارع والنخيل وهو يمشي على قدميه ليسمع من شيخ في قرية أخرى أو يرحل لقرية أخواله , وأحياناً يركب الجمل إذا كان المكان بعيداً يحتاج لوقت طويل ليسمع حديثهم ويتعلم منهم .
في قريته أوفي طريقه لزيارة القرى , يلتقي مع الناس على سجيتهم , يشاركهم البيع والشراء , يسمع قصصهم وأخبارهم وغزواتهم ومعاركهم , يتعلم طريقة الحياة , يرى الفلاح والعالم والشاعر كيف تتلاحم أواصر المحبة بينهم في القرية الصغيرة , نشأ وشبّ وكبر في قريته وبين أهله وذويه , ربما رحل مع والدته إلى أخواله في موسم التمر حين يشتد , فيسير بين الرمال والتلال والكثبان وفي بطون الأودية وهو فرح مسرور تلفحه شمس الصحراء , ويتقيها بيده أو يحجبها بقماش فوق رأسه أو يداريها بظل بيت طيني قديم أو شجرة باسقة شامخة , حياة وادعة , أناس طيبون على فطرتهم وسجيتهم , لا يوجد أخلاط من أجناس الناس وشعوب الأرض , عرف النقاء والصدق منذ نعومة أظفاره .
*****************
ابن القرية في العاصمة :
تمر به الأيام والليالي , وتسير به السنون , يخرج ذلك الفتى الجميل القروي بقوامه المعتدل كالسيف الصقيل , يخرج بعد أن قارب الخامسة والعشرين من العمر من قريته ليؤم الرياض عاصمة المملكة السعودية , خرج مع شيخه عبد العزيز أبو حبيب , خروجه كان في عام (1374) , ذهابه إلى لرياض لأجل أن يدرس في مدارس التعليم النظامي في المعهد الذي أنشأه المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم , تقدم للدراسة وتم اختباره وأختاره المفتي آنذاك ليكون مع طلاب السنة الرابعة لنظراً لتقدمه في العلوم , وبناء على تزكية شيخه أبو حبيب الذي أصبح مدرساً في ذلك المعهد.
لقد وصل إلى الرياض من قريته بعد أن صلب عوده وتزوج وأحاط بكثير من العلوم والفنون , ترك الشاب أسرته الصغيرة ووالديه في القرية وسافر هو بجسده وبقي قلبه , سيعيش بضع سنين لوحده في بلد الغربة كما يراه آنذاك قبل أن يستقدمهم , وسيرسل من مصروفه لأهله لكي يقتاتوا عليه , سيرتقي في سلم النجاحات والتفوق إلى أن يصل القمة .
وفي الرياض يأنس بحضارة المدن الكبرى , يتأقلم مع تلك الحياة المعقدة , تستمر حياته في الرياض بقية عمره , ويعيش بجسده بين أكوام البشر وزحمة الطرقات ودخان عوادم السيارات , ويبقى الفتى القروي في عاصمة الحضارة كما هو بأخلاقه العربية , فهو كريم , وشجاع , وشهم , و(صاحب فزعة ) , وهو لا يرضى بالكذب , ولا يأنس بالمجاملات الخادعة , ولا يحب أن يحيى حياة اللهو والعبث أو حياة الذلة والهوان .
يعيش مع عامة الناس كما سيعيش بعد ذلك مع الملوك والكبراء , تمر به الأيام فإذا هو يطأ بأقدامه البلاط الملكي والقصور العامرة , بعد أن كان يمشي في تراب القرية وطينها سابقاً , فلم يتغير من هيبة الحياة وقيمتها شيء في نظره , كان في القرية يسير على الرمضاء , ويسافر على الجمال , أما في المدنية الصاخبة الواسعة فهو يسير بالسيارات المكيفة الفاخرة , ويسافر بأسرع الوسائل الحديثة , تغير النمط والأسلوب ولكن بقيت المعاني والقيم كما هي , بل حتى ثوبه ونعله وهيئته هي من فصيلة وسلالة ذلك الملبوس القديم مع تطوير لا يكاد يذكر , فالإنسان العربي في قلبه وحياته لم يتزحزح , وجوهره واحد وإن اختلفت الأماكن والصفات .
تحول ذلك القروي لأشهر أبطال العاصمة , فهو غاية في البساطة والتواضع في الحديث مع الجلساء , وغير معقد في صفة الجلوس حيث يترك نفسه على سجيتها القروية , فيحترم الجليس ويقوم للغريب ولا يمل المرء من مجالسته اللطيفة , وهو سهل في مواعيد الزيارة والحياة الاجتماعية, وفوق كل هذا هو في القمة من العلم الواسع المتخصص والثقافة التي يعجب المرء من تنوعها في صدره , ولديه من الشجاعة والقوة ما يبهر أبناء المدن وسكان العواصم الذين أحبوا الحياة وبهرجها, وهو من أقدر الناس على التعامل مع الحضارة الحديثة , ولديه القدرة على فهم أبعادها وحاجة الناس إليها , فلم يتقوقع حول نفسه , أو ينكمش مع الماضي الجميل الذي أدركه .
تفوق دراسياً على زملائه , وترقى في شهادات التعليم النظامي , وحصل على شهادة الدكتوراة التي تفخر به ولا يفخر بها عادة , حصل عليها بعد أن قارب عمره الستين سنة , وذلك في حوالي عام (1407) , تقدم بها في مجلدات كثيرة , وهي في تخريج أحاديث كتاب وتحقيقه , وهو شرح الزركشي على مختصر الخرقي , لم تكن الشهادة ذات قيمة علمية له آنذاك , ولكنه ساير الحضارة ولم ينقطع عنها , ولم تكن هذه الشهادة لتهبه منصبا جديداً , أو سلماً وظيفياً عالياً فقد بلغ سن التقاعد أو قاربه.
لم يعاتب نفسه بقوله إني بدأت في الدراسة النظامية بعد أن بلغت الخامسة والعشرين فماذا تفيدني هذه الشهادات , لم تراوده نفسه أنه نشأ بين بيئة علمية تقليدية لاتقدر هذه الشهادات وحملتها , لم يفكر أن مشايخه لم يحصلوا على شهادة رسمية ولو صغيرة , ولكنّ نفسه طامحة للسمو والعلو وهاهو البطل اليوم يصبح عصرياً , بدأ من الكتابة على الألواح في كتاتيب القرية , ودرس في التعليم النظامي بعد أن كبر سنه , وناقش رسالته ولحيته بيضاء ناصعة , ناقشها وطلابه هم دكاترة الجامعات وعمداء الكليات , ولم يرهبه هذا فأحب أن يمارس هوايته العلمية , أحب أن يمشي في ركاب الحضارة ويكسر التقاليد والأعراف , فعاش عمره بين النخل والماء وبيوت الطين ولازال يحب تلك الحياة ويألفها , وعاش بين المدن والطائرات والبنايات الضخمة .
إنه مذهل حقاً فقد جمع بين الأصالة والمعاصرة , بين القلب القروي والعقل الحضري .
******************