الانتقال للخلف   منتديات بلاد ثمالة > الأقسام الــعــامة > الــمـنـتـدى الـعـام

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 08-19-2005
 
ابوعهد
موقوف

  ابوعهد غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 23
تـاريخ التسجيـل : 12-08-2005
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 2,531
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 286
قوة التـرشيــــح : ابوعهد تميز فوق العادةابوعهد تميز فوق العادةابوعهد تميز فوق العادة
افتراضي العلمانية واثرها على الإسلام

العلمانية واثرها على الإسلام العلمانية واثرها على الإسلام العلمانية واثرها على الإسلام العلمانية واثرها على الإسلام العلمانية واثرها على الإسلام


.*.*.*. العلمــــانيــــــة .*.*.*.

.*.*.*. نشأتها وتطورها و الآثارها في الحيـــاة الإسلامية المعاصرة .*.*.*.

(( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فأرهبوني وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصباً أفغير الله تتقون )) (النحل :51،52)
(( قل إن صلاتي ونسكي ومحيياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ))
(الأنعام :162،163)

(( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ))
(المائدة :50)

.*.*. المقــــدمـــة .*.*.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضل فلا هادى له ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد : فقد أعظم الله تعالى المنة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة ،فكانت الأمة التي استحقت أن تسمى " المسلمـين " : لتحقق معاني الإسلام فيها : إسلام القلب والجوارح ، إسلام الفرد والمجتمع ،إسلام الحياة كلها لله تعالى وحده لا شريك له .

وهو الإسلام الذي تضمنه تلك الكلمة العظيمة التي تعدل الكون كله ، بل ترجح به (لا إله إلا الله ) .وظلت الأمة الإسلامية قروناً تقود الجماعة البشرية وتسيطر على العالم المتحضر إلا قليلاً وتتبوأ مركز الأمة الوسط بين العالمين ؛ كل ذلك بفضل إدراكها لتلك الكلمة العظيمة والعمل بمقتضاها وحقيقة مدلولها في واقع الحياة . ثم أخذ شأن الأمة الإسلامية في الانحطاط وحضارتها في الذبول ؛ وفقدت شيئاً فشيئاً ،مركزها المرموق ومنزلتها السامية ، ولم يكن لذلك من سبب إلا أن نور (لا إله إلا الله ) قد خفت ،ومقتضياتها قد أهملت ، ومدلولاتها قد انحسرت .

ولما كانت كلمة (لا إله إلا الله ) هي روح هذه الأمة وسر وجودها ومنبع حياتها ،فإنها ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة العظيمة حتى آل الأمر في العصور الأخيرة إلى الفقدان الكامل أو شبه الكامل .
وعندما تصاب أمة من الأمم بهذا المرض المدمر :"فقدان الذات" فإن أبرز أعراضه يتمثل في الانبهار القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها .

وقد وقع ذلك في حياة الأمة الإسلامية تأويلاً لقوله صلى الله عليه وسلم (لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتم ،وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه )

ولم يكن أخطر من هذا المرض إلا الجهل بحقيقته وعدم إدراك أسبابه فكان التشخيص الخاطئ سبباً في العلاج الخاطئ ،الذي جاء بمضاعفات جديدة .

ولقد خيل للأمة أن هذا الداء العضال يمكن مداواته باستعارات ساذجة ومظاهرجوفاء وترقيعات صفيقة تتلقاها جميعها من الكفار الذين أصبحت تخجل من أن تسميهم بهذا الاسم ، بل أسمتهم "العالم المتحضر " و "الأمم الراقية " !!
وكان استعدادنا الذاتي وقابليتنا للذوبان هما المبرر الأكبر للحرب النفسية الشرسة التي نسميها "الغزو الفكري" تلك التي استهدفت مقومات وجودنا وأسس أصالتنا .

وجاءت طلائع الغزو الفكري – كما هو الحال في سبل الشيطان – متعددة الشعارات ،متباينة الاتجاهات ،عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل وإغراء أمة منبهرة مهزوزة .

جاءت الاشتراكية والقومية والوطنية والديمقراطية والحرية وفلسفة التطور واللادينية ..وغيرها من المسميات والشعارات وسرت عدوى هذه الأوبئة سريان النار في الهشيم وتغلغلت في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من (لا إله إلا الله ) أو كادت ،وتربت على ذلك أجيال ممسوخة هزيلة أخذت على عاتقها مهمة تعبيد أمتها للغرب والإجهاز على منابع الحياة الكامنة فيها .
ومرت في مطلع هذا القرن حقبة مظلمة راجت فيها سوق الأفكار الموبوءة المنحرفة ، حتى أظهر أعداء الإسلام تفاؤلهم بأن هذه الأمة ستلفظ أنفاسها عما قليل .

ولكن الله تعال رد كيدهم في نحورهم وأنبت في وسط الركام والظلام رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه ؛ فانفجرت في كل بلد إسلامي حركة جهادية ،وانبثق من تلك الحركات فكر أصيل يستمد من الكتاب والسنة مباشرة ،مهتدياً بالوثبات التجديدية التي لم يخل منها عصر من عصور الإسلام .وتكمن قوة هذا الفكر ،بل حياته ،في سر واحد فقط ، هو إدراكه ـ أن سبب انحطاط هذه الأمة هو انحرافها عن حقيقة "لا إله إلا الله " وان الطريق إلى بعثها يبتدئ من تصحيح مفهوم هذه الكلمة وما تفرع منها وإزالة ما علق في ذهن الأمة حولها من غبش واضطراب ؟

وكان مقتضى هذا الإدراك – من الوجهة المنهجية العلمية – أن ما يسمى "علم الكلام " الذي شغل علماء العقائد الماضون به أنفسهم أصبح مسألة تاريخية ،وأن العودة إلى صفاء العقيدة الإسلامية ووضوح تصوراتها ومفهوماتها تستدعي منهجية أصلية نقية كل النقاء من التأثيرات الإغريقية القديمة ومن إيحاءات وسموم الغزو الفكري الحديث .

ولم يكن الإيمان بهذه الحقيقة سهل المنال ، بل أن الرجال الذين اكتشفوها عانوا بأنفسهم مرارة التجربة وهم يحاولون دراسة الإسلام وفق منهجية غربية عنه ،ورأوا أن من حق دينهم ومن حقنا نحن الأجيال التالية أن لا تتكرر المأساة وأن ينيروا الطريق باختطاط منهج علمي أصيل وتأسيس دراسات إسلامية تخصصية تدرس العقيدة الإسلامية ، بل تدرس الأفكار والمذاهب غير الإسلامية على ضوء ذلك المنهج الأصيل .

وكان من هؤلاء الرجال : الشيخ الفاضل محمد أمين المصري ، رحمه الله، (الرئيس السابق لقسم الدراسات العليا بكيلة الشريعة بمكة المكرمة ) ، الذي بذل جهده لإدخال مادة "المذاهب الفكرية " ضمن برنامج الدراسات العليا لفرع العقيدة .

وكان من توفيق الله تعالى أن عهد بتدريس هذه المادة إلى علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر ،هو الأستاذ " محمد قطب "حفظه الله .

وكان من توفيقه سبحانه لكاتب هذا البحث أن يلتحق بفرع العقيدة وأن يختار رسالته لنيل درجة التخصص الأولى " الماجستير " في هذه المادة وعلى يد ذلك الأستاذ .

وإذ كان على أن أختار مذهباً فكرياً ليكون موضوعاً لرسالتي فقد هداني الله لاختيار مذهب " العلمانية " وآثرته على غيره لأسباب ، منها :

1- غموض المدلول الحقيقي لهذا الاصطلاح الخادع بالنسبة لكثير من المثقفين فضلاً عن العامة ؛فبالرغم من الكساد الذي بدأت المذاهب الأخرى ،كالشيوعية والاشتراكية ،تمنى به بعد اكتشاف الجماهير لحقيقتها ؛ ما تزال أسهم العلمانية مرتفعة ،سواء باسمها الصريح ، أو تحت شعار الديمقراطية ،أو شعار " الدين لله والوطن للجميع " ، أو شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين " .

2- التوافق بين ذات العلمانية بوصفها فكرة غريبة واعية وبين موضوعها المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة ، وهو ما يعاني منه الواقع الإسلامي المعاصر ، فالعلمانية –موضوعياً – موجودة في كل نواحي الحياة الإسلامية المعاصرة وإن لم يكن لها وجود ذاتي متكامل ، كما هو الحال في أوربا ..هذا التوافق يجعل تقبلها – ذاتياً – أمراً سهلاً ، ومن ثم يحتم على ذوي الاختصاص دراستها وكشف زيفها وإيضاح تعارضها مع المفهوم الصحيح للإسلام ومقتضيات "لا إله إلا الله ".

وقد عرفت منذ اللحظة الأولى أن مهمتي ليست بيسيرة ،وأن على أن أخوض في ميادين بعيدة عن مجال دراستي الشرعية البحتة جاعلاً كل قراءاتي السابقة في الفكر الغربي بمثابة التمهيد فقط لما يجب علي أن أنهض به .
وفعلاً خصصت نصف المدة المحددة للرسالة –تقريباً –في اطلاع دائب وقراءة متواصلة مسترشداً بالتوجيهات القيمة والآراء السديدة التي كان أستاذي الفاضل يزودني بها باستمرار ،فاطلعت على أمهات النظريات والاتجاهات في السياسة والاقتصاد والعلم والاجتماع والأدب والفن وكنت كلما ازددت إيغالاً في الاطلاع ازدادت ثقتي وقوي عزمي على إكمال الطريق ..مع أن المراجع المذكورة آخر الرسالة لا تساوي إلا جزءاً مما قرأت ،فإنني لا أشعر بشيء من الخسارة ، بل أحمد الله تعالى الذي أراني الفكر الجاهلي الأوربي على حقيقته ..والحق أنني علمت علم اليقين أن هذا الفكر ليس باطلاً فحسب ، بل هو أيضاً تافه هزيل ،وتمنيت من أعماقي أن يهب الله كل شباب أمتي ما وهب لي من معرفة تفاهته وهزاله .

ثم ابتدأت الكتابة مقسماً الموضوع خمسة أبواب :

 الباب الأول : موضوعه دين أوربا الذي انحرفت عنه إلى اللادينية ،أثبت فيه تحريف الدين النصراني وأنه لا يمثل دين الله الحق لا في العقيدة ولا في الشريعة .وتعرضت بالنقد للتحريفات والبدع والخرافات النصرانية ورغم اتفاقي مع دعاة اللادينية في نقد النصرانية ،فقد كنت مخالفاً لهم في منهجهم ، وفي بعض الأحيان أعرض وجهة نظرهم وأنقدها .

وسيلحظ القارئ في هذا الباب الإفاضة وعدم التساهل ، وما ذاك إلا نتيجة اقتناعي بأن السبب الأكبر في انحراف أوروبا من صنع الكنيسة ،وأن الإسلام يحارب الخرافة كما يحارب الإلحاد .

 الباب الثاني :موضوعه أسباب العلمانية .
مع أن تحريف النصرانية في الحقيقة هو السبب الممهد للعلمانية فقد خصصت هذا الباب للأسباب المباشرة لها ،وهي :
1- الطغيان الكنسي : دينياً وسياسياً ومالياً ،مؤيداً بالشواهد التاريخية .
2- الصراع بين الكنيسة والعلم ، عرضت فيه الصراع النكد عرضاً تاريخياً منذ نظرية كوبر نيك إلى نظرية نيوتن بمدرسة النقد التاريخي ،ومذهب الربوبيين والملحدين الأوائل .
3- الثورة الفرنسية :التي نجحت في إقامة دولة لادينية في أوربا النصرانية،وأضحت أسبابها وآثارها واستغلال القوى الهدامة لها .
4- نظرية التطور:التي كانت إيذاناً بانتهاء وصاية الكنيسة الفكرية على أوروبا وانسحابها من الميدان إلى الأبد ..وقد تحدثت عن الآثار المدمرة للنظرية في الفكر والحياة وتطبيقها المريب في حقول المعرفة وميادين السلوك ..
والحق أن هناك أسباباً قد لا تقل عن هذه ،غير أنني آثرت أن لا أعرضها ، بصفتها أسباباً مستقلة ؛فالقوى الهدامة :"اليهود" ،يمكن اعتبارها سبباً مستقلاً ، لكنني لم أعرضها بهذا الاعتبار ، لأن اليهود –كما سيتضح من ثنايا البحث – يستغلون الأحداث ولا يصنعونها ،فاكتفيت بعرض نماذج من استغلالاتهم في مواطنها ،مثل :
استغلال الثورة الفرنسية لتحطيم الرابطة الدينية والخروج من (الجيتو) ..واستغلال الدارونية لنشر الإلحاد والإباحية ..واستغلال الثورة الصناعية للسيطرة على اقتصاد العالم ..واستغلال الديمقراطية لتوجيه السياسة الدولية ..
على أنني قد عرضت نظريات اليهود مستقلة في مواطنها ،مثل ريكاردو وماركس في الاقتصاد ،ودوركايم وفرويد في الاجتماع والأخلاق " ،وذلك لضمان وحدة الموضوعات وتماسكها . ومثل هذا يقال في حركة الإصلاح الديني التي هزت الكنيسة وحطمت الوحدة الشكلية للعالم المسيحي .

 الباب الثالث : العلمانية في الحياة الأوربية

وهو الباب الرئيسي في الموضوع ، وقد قسمته حسب التقسيم التقليدي 6 فصول :

 الأول : في الحكم والسياسة ، تعرضت فيه للفكر السياسي اللاديني وأشهر نظرياته ، مثل : " النظرية الخيالية ، نظرية العقد الاجتماعي ، نظرية الحق الإلهي " ، ثم النظريات الحديثة التي تقوم على " الميكافيللية ، فلسفة التطور ، الديمقراطية " بتفسيرها الليبرالي والشيوعي .

وقد انتهجت أسلوب النقد بطريق العرض ، فقد كنت أعرض أي نظرية كما يراها أصحابها ، عرضاً يوحي للقارئ بنقدها دون أن أتقول عليهم ، وهكذا في بقية الفصول .

وقد رأيت أفضل أسلوب لرد هذه النظريات هو عرض أثارها الواقعية ونتائجها التطبيقية ، مستشهدا بشهود من أهلها ، وذلك لسببين :
1- إن تطبيق أي نظرية هو المحك الرئيسي لنجاحها أو إخفاقها.
2- أن مناقشة تفصيلات النظريات اللادينية المختلفة فوق كونها تستهلك بعداً كبيراً لا تتفق مع حكم الإسلام فيها ، الذي يرفض تلك التصورات جملة رفضاً أساسيا ، كما سيتضح في الباب الخامس .

 الثاني : في الاقتصاد ، تحدثت فيه عن النظام الإقطاعي ثم عن المذاهب اللادينية الاقتصادية : " المذهب الطبيعي " الفيزيوقراطى " ، المذهب الكلاسيكي الرأسمالي ، المذهب الشيوعي " ، عارضاً نظريات كل مذهب . ثم عقبت على ذلك بعرض الواقع المعاصر والنتائج الفظيعة التي نجمت عن فصل الاقتصاد عن الدين ، مؤيداً كل ذلك بالشواهد الواقعية ، سواء في الغرب الرأسمالي أو الشرق الشيوعي .

 الثالث : - علمانية العلم ، تحدثت فيه عن الأسس والملابسات التي قامت عليها لادينية العلم ، مثل موقف الكنيسة والإرث الديني والوثني في النفسية الأوربية ، الذي يصور الإله عدواً للإنسان يتعمد تجهيله كما في سفر التكوين وأساطير الإغريق .. ومظاهر لادينية العلم مثل " استبعاد الغائية والاكتفاء بالعلل الصورية ، حذف اسم الله من أي بحث علمي والاستعاضة بتعبيرات ملتوية كما في مسألة أصل الحياة وتعميم التفسيرات الميكانيكية للكون والحياة ، ورفع شعار العلم للعلم في الغرب والعلم للمذهب في الدول الشيوعية "
وعقبت – كالمعتاد – بالحديث عن أثر الفصل بين العلم والدين في المجتمع المعاصر ونتائجه السيئة ، مثل انتشار الإلحاد وظهور الفوضى العقائدية والقلق على الأجيال المثقفة واستحالة العلم نفسه إلى خطر يهدد البشرية جمعاً .

 الرابع : علمانية الاجتماع والاخلاق ، مهدت له بالحديث عن مجتمع وأخلاق القرون الوسطى في ظل الكنيسة ثم فصلت القول في النظريات والمدارس الاجتماعية اللادينية – مبتدأ بالحديث عن أصول وولادة علم الاجتماع – وهي " نظرية العقد الاجتماعي - المدرسة الطبيعية ، المدرسة الوضعية العقلية ( كونت ، دوركايم ) النظرية الاجتماعية الشيوعية ، النظرية العضوية والنفعيون ، الدراسات النفسية الحديثة (السلوكية – التحليل النفسي)"، ثم أردفت لذلك بالحديث عن الواقع الاجتماعي والأخلاقي المعاصر مكتفياً بنموذج واحد ، هو قضية المرأة وما نجم عنها من الشرور الاجتماعية المستطيرة .. وقدمت نماذج واقعية للهبوط الخلقي الشائن الذي تعانى منه المجتمعات اللادينية المعاصرة ، شرقاً وغرباً .

 الخامس : في الأدب والفن ، تحدثت فيها عن الاتجاهات الأدبية الأوربية :
1- عصر النهضة " الكلاسيكية الجديدة " وما هدفت إليه من بعث التراث الوثني الإغريقي وإنماء النزعة الإنسانية .

2- العصر الحديث :
أ- الرومانسية : تصويرها للهروب ، ومثاليتها ، تأليه الطبيعة .
ب- الواقعية : نشأتها ، أهدافها ، ميزاتها الفنية .
3
- الأدب المعاصر " من الواقعية إلى اللامعقول " المؤثرات الفكرية والاجتماعية فيه ، اتجاهاته الكبرى :
أ- الإباحية ، مع سر نماذج لها .
ب- الضياع " اللاإنتهاء " مع أمثلة أدبية له .

وفي مقابل الواقع المعاصر في كل مجال عرضت هنا نماذج موجزة لمدارس الضياع المعاصر " الوجودية ، الرمزية ، السوريالية ، العلمية ... الخ"
وكان من أبرز العقبات التي واجهتني في هذا الباب محاولة عرض النظريات المعقدة بأسلوب موجز سهل الإدراك .. وأحمد الله إذ أعانني على ذلك .
 السادس: ماذا بقى للدين ، وهو تكملة عامة للباب مع التركيز على يوم الدين أو " ساعته ! " وبيان الإفلاس الذي منيت به الكنائس وكيف أصبحت مباءات للمفاسد العصرية .


 الباب الرابع : العلمانية في الحياة الإسلامية :

لقد رأيت ، منذ وضع خطة الموضوع ، أنه لا ينبغي بحث العلمانية بصفتها مذهباً فكرياً غربياً دون التعرض لأثارها في الحياة الإسلامية .
والحق أن العلمانية في العالم الإسلامي جديرة برسالة مستقلة ، لكنني أرجو أن أكون قد وفقت لعرض أسبابها ومظاهرها عرضاً شافياً .. مع مراعاة حجم الرسالة ومدتها هذا مع أن الحديث عن العلمانية ونتائجها في أوروبا هو في الحقيقة شامل لمظاهرها في كل مكان على سبيل الأجمال .
وقد قسمت هذا الباب فصلين كبيرين :

 الأول : أسباب العلمانية في العالم الإسلامي ، وقد أو جزتها في سببين بارزين :

1- انحراف المسلمين الذي يقابل تحريف النصرانية في أوروبا ، أوضحت فيه صور ذلك الانحراف ، لاسيما ما يتعلق منها بالتوحيد والعقيدة وانحسار مفهومات الإسلام في مجال الشعائر التعبدية بتأثير الأفكار الصوفية والركود الحضاري العام ، واختتمته بنماذج لتقبل المسلمين الذاتي للعلمانية .

2- التخطيط اليهودي الصليبي : تحدثت فيه عن جذور العداوة التاريخية للمسلمين من قبل اليهود والنصارى وأبديتها والخطة الجديدة للغزو وإفادتها من الواقع الإسلامي المنحرف ، وقسمت المؤامرة أربعة أجنحة كبرى ( قوى الاحتلال المباشر ، المستشرقون ، المبشرون ، الطوائف اليهودية والنصرانية ، والباطنية ) .. وفصلت القول في جهود وأعمال كل جناح في سبيل تحقيق الهدف المشترك : إخراج المسلمين من دينهم وصبغتهم بالصبغة الغربية اللادينية

 الثاني : مظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية : وهو فصل كبير قسمته إلى ثلاث أقسام :

1- في الحكم والتشريع ، تحدثت فيه عن بداية الانحراف المتمثلة في تخلف المسلمين الحضاري ، وجمود الاستنباط الفقهي ، وتوهم دعاة اليقظة بأن سبب تأخر المسلمين هو عجزهم التنظيمى والإدارى وما أدى ذلك إليه من تبلور فكرة ( الإصلاح ) .. واستيراد التنظيمات ثم التشريعات الكافرة وكيف انتهي الأمر بالحركة الإصلاحية إلى العلمانية الكاملة في تركيا ، وإلى إقصاء الشريعة في البلاد العربية ، ومصر خاصة ، بالتعاون بين الاستعمار ودعاة الإصلاح ، وأثر ذلك في ظهور الأفكار السياسية اللادينية والأحزاب المتعددة الانتماءات .

2- في التربية والثقافة : تحدثت فيه عن المستوى التربوي والثقافي للعالم الإسلامي قبل احتكاكه بالحضارة الغربية اللادينية وكيف تمت الازدواجية الخطرة في التعليم . وحركة التغريب الأولى ، ثم عن الدعوات الهادفة إلى لادينية التربية والثقافة ، مثل " الدعوة إلى اقتباس الحضارة الغربية خيرها وشرها ، واحتقار الماضي الإسلامي تربوياً وتاريخياً ، وتطوير الأزهر ، وتطبيق المناهج التعليمية الغربية ، واستيراد المذاهب اللادينية في الفكر والأدب"

3- في الاجتماع والأخلاق ، ابتداءه بالحديث عن سوء تمثيل المجتمع الإسلامي لحقيقة الإسلام ، والتقبل الذاتي لتقليد الغرب : ثم فصلت القول فيما أسمى ( قضية تحرير المرأة ) ، ابتداء من جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوى ، وانتهاء بقاسم أمين وحركة النهضة النسائية ! . مع إيضاح دور العلماء والزعماء والأدباء الذين اسهموا في مؤامرة ، وسريان الفكرة إلى بلاد الشام والمغرب فضلاً عن تركياً ، والنتائج الواقعية لها .

 الباب الخامس : حكم العلمانية في الإسلام :

وقد رأيت أن يكون هو خاتمة أبواب الرسالة ، وقسمته فصلين :

الأول : فصل تمهيدي بعنوان : هل للعلمانية في العالم الإسلامي مبرر ؟
أوضحت فيه الفروق الجوهرية بين الإسلام والنصرانية المحرفة عقيدة وشريعة وتاريخاً وواقعاً ، مما ينفي أي مبرر عقلى لاسترداد هذا المذهب المنحرف .

الثاني : حكم العلمانية في الإسلام :
بينت فيه حكم العلمانية على ضوء أصول العقيدة الإسلامية والمدلول الحقيقي لكلمة " لا إله إلا الله " ومفهومي " الطاغوت والعبادة " وخرجت من ذلك بنتيجة هي أن العلمانية تتنافي مع الإسلام من جهتين :

1- كونها حكما بغير ما أنزل الله .

2- كونها شركاً في عبادة الله ، وفصلت القول في ذلك مورداً الأدلة من الآيات والأحاديث ومستشهداً بأقوال علماء السلف .

ومن خلال ذلك ناقشت شبهة التعلم بحرية أداء الشعائر التي تسمح بها بعض الأنظمة العلمانية ، وشبهة قصور الشريعة عن مجاراة التطور الإنساني والإحاطة بجوانب الحياة المعاصرة .
والحق أن تضخم حجم الرسالة مع انتهاء المدة المقررة لها قد حالاً دون الإفاضة والتفصيل في بعض الموضوعات – لاسيما ما يتعلق بالواقع الإسلامي المعاصر – كما حالاً دون وضع الفهارس تفصيلاً للأعلام والموضوعات تعين القارئ على الإفادة من الرسالة بصورة أوفي ، أما التعريف بالإعلام فعله يتضح من خلال عرض نظرتاهم وآرائهم بالإضافة إلى الإشارة إلى سنة الوفاة وقد أعرف العلم في الحاشية إذا اقتضى الأمر ذلك .

وكل ما أرجوه هو أن يتقبل الله منى هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع بهذه المحاولة المتواضعة من يسلك هذا الطريق من بعد ، لنصل إلى فكر إسلامي أصيل متكامل .

وإنني إذ أشكر الله تعالى على توفيقه ومنه ، لأشكر من بعده فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وسعادة عميد كلية الشريعة بمكة المكرمة ، وفضيلة المشرف على هذه الرسالة .. وكل من أسهم بجهده المشكور في شئ منها ، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


المؤلف‘

































.*.*. العلمــــــــــــــ تعريف ـــــــــــــــــانية .*.*.

لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة ( Secularism ) في الإنجليزية ، أو (Secularite) بالفرنسية (1) ، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ " العلم " ومشتقاته على الإطلاق .

فالعلم في الإنجليزية والفرنسية معناه ( Science ) والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة( Scientism ) (2) والنسبة إلى العلم هي ( Scientific ) أو (Scientifique ) في الفرنسية .

ثم إن زيادة الألف والنون غير قياسية في اللغة العربية ، أي في الاسم المنسوب ، وإنما جاءت سماعاً ثم كثرت في كلام المتأخرين كقولهم : (روحاني ، وجسماني ، ونوراني ........ ) .

والترجمة الصحيحة للكلمة في الإنجليزية هي ( اللادينية ) أو ( الدنيوية ) لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب ، بل بمعنى أخص هو ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد .

وتتضح الترجمة الصحيحة من التعريف الذي تورده المعاجم ودوائر المعارف الأجنبية للكلمة :

تقول دائرة المعارف البريطانية مادة ( Secularim ) : ( هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيهم إلى الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها .)

ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الأخر ، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ ( Secularism) تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية ، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة .

وظل الاتجاه إلى الـ ( Secularism ) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله ، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية (3) .

 ويقول قاموس " العالم الجديد " لو بستر ، شرحاً للمادة نفسها :-

1- الروح الدنيوية ، أو الاتجاهات الدنيوية ، ونحو ذلك . وعلى الخصوص : نظام من المبادئ والتطبيقات
( Practices ) يرفض أي شكل من أشكال العبادة.

2- الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة وخاصة التربية العامة " (4)

 ويقول معجم أكسفورد شرحاً لكلمة ( Secular) :

"1- دنيوي ، أو مادي ، ليس دينيا ولا روحيا ً : مثل التربية اللادينية ، الفن أو الموسيقى اللادينية ، السلطة اللادينية ، الحكومة المناقضة للكنيسة .

2- الرأي الذي يقول أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية " (5)

 ويقول " المعجم الدولي الثالث الجديد " مادة : ( Secularism)

" اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة ، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصوداً ، فهي تعنى مثلاً " السياسة اللادينية البحتة في الحكومة "

" وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين " (6)

 ويقول المستشرق " أر برى " في كتابة " الدين في الشرق الأوسط " عن الكلمة نفسها :

" إن المادية العلمية والإنسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال اللادينية ، واللادينية صفة مميزة لأوربا وأمريكا ، ومع أن مظاهرها موجودة في الشرق الأوسط فإنها لم تتخذ أي صيغة فلسفية أو أدبية محددة ، والنموذج الرئيسي لها هو فصل الدين على الدولة في الجمهورية التركية " (7)

 والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو " فصل الدين عن الدولة " ، وهو في الحقيقة لا يعطى المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة ، ولو قيل أنها " فصل الدين عن الحياة " لكان أصوب ، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية " إقامة الحياة على غير الدين " سواء بالنسبة للأمة أو للفرد ، ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود : فبعضها تسمح به ، كالجماعات الديمقراطية الليبرالية ، وتسمى منهجها ( العلمانية المعتدلة – Non Religious ) أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين وذلك مقابل ما يسمى ( العلمانية المتطرفة – Anti Religious ) ، أي المضادة للدين ، ويعنون بها المجتمعات الشيوعية وما شاكلها .

وبديهي أنه بالنسبة للإسلام لا فرق بين مسلمين ، فكل ما ليس دينيا من المبادئ والتطبيقات فهو في حقيقته مضاد للدين ، فالإسلام واللادينية نقيضان لا يجتمعان ولا واسطة بينهما (8)






























>> البــــــــ الأول ــــــــاب <<

دين أوربا أو النصــــــــــــــــرانية بين التحريف والإبـــــــــــــــــــــــداع

>> .*.*. <<

== << .. الفصل الأول .. >> ==

.*.*. التحــــــــــــــــــريـــــــــــــف .*.*.

أولا : تحـــــــــــــ العقيدة ـــــــــــريف

ثانيا : تحـــــــــــــ الشريعة ــــــــــــــــــريف

.*.*.*.*.*.

== << .. الفصل الأول .. >> ==

== // == التحـــــــــــــــــريف == //==

>><<























.*.*.*. مقـــــــــــــــــــــــــــدمـــــــــــــــــــ ــــــــــة .*.*.*.

عرفت أوربا الوثنية الدين النصراني منذ القرن الأول للميلاد بوصفه عقيدة شرقية سامية ،كتلك العقائد التي ينظر إليها العالم الروماني الأبيقوري على أنها تعاليم مثالية صارمة ، ولم يأل أباطرة الرومان جهداً في القضاء على هذه النحلة التي تفشت في مستعمراتهم ، واستخدموا لتحقيق ذلك صنوف الاضطهاد والتنكيل طيلة القرون الثلاثة الأولى ،ولكن أسباباً تاريخية –لا مجال لبحثها الآن –أدت إلى اعتناق الإمبراطور "قسطنطين" للدين الجديد ودعوته لعقد أول مجمع مسكوني مسيحي هو مجمع نيقية سنة 325 ، الذي أعلنت المسيحية على أثره عقيدة رسمية للإمبراطورية الرومانية .

وقد حظي الدين الجديد بإقبال فائق وجاذبية شديدة من قبل شعوب الإمبراطورية ،مما حدا بالمؤرخين(1)
إلى تعليل ذلك بأسباب شتى نختار منها ما ذهب إليه باحث أميركي معاصر :

1-العنصر التوفيقي:فإنك قد تجد في روايات الألغاز الإغريقية ، وفي قصة إيزيس ، وقصة مترا ، وفي اليهودية ، وفي العقائد الأخرى آنذاك: نماذج لكل ما اعتقد فيه المسيحيون كطقوس الطهارة ، والإله الذي يموت ثم يبعث ،والعذراء التي تحمل(2) ،ويوم الحساب وحفلات الربيع وحفلات الانقلاب الشتوي والشياطين والقديسين والملائكة .

2-إن المسيحية بما وعدت من خلاص في عالم آخر لتعويض ما في هذه الدنيا من فقر وظلم وآلام ، أثبتت أنها عقيدة شديدة الجاذبية للامة في الإمبراطورية المتداعية ، إذ يرون فيها طريقاً خلاباً للهروب من عالم لا يحبونه، وإذن فقولنا إن المسيحية ديانة الضعفاء والبسطاء والمظلومين قول صادق والأناجيل مصرحة بذلك .

3-إن القواعد الدينية للمسيحية بلغت درجة من التعقيد تكفي لان تجتذب رجالاً من ذوي الميول الفلسفية ،وإذن فإن عوامل النصر النهائي للمسيحية قواعدها الدينية التي اتحدت في نهاية القرن الثاني إتحاداً قوياً بالتقاليد الفكرية الإغريقية.
4- رد الفعل الذي نشأ عن الاضطهاد المستمر في عصور المسيحية الأولى والاضطهاد عندما يبلغ درجة معينة يقوي الفئة المضطهدة ، ويدفع المضطهدين إلى وحدة أشد تماسكاً وأكثر نظاماً(3).

5- يضاف إلى ذلك عامل سياسي مهم وهو حاجة الدولة الرومانية إلى عقيدة موحدة تخلصها من الصراعات العقائدية المزمنة .

وعلى أية حال ،فقد دانت أوروبا بالمسيحية منذ سنة 325 وما زال العالم الغربي إلى اليوم يعتقد أنه عالم مسيحي ، أو على الأقل كان كذلك يوماً من الأيام … لكن السؤال المهم هنا هو : هل هذه الديانة المعتنقة هي الوحي الإلهي الذي أنزله الله تعالى على عبده المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ؟

وبتعبير آخر :هل دانت أوروبا بالدين الحق لله تعالى وعبدته حق عبادته وعرفته معرفة صحيحة في أي مرحلة من مراحل تاريخها ؟

إن أي مؤرخ أو باحث يلقي نظرة سريعة فاحصة على الحقبة التي شهدت ميلاد الدين النصراني ، سيرى أن منطقة حوض البحر الأبيض كانت تموج بعقائد وأفكار متباينة نذكر منها :

1-الديانة اليهودية :وهي ديانة مغلقة خاصة بأسباط بني إسرائيل ، لكنها تتميز بأنها ديانة سماوية لها كتاب مقدس ،وموطنها فلسطين ،حيث ولد المسيح وأرسل.

2-العقيدة المترائية :وهي عقيدة وثنية قديمة قوامها الكاهن والمذبح ،ترى أنه لا خلاص للإنسان إلا بافتداء نفسه عن طريق تقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهان (4) .

3-الأفلاطونية الحديثة :وهي عقيدة فلسفية تتلخص في أن العالم في تكوينه وتدبيره صدر عن ثلاثة عناصر :
 المنشئ الأزلي الأول .
 العقل الذي تولد منه كما يتولد الابن من أبيه .
 جميـع الأرواح والـذي يتصـل بالمنشـئ الأول عن طريق العقل (5).وكان موطنها الإسكندرية .

4-الوثنية المصرية :ومن معتقداتها أن الآلهة ثلاثة :
 حورس،الذي كان ابنتاً لسيراييس .
 سيراييس ،الذي هو في الوقت نفسه حورس .
 إيزيس ،والدة حورس (6) .

5-الوثنية الرومانية:ديانة الإمبراطورية الرسمية ،ومن مبادئها :
 التثليث : (جوبيتر ،مارس ،كورنيوس ) .
 عبادة الإمبراطور ،إذ كان الأباطرة يدعون الربوبية ، و"كان تأليه الحاكم تقليداً هلنستياً " (7).
 تقديس الصور والتماثيل وعبادتها(8) .

6-أفكار فلسفية :من أهمها الفلسفة الرواقية ،التي تعني من الوجهة العملية :الانقطاع عن الدنيا وتعد إنكار الذات أسمى الغايات النبيلة ،مناقضة بذلك الفلسفة الإباحية الأبيقورية التي كانت فاشية في المجتمع الروماني (9) .




ولو أننا حاولنا أن نستنبط من مجموع هذه العقائد عقيدة واحدة مشتركة لخرجنا بعقيدة تقوم على ست دعائم :
1-الإيمان بالتوراة اليهودية .
2-اعتقاد الفداء والخلاص والوساطة بين الله والناس .
3-التثليث .
4-الحلول (تجسد الإله في شكل بشري ).
5-تقديس الصور والتماثيل .
6-الهروب من الحياة "الرهبانية" .

ومن أول نظرة نلقيها على هذه الدعائم الست نرى أنها هي بعينها دعائم الدين النصراني الكنسي ولب تعاليمه التي سيطرت على الفكر الأوروبي ردحاً طويلاً من الزمن ،وقد يدهش المرء لهذه النتيجة –رغم تسليمه بصحتها – ويتساءل :أيمكن أن يتحول دين سماوي خالص إلى مزيج مركب من خرافات ووثنيات متضاربة ؟وأعجب منه :كيف احتفظت المسيحية باسمها ونسبتها وهي على هذه الحال ؟

إن الكثير من مؤرخي الفكر الغربي قد تخلصوا من الإجابة على مثل هذه التساؤلات بتقسيمهم الدين النصراني قسمين متباينين لا رابط بينهما سوى النسبة للمسيح :

1-المسيحية الأصلية ،أو "مسيحية يسوع ".

2-المسيحية الرسمية ،أو "مسيحية بولي" .
ويعنون بهذه العقيدة التي نشرتها الكنيسة ابتداء من سنة (325) وهي المزيج المشار إلى مركباته آنفاً.
يقول برنتن : " إن المسيحية الظافرة في مجلس نيقية – العقيدة الرسمية – في أعظم إمبراطورية في العالم مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل ،ولو أن المرء اعتبر العهد الجديد التعبير النهائي عن العقيدة المسيحية لخرج من ذلك قطعاً لا بأن مسيحية القرن الرابع تختلف عن المسيحية الأولى فحسب ،بل بأن مسيحية القرن الرابع لم تكن مسيحية بتاتاً " (10) .

أما المؤرخ الإنجليزي ويلز ، فيقول : "من الضروري أن نستلفت نظر القارئ إلى الفروق العميقة بين مسيحية نيقيا التامة التطور وبين تعاليم يسوع الناصري …فمن الواضح تماماً أن تعاليم يسوع الناصري تعاليم نبوية من الطراز الجديد الذي ابتدأ بظهور الأنبياء العبرانيين ،وهي لم تكن كهنوتية ولم يكن لها معبد مقدس حسباً عليها ولا هيكل ،ولم يكن لديها شعائر ولا طقوس ،وكان قربانها "قلباً كسيراً خاشعاً " ،وكانت الهيئة الوحيدة فيها هيئة من الوعاظ ،وكان رأس ما لديها من عمل هو الموعظة .بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين ،وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل – كنواة لها – كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طراز مألوف للناس من قبل منذ آلاف السنين ،وكان المذبح مركز طقوسها المنمقة ،والعمل الجوهري في العبادة فيها هو القربان الذي يقر به قديس متكرس للقداس ، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة ، ولئن اتشحت المسيحية بأردية خارجية تشابه نحل سيراييس أو آمون أو بعل مردك مشابهة غير عادية فلا بد لنا أن نذكر أنه حتى كهانتها نفسها كانت مظاهر جديرة بأعيانها " .

"ولقد بلغ من جرأة الكتاب المتشككين أن أنكروا إمكان أن يسمى يسوع مسيحياً على الإطلاق " (11) .

وإذا كان هذا هو رأي العلماء الباحثين فإن من المفيد أن نعرف رأي رجال الكنيسة في هذا الأمر ، وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الدكتور "وليام تامبل " أسقف كنيسة كنتربري وحبر ـحبار إنجلترا ، حيث يقول :

"إن من الخطأ الفاحش أن نظن أن الله وحده هو الذي يقدم الديانة أو القسط الأكبر منها " (12) .
وليس هذا الكلام فلتة من الحبر الكبير ، أو سهواً غير مقصود ، وإنما هو تعبير صريح صادق عن عقيدة الكنيسة وواقع تاريخها .

وعلى ضوء هذه الآراء نستطيع أن نعرف ما إذا كانت أوربا قد اعتنقت النصرانية الحقة الموحاة من الله ، أو اعتنقت المركب الذي صنعه أجداد الدكتور تامبل من آباء الكنيسة الأولين ،واستخرجوه من العقائد السائدة في عصرهم آنذاك .

إن من الحقائق المقررة أن الكنيسة قد ارتكبت سلسلة من الأخطاء الشنيعة ،يكفي أحدها لنزع الثقة منها بصفة نهائية ، وإن أحداً من أعداء المسيح عليه السلام لم يسيء إليه وإلى تعاليمه النبوية كما أساءت الكنيسة التي تتبجح بالانتساب إليه ،وتزعم أنها الحارس الأمين على مبادئه والممثل الشرعي له ، ولقد كان "ليكونت دى نوى " صادقاً عندما قال : "إن ما أضافه الإنسان إلى الديانة المسيحية ،والتفسيرات التي قدمها ،والتي ابتدأت منذ القرن الثالث بالإضافة إلى عدم الاكتراث بالحقائق العلمية ، كل ذلك قدم للماديين والملحدين أقوى الدلائل المعاضدة في كفاحهم ضد الدين " (13) .

هذا ،وليس من أهدافنا في هذا البحث التهجم على الكنيسة وفضح تصرفاتها ولا كذلك تبرير التمرد الذي أعلنته أوربا على خالقها في أثناء ثورتها على طغيان الكنيسة ،لكن هدفنا هو الحقيقة التي هي ضالة المؤمن ،لا سيما وان القضية قضية إنسانية عامة ، تعدت نطاق أوروبا إلى العالم كله ،وصلينا –نحن المسلمين خاصة – نيران آثارها السيئة منذ الحروب الصليبية ،بل منذ ظهور الإسلام إلى اليوم .
وعلى هذا الأساس سنستعرض موضوع تحريف المسيحية عقيدة وشريعة معتمدين أساساً على الباحثين النصارى أنفسهم وعلى المصادر الكنسية .


>><<


.*.*. >> أولاً :تحـــــــــــــــريف العقيـــــــــــــــــــــــدة << .*.*.
>><<
i. قضيــــــــــــــة الألوهيـــــــــــــــة :

إن قضية الألوهية لتأتي في طليعة المعضلات الفلسفية العريضة التي شغلت أذهان الفلاسفة والمفكرين قروناً طويلة ، لا سيما ما يتعلق بتصور الإله وصفاته ، حيث تفاوتت التصورات المنحرفة ،فأوغل بعضها في التجريد حتى وصل إلى درجة المعميات والألغاز المبهمة ، وسفل بعضها في التجسيم حتى هبط إلى مستوى الجمادات والمخلوقات التافهة ، وقد كانت البشرية في غنى عن هذا التخبط والضلال لولا أنها ضيقت على نفسها وحاولت بلوغ الحقيقة من غير طريقها ،ولم تكن بحاجة إلى الخوض في هذه القضية بتاتاً لو أنها استلهمت الفطرة الكامنة في أعماقها واستقت معرفتها بالله من طريق الوحي الإلهي نفسه ،واستبدلت بتخرصات الفلاسفة وتحريفات الكهان تعاليم الأنبياء ،عليهم الصلاة والسلام .

ولو جاز أن نتلمس عذراً لأحد من التائهين في هذه القضية ،لالتمسناه للأمم التي انقطع عنها الوحي فترات طويلة ، أو للذين لم تقع أعينهم على شيء من آثار الأنبياء ، أما إذا كان المتخبطون ممن يستطيعون أن ينعموا بنور الحقيقة لكنهم آثروا عليه الإدلاج في الظلمات ،فما عذرهم حينئذ ؟

لكم تكون الخسارة فادحة لو أن عالماً من جهابذة الطب كتب أروع بحث علمي في فنه وأوصى خادمه بحفظه ،لكن الخادم عبث به فقدم وأخر وشطب وأضاف حتى حوله إلى خزعبلات سخيفة ..فكيف إذا كان موضوع العبث هو الوحي الإلهي الذي لا تستقيم بغيره حياة ولا تصلح بسواه دنيا ولا آخره ؟
إن المسيح-عليه السلام- قد بعث في بيئة بركام هائل من الخرافات والوثنيات – ذكرنا بعضها قريباً – وجاء كأي نبي مرسل لينقذ قومه من هذا الركام ويهديهم إلى التوحيد الذي دعا إليه سلفه من الأنبياء ،ولا شك أنه قام بمهمته خير قيام ،وكان عليهم شهيداً ما دام فيهم فلما توفاه الله حدث من أتباعه ما لم يكن في الحسبان من تحريف ونكوص .

وعملية التحريف التي استغرقت زهاء عشرة قرون –بل نستطيع أن نقول أنها لم تتوقف حتى الآن – بدأت مبكرة حين كان الحواريون لا يزالون على قيد الحياة ، كما أنها ابتدأت بموضوع ليس بالهين ، وهو القول بأن للمسيح طبيعة إلهية ، مع أن سيدنا عيسى عليه السلام – كما تعترف دائرة المعارف البريطانية –"لم تصدر عنه أي دعوى تفيد أنه من عنصر إلهي أو من عنصر أعلى من العنصر الإنساني المشترك " (1) .

وتتفق المصادر التاريخية – فيما نعلم – على أن اليد الطولي في التحريف كانت لمبشر من أتباع الحواريين ،تسمية المسيحية المحرفة "بولس الرسول " ، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة ، مدعياً أنه "ابن الله " (2) - تعالى عن ذلك – وكانت هذه الدعوى البذرة الأولى للتثليث .

>> بـــولــس <<

الاسم الأصلي لبولس هو "شاؤل" وهو كما يبدو من سيرته شخصية تآمرية ذات عبقرية عقائدية ،ويظهر أنه كان ينفذ تعاليم المحكمة اليهودية العليا "سانهدرين " ،حيث كان أستاذه عمانوئيل أحد أعضائها(3)

وقد اشتهر أول حياته باضطهاد المسيحيين (4) .ثم تحول فجأة ليصبح الشخصية المسيحية الأولى والقطب الكنسي الأعظم ،ومنذ ظهوره إلى الآن لم يحظ أحد في تاريخ الكنيسة بمثل ما حظي به من التقديس والإجلال ، إلا أن "أحرار المفكرين " الأوربيين لم يخفوا عداوتهم له ، حتى أن الكاتب الإنجليزى "بنتام"ألف كتاباً أسماه "يسوع لا بولس " ..ومثله "غوستاف لو بون " في حياة الحقائق " . أما المؤرخ "ويلز " وهو من المعتدلين – فقد عقد فصلاً بعنوان "مبادئ أضيفت إلى تعاليم يسوع " ،قال فيه :

"وظهر للوقت معلم آخر عظيم يعده كثير من النقاد العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية ،وهو شاؤل الطرسوسي ، أو بولس ، والراجح أنه كان يهودي المولد وإن كان بعض الكتاب ينكرون ذلك ! ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود ، بيد أنه كان متبحراً في لاهوتيات الإسكندرية الهلينية …وهو متأثر بطرائق التعبير الفلسفي للمدارس الهيلنستية ، وبأساليب الرواقيين بيسوع الناصري بزمن طويل ..ومن الراجح جداً أنه تأثر بالمثرائية ، إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المترائية ،ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم ، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يقدم قرباناً لله كفارة عن الخطيئة .فما بشر به يسوع كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية أما ما علمه بولس فهو الديانة القديمة ،ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء طلباً لاسترضاء الإله " .

" ..ولم ير بولس يسوع قط ، ولا بد أنه استقى معرفته بيسوع وتعاليمه سماعاً من التلاميذ الأصليين ، ومن الجلي أنه أدرك الشيء الكثير من روح يسوع ومبدأه الخاص بالميلاد الجديد ، بيد أنه أدخل هذه الفكرة في صرح نظام لاهوتي ، ذلك بأنه وجد الناصريين ولهم روح ورجاء وتركهم مسيحيين لديهم بداية عقيدة ؟ (6)

ولندع الآن كل التأثيرات والثقافات التي عرفها بولس ، باستثناء واحدة منها هي "لا هوتيات الإسكندرية" التي كان متبحراً فيها ، ومعلوم أن هذه اللاهوتيات هي المدرسة الفلسفية المسماة "الأفلاطونية الحديثة " التي أشرنا سابقاً إلى عقيدتها الثالوثية ،وعنها نقل بولس فكرة التثليث "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل " والتعديل الذي أدخله على الأفلاطونية شكلي فقط :فالمنشئ الأزلي الأول فيها يقابله عنده الله "الأب" والعقل المتولد عن المنشئ الأول يقابله عنده يسوع "الابن " ، والروح الكلي يقابله "روح القدس " . ثم أنه سار شوطاً أبعد من ذلك ،فاستعار من المثرائية فكرة الخلاص . وجعل القربان الضحية هو الأقنوم الثاني "الابن" . ثم إن الكنيسة أكملت المسيرة فأضافت إلى فكرة الخلاص فكرة تقديس الخشبة التي صلب عليه المخلص ، وهكذا "تتابعت البدع واحدة في أثر الأخرى ، وكان نتيجة ذلك أن دفنت التعاليم الأصلية بطريقة تكاد تكون غير محسوسة تحت تلك الإضافات المألوفة "(6)
بهذه الطريقة ،وبغض النظر عن الأهداف والدوافع الخفية ، هدم بولس عقيدة التوحيد وأوقع أتباع المسيح فيما كان قد حذرهم منه أبلغ تحذير . واكتسبت تعاليم بولس الصفة الشرعية المطلقة بقيام أحد أتباعه بكتابة الإنجيل الرابع المنسوب إلى يوحنا الحواري ، والذي قال عنه جيبون أنه :
"فسر نظرية الكون الأفلاطونية تفسيراً مسيحياً وأظهر أن يسوع المسيح هو الكيان الذي تجسد فيه "الكلمة " أو العقل الذي تحدث عنه أفلاطون والذي كان مع الله منذ البدء (7) .

على أنه من الإنصاف أن نذكر أن الثلاثة القرون الأول التي تسميها الكنيسة "عصر الهرطقة " شهدت صراعاً محتدماً بين أتباع بولس واثانسيوس ، وبين منكرة التثليث وعلى رأسهم "آريوس" ، ولم يكتب النصر النهائي للثالوثيين إلا في مجمع نيقية ، مع انهم كانوا أقلية فيه .

يقول برنتن :
"وقد امتدت هذه الهرطقات فشملت الجانب الأكبر من السلوك والعقائد ، ونستطيع أن نأخذ الجدل النهائي الذي ثار حول العلاقة بين يسوع والإله الواحد – الإله الأب – مثلاً لعصر الهرطقة كله ، وأخيراً قبلت المسيحية الرسمية في عام 325 في مجلس نيقية بالقرب من القسطنطينية عقيدة التثليث أو ما نادى به أثانسيوس ، والثالوث "الله الأب ، ويسوع الابن ، والروح القدس ، طبقاً لهذه العقيدة : أشخاص حقيقيين ، عددهم ثلاثة لكنهم واحد أيضا ، وبقيت المسيحية وحدانية تثليثها يسمو في الرياضيات (8) .
وهنا ، عند هذه النقطة خاصة تصطدم أراء بولس وكنيسته بالفطرة والعقل اصطدما مباشراً ، فمهما حاول أي عقل بشرى أن يتصور أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة فإنه لا يستطيع إطلاقاً ، مع أن الملايين من أتباع الكنيسة يقولون في كل صلاة " باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد " .

لقد ظل العقل البشرى يلح على الكنيسة أن تعطيه إجابة مقنعة يتخلص بها من سؤال داخلى قاتل وهو : كيف أصدق أن 1 + 1 + 1 = 1 ؟
فكان رد الكنيسة المتكرر دائما هو أن ذلك " سر " لا يستطيع العقل إدراكه .

هكذا كان رأى القديس أوغسطين (430) وهو يواجه حملة آريوس على التثليث الكاثوليكي ، وقال أن كل ما جاء في الأناجيل لا ينبغي للعقل أن يجادل فيه " لأن سلطانها أقوى من كل سلطان أمر به العقل البشرى (9) .
كذلك القديس توما الأكويني ( + 1274 ) ، فهو " يقرر أن الحقائق التي يقدمها الإيمان لا يقوى العقل على التدليل عليها ، ففي استطاعة العقل أن يتصور ماهية الله ( Essence ) ، ولكنه لا يستطيع أن يدرك تثليث الأقانيم ومن دلل على عقيدة التثليث في الأقانيم حقر من شأن الإيمان ) (10)
وهكذا كان رأى الكنيسة وهي تواجه انتقادات " أبيلارد " في القرن الثاني عشر الميلادى الذي أدان رأى أبيلارد وقرر إحراق كتابه وأن يضعه بيده في النار (11) ولا يزال هذا هو رأى الكنيسة وإلا فماذا في إمكانها أن تقول غير ذلك ؟
حتى الكنائس الشرقية تذهب إلى هذا الرأي ، فالقس باسيلوس يقول : " أن هذا التعليم عن التلثيث فوق إدراكنا ، ولكن عدم إدراكه لا يبطله " ..
وزميله توفيق جيد يقول : " إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس تعتبر أعماقا الهية وأسراراً سماوية لا يجوز لنا أن نتفلسف في تفكيكها أو تحليلها أو أن نلصق بها أفكارنا من عندياتنا" (12) .

من هذه الإجابات يتضح أن الكنيسة لم تضع حلاً للمشكلة إلا المشكلة نفسها ، فالعقل يسأل الكنيسة عن سر التثليث فتجيب بأن هذا " سر " وياليت أنه كان السر الوحيد ، ولقائل أن يقول : أن الأديان بما فيها الإسلام لا تخلو من مغيبات أو حقائق لا يستطيع العقل إدراكها ولكن يدفع هذا القول أن هناك فرقا بين ما يحكم العقل باستحالته كالتثليث وبين ما لا يستطيع العقل إدراكه ، والإسلام ، وإن كان فيه الأخير ، فإنه يخلو تماماً من الأول ، فليس فيه ما يحكم العقل باستحالته أبداً (13)

إن الكنيسة ، بتبنها لعقيدة التثليث ، قد فتحت على نفسها ثغرة واسعة يستطيع أعداؤها أن ينفذوا من خلالها إلى هدم الدين البوليسي الكنسي بسهولة ، وكانت هذه العقيدة واضرابها المقومات الأساسية للفكر الديني الذي تستر بستار " النقد التاريخى للكتب المقدسة " ابتداء من القرن السابع عشر ، ولا بأس هنا أن نورد قول أحد أقطاب هذا الفكر وهو الفيلسوف " رينان " الذي حرمته الكنيسة وحظرت كتبه :

" أنه ينبغي لفهم تعليم يسوع المسيح الحقيقي ، كما كان يفهمه هو ، أن نبحث في تلك التفاسير والشروح الكاذبة التي شوهت وجه التعليم المسيحي حتى أخفته عن الأبصار تحت طبقة كثيفة من الظلام ويرجع بحثنا إلى أيام بولس الذي لم يفهم تعليم المسيح ، بل حمله على محمل أخر ثم مزجه بكثير من تقاليد الفرنسيين وتعاليم العهد القديم ، وبولس ، كما لا يخفي ، كان رسولاً للأمم أو رسول الجدال والمنازعات الدينية ، وكان يميل إلى المظاهر الخارجية الدينية كالختان وغيره ، فأدخل أمياله هذه على الدين المسيحي فأفسده ، ومن عهد بولس ظهر التلمود المعروف بتعاليم الكنائس ، وأما تعليم المسيح الأصلي الحقيقي فخسر صفته الإلهية الكمالية ، بل أصبح إحدى حلقات سلسلة الوحي التي أولها ابتداء العالم وآخرها في عصرنا الحالي والمستمسكة بها جميع الكنائس ، وأن أولئك الشراح والمفسرين يدعون يسوع الهاً دون أن يقيموا على ذلك الحجة ، ويستندون في دعواهم على أقوال وردت في خمسة أسفار : موسى ، الزبور ، وأعمال الرسل ورسائلهم وتآليف أباء الكنيسة ، مع أن تلك الأقوال لا تدل على أن المسيح هو الله) (14) .

وإذا كان التثليث يتصف بهذه الصور العقيمة المستغلقة ، وإذا كانت الكنيسة تعلم انها لم تستطع ، حلّ هذه المعضلة _ بل إنها غير مقنعة في نفسها بما تقدم من حلول – فلم هذا الإصرار على تلك العقيدة ؟ أهو التقليد الأعمى أم شهوة التسلط على العقول والقلوب ؟ إن أحد هذين أو كليهما ، لا مرية فيه ولكن الكنيسة تمارى . زاعمة أنها تتبع روايات العهد الجديد وشروحها .

وهنا نجد مرة ثانية ، أن الكنيسة تستدل على الدعوى بالدعوى نفسها ، فإن منكرى التثليث إنما ينكرونه لاعتقادهم أن الكنيسة هي التي أضافته إلى نصوص الأناجيل أو فهمته خطأ من ثناياها ، وحينئذ تحتاج الكنيسة إلى إثبات صحة استدلالها منها ، وأنى لها ذلك .

أما احتجاج منكري التثليث على الكنيسة بأنها أقحمت العبارات الدالة على التثليث في صلب الأناجيل فإن له ما يسوغه وهذا أحد الأمثلة عليه :
في الفصل الخامس من رسالة يوحنا الأولى نجد هذه العبارات : " إن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة : الأب ، والكلمة ، والروح القدس . وهؤلاء الثلاثة هم واحد والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة : الروح ، والماء ، والدم. والثلاثة هم في الواحد " فالمحققون من علماء النصارى أمثال كريسباخ وشولز وآدم كلارك ، وحتى المتعصبين مثل هورن ، يرجحون أن أصل العبارة هكذا : " وأن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم الروح والماء والدم " وغير أن معتقدي التثليث أضافوا إليها عبارة " هم في السماء ثلاثة … الخ " حتى أصبحت العبارة بهذه الإضافة دليلاً من أدلة الكنيسة على التثليث ومما يؤيد قول هؤلاء أن المصلح الكنسي " مارتن لوثر " لم يترجم هذه العبارة إلى الألمانية عندما ترجم العهد الجديد إليها (15) .
وأما اعتقادهم أن الكنيسة فهمت التثليث خطأ من نصوص الكتب المقدسة واستنبطته من تأويل بعض عبارات الأناجيل القائلة " أبي " : " ابن الله " وأشباهها ، فليس بأقل من سابقة ، وقد نبه إلى ذلك جرين برنتن ، فقال

" يستطيع المرء إذا أخذ بالتفسير الطبيعي لمصادر العهد الجديد أن يزعم أن يسوع لم يدع لنفسه الألوهية قط ، وأن مثل هذه العبارات ( أي أبي وابن الله ) إنما رويت محرفة أو استعملت مجازاً أو كانت هذا أو ذاك (16).

ومن اليسير علينا تأييد هذا الرأي بما ورد في الأناجيل والرسائل من إشراك سائر الناس مع المسيح في إطلاق هذه العبارات عليهم وعدم اختصاصه بهذه الصفات جاء ذلك في مواضع كثيرة ، منها :

1. " كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله ، وكل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا ، بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله" (17) .
2. في إنجيل متى يقول المسيح : " طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون " (18) .
3. وفيه أيضا يقول المسي للتلاميذ : " صلوا أنتم هكذا أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك .."
4. يقول في إنجيل لوقا : " ومن اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله "(19)
5. وفي متى عنه : " أن ابن الإنسان سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته ".

هكذا نجد في العهد الجديد نصوصاً كثيرة تصف الناس جميعا – المسيح وغيره – بأنهم أبناء الله ، وهو معنى مجازى قطعاً ، وتصف المسيح بأنه " ابن الإنسان " ويمكن درء التعارض بينها بشأن المسيح برد نصوص المجاز إلى الحقيقة لأنها هي الأصل ، وبذلك لا يكون للمسيح عليه السلام أية ميزة ، عدا كونه رسولاً ، إلا أن القدرة الإلهية خلقته من أم ( بلا أب ) .

ولكن الكنيسة تماري في هذه الحقيقة الساطعة مستدلة بالأناجيل ، لاسيما إنجيل يوحنا مما يجعل الباحث ينقب عن حقيقة الأناجيل ذاتها ومدى حجيتها على هذه القصة وغيرها (20)

ب . تحريـــــــــــــــف الأناجيــــــــــل :

ليس ثمة شك في أن الله تبارك وتعالى إنما أنزل على المسيح عليه السلام إنجيلا واحداً مكملاً للتوراة المنزلة على موسى عليه السلام ، وما من شك أيضا في أن المسيح حين هتف ببنى إسرائيل : " قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتربوا وآمنوا بالإنجيل (21) ، وإنما كان يعنى ذلك الإنجيل المنزل ، لا شيئا آخر سواه .

والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي تكفل الله بحفظه بنفسه ( إنا نحن نزلنا الذكر وآنا له لحافظون) " 15-9 " . أما الكتب السابقة فقد وكل حفظها إلى علماء دينها .
(( إنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله )) " 65 – 44 " إذن فقد كان في عهدة الكنيسة أن تحفظ هذا الإنجيل بنصه السماوي وصبغته الإلهية، فلا يمسه عبث عابث ، ولا يجترئ عليه يد محرف ، لكن الكنيسة – كعادتها _ فرطت في واجبها ، بل إنها هي التي فتحت للمعرضين باب التحريف والقول على الله بغير علم .

إن محرري دائرة المعارف البريطانية ، وهو من ذوى الكفاءات العالية في معظم التخصصات – ومنها اللاهوت – لم يتطرفوا أو يبالغوا في القول بأنه " لم يبق من أعمال السيد المسيح شئ ولا كلمة واحدة مكتوبة " (22) ، بما إنما عبروا بذلك عما ينبغي أن يقرره الباحث العلمي المدقق .

ونحن المسلمين نؤمن بأن في خبايا الأناجيل شيئا من أقوال المسيح وتعاليمه التي يحتمل أنها وحى من الله ، لكن ذلك لم يثبت لدينا بسند تاريخى موثوق إلى المسيح ، وإنما آمنا به لأننا لو عرضناه على الوحى الإلهي المحفوظ " القرآن " والسنة ، لوجدنا الصلة بينهما واضحة أما من لا يؤمن بالقرآن ولا يعترف إلا بحقائق البحث المجرد فليس غريباً أن ينكر الأناجيل برمتها مثل قولة دائرة المعارف البريطانية هذه .

ولندع رأى المعاصرين ولنعد إلى القرن الأول الميلادي حيث احتمال وجود الإنجيل أقوى وأرجح ، فماذا نجد ؟ يقول آدم كلارك أحد شارحي الأناجيل :

" محقق أن الأناجيل الكثرة الكاذبة رائجة في أول القرون المسيحية وكثرة هذه الأحوال الغير صحيحة (كذا) هيجت لوقا على تحرير الإنجيل ، ويوجد ذكر أكثر من سبعين من هذه الأناجيل الكاذبة والأجزاء الكثيرة من هذه الأناجيل باقية ، وكان " فابرى سيوس " جمع الأناجيل وطبعها في ثلاث مجلدات" (23)
هكذا قفز العدد من واحد إلى سبعين ، و المسيحية لا تزال في مهدها ، مما دفع لوقا إلى كتابة إنجيله ، فأي هذه الأناجيل يا ترى الإنجيل الحقيقي الموحى إلى المسيح ما دمنا مسلمين بأن الله لم ينزل إليه إلا إنجيلاً واحداً ؟

إن لوقا نفسه ليفسح لنا الطريق إلى الحقيقة النيرة التي تهدم الأناجيل كلها – ومنها إنجيله – وها هي ذي مقدمة إنجيله تنطق بها .

يقول لوقا في المقدمة : " إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتبقية عندنا كلما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة ، رأيت أنا أيضا ، إذ قد تتبعت كل شئ من الأول بتدقيق ، أن أكتب إليك على التوالى أيها العزيز تاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به " (24)
وعلى هذا فلا السبعون الكاذبة ولا إنجيله الصادق وحي من الله ولا أحدها هو منسوب إلى المسيح ، بل الكل سير وقصص يكتبها أتباع المسيح عن حياته ودعوته كما سمعوها من أسلافهم الذي رأوا المسيح وخدموه ، ولو استعرنا عبارة الفيلسوف الفرنسى غوستاف لوبون لقلنا عن الأناجيل :

" هي مجموعة من الأوهام والذكريات غير المحققة التي بسطها خيال مؤلفيها (25) . إن أشبه الكتب الإسلامية بالأناجيل ، من جهة موضوعها لا من جهة ثبوتها ، هي كتب السيرة … فهل يمكن بأى حال من الأحوال القول بأن سيرة ابن هشام مثلاً وحي منزل من الله ؟ إن هذا لمحال شرعاً وعقلاً ، فكيف وسيرة ابن هشام مقطوع بنسبتها إلى مؤلفها ومتصلة السند بصاحب السيرة صلى الله عليه وسلم ومحفوظة بأصلها العربي ، لم تتناولها الترجمات ، كما هو الحال في الأناجيل ، كما أنها لم تفرض بسلطة قانونية أو كهنوتية وإنما أقرها البحث والتدقيق ، وكم من علماء مسلمين بلغوا ذروة العبادة والورع لا يعتد الباحثون المسلمون من رواياتهم بشيء لأن شروط التحقيق العلمي لم تتوفر فيهم ، أما الكنيسة فلا يكاد راهب ينقطع في صومعة أو عابد يتظاهر بحب المسيح حتى نقول " أنه مملوء بالروح القدس " وتمنحه لقب " رسول " أو "قديس" ، وتعد كلامه وحياً ملهماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

ولذلك فليس غريباً أن يكون لدى الكنيسة مائة وعشرون رسولاً (26) يؤخذ كلامهم – على علاته – قضايا مسلمة وتقديس رسائلهم ، كما تقدس الأناجيل .

تلك حصيلة المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى : سبعون إنجيلاً يكذب بعضهم بعضاً ، ومائة وعشرون رسولاً ، منهم من ألف أناجيل ، ومنهم من كتب رسائل ، ومنهم من كان يكرز ( يعظ ) من حفظ ومعلوماته … وطوائف وفرق تجل عن الحصر تختلف في قضايا أساسية بالغة الأهمية ، وكان عام 325 يمثل معلما من معالم التاريخ البارزة ، ففيه عقد مجمع نيقية الذي ابتدئت به صفحة جديدة في تاريخ الديانات العاملة . وأن هذا المجمع ليستحق أن يقف عنده المرء طويلاً .
أن أي مجمع أو مؤتمر يجب أن تتوفر فيه شروط خاصة – لاسيما إذا كان دينيا – ومن أوجب هذه الشروط .
1- حرية البحث والمناظرة ، سواء في جدول أعماله أو صيغة قراراته ، فلا تكون هنالك سلطة قاهرية تفرض على المجتمعين موضوعاً أو قراراً بعينه مما كانت .
2- نزاهة القصد وروح التفاهم ، بأن يكون الوصول للحق هدفاً مشتركاً بين المجتمعين بدون تعصب أو إصرار
3- اتخاذ قرارات سائغة ومنطقية مع اعتراف مقرريها بأنها عرضة للخطأ والصواب وقابلة للنقاش ، وإلا جاز اتهامهم بالاستبداد الفكرى .

وهذه الشروط – مع الأسف – مفقودة كلياً في هذا المجمع " المقدس " :
فأولا :- لم يكن سبب انعقاده ذاتيا نابعاً مع الأساقفة أنفسهم ، بل إن الإمبراطور الرومانى " قسطنطين " هو الذي دعا إلى انعقاده وهو رجل وثنى ظل وثنيا إلى أن عمد وهو على فراش الموت (27) .

ثانيا :- حضر المجمع ألفان وثمانية وأربعون من البطاركة والأساقفة يمثلون مذاهب وشيعاً متناحرة ، أبرزها فرقتان :
1- الموحدين ، كما يدعون ، أتباع آريوس ، وكان عددهم يقارب سبعمائة عضو .
2- الثالوثيون ، أتباع بولس ، وكان عددهم حوالي ثلاثمائة وثمانية عشر عضواً .
ومعلوم أو وثنية قسطنطين ثالوثية ، وهذه في حد ذاتها تمثل قوة معنوية للثالثوثيين ، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنه جمع الثلاثمئة وثمانية عشر أسقفاً في مجلس خاص وجلس في وسطهم وأخذ خاتمة وسيفه وسلمه إليهم ، وقال : " قد سلطتكم اليوم على مملكتى .. "

ثالثا :- لم تكتف قرارات الجمع بالتحيز لقسطنطين ودعاة التثليث ، بل لعنت وحرمت من يخالف هذه القرارات ، والحرمان عقوبة لها حجمها الكبير في المسيحية ((28) .

وأبرز قرارات المجمع القرار الذي اتخذه بشأن الأناجيل ، وهو أن الأناجيل المعتمدة الصحيحة هي الأناجيل الأربعة المنسوبة لـ ( متى ، لوقا ، مرقص ، يوحنا ) وأما ما عداها فمزيف مكذب تحرم قراءته ويجب حرقه وإبادته . وهذا بلا شك قرار جائر بحق الدين والتاريخ ، ويستطيع المرء أن يحمل المجمع ، أو هذا القرار خاصة ، مسؤولية ضياع النسخة الأصلية من الإنجيل المنزل ، لاسيما وأن الناظر إلى هذه الأناجيل يجد بينها من التضاد الشكلي والموضوعى ما يؤكد أنها ليست وحياً ، بل ليست سيرة صادقة للمسيح عليه السلام .

إن اختيار أربعة مؤلفات من بين سبعين مؤلفا مع عدم إبداء أسباب تبرر ذلك ، لهو إجراء قسرى ، يعبر عن روح الرعونة والصلف اللذين لم ينفكا عن الكنيسة في أية حقبة من تاريخها ، ولذلك فليس عجيباً أن يعاملها العاقون من أبنائها بمثل ذلك التطرف والغلو ، وليت الأمر اقتصر على هذا ، لكن الكنيسة لم تحفظ الأناجيل الأربعة نفسها من التحريف بعد أن فرضتها على أتباعها ، وكان للأباطرة دخل في هذا التحريف ، ولا لوم عليهم فإنما قلدوا الكنيسة في ذلك . يقول " لاندر " أحد مفسري الأناجيل :
" حكم على الأناجيل المقدسة جهالة مصنفها بأنها ليست حسنة بأمر السلطان أناسطيوس في الأيام التي كان فيها " مسالة " حاكماً في القسطنطينية فصححت مرة أخرى " (29) . وهذا القول اعتراف بالغ الخطورة ، فهو يقرر ثلاث حقائق تاريخية :
1- أن مؤلفي الأناجيل مجهولون ، وظلوا كذلك حتى القرن الرابع الميلادي .
2- أن لأهواء الحكام وميولهم يداً فيما تعرضت له الأناجيل من تحريف باسم التصحيح .
3- أن التحوير والتعديل ظل يمارس في الأناجيل دون شعور بالحرج ، مما يدل على أنه عادى مألوف ، قد أورد الشيخ " رحمة الله الهندى " خمسة وأربعين شاهداً على التحريف بالزيادة في الأناجيل ، مدعمة بالوثائق والاعترافات ، نختار واحداً منها للتمثيل فقط .

" الآية الثالثة والخمسون من الباب السابع وإحدى عشر آية من الباب الثامن من إنجيل يوحنا إلحاقية ( مضافة) قال هورن في الحاقية هذه الآيات : أرازمس وكالون وبيزا وكروتيس و ……… والآخرون من المصنفين الذين ذكرهم ونفينس وكوجز لا يسلمون صدق هذه الآيات " ثم قال :
" كرايز ستم وتهيو فلكت ونونسى كتبوا شروحا على هذا الإنجيل ، فما شرحوا هذه الآيات ، بل ما نقلوها في شروحهم ، وكتب ترتولين وساى برن في باب الزنا والعفة وما تمسكا بهذه الآيات ولو كانت هذه الآيات في نسخها لذكراً أو تمسكا بها يقينا "
وقال وارد كتلك : " بعض القدماء اعترض على أول الباب الثامن من إنجيل يوحنا نورتن بأن هذه الآيات إلحاقية يقينا " (30) .
فهذه أثنتا عشرة فقرة ، يكاد يكون هناك إجماع على إضافتها وغيرها كثير ، ولا غرابة في ذلك ، فليس لدينا حد فاصل بين كلام الله وكلام البشر ، بل ليس هناك ضابط يعرف به كلام المسيح من كلام غيره ، فالشك وارد على كل فقرة في الأناجيل إلى درجة أن أعظم المتعصبين لها لا يستطيع إقناع الباحث العلمي بسوى ذلك .



.*.*. >> ثانياً :تحـــــــــــــــريف الشريعــــــــــــــــــــة << .*.*.
>><<

 فصل الدين عن الدولة :
يحسن بنا قبل الخوض في هذا الموضوع أن نوطئ له بمقدمتين :
الأولى : عن الدين في نظر الروم طبيعته والتزاماته .
الثانية : عن حالة الشريعة الإنجيلية ومدى تطبيقها في واع الحياة قبل أن يعتنقها الروم رسمياً .

أولاً – الدين في نظر الروم :

نستطيع أن نقول أمن المجتمع الروماني (أي الجنس الأبيض المستعمر ) لم يكن دين موحد يتعبد به ، ولا فلسفة واحدة يؤمن بها ، بل كان غارقاً في دياجير جاهلية كاحلة متعددة الألوان مختلفة الأنحاء ؛
فالطبقة الحاكمة تشارك الشعب في أعياده الوثنية وتخدم تماثيل الآلهة الكثيرة ، بيد أنها لا تدين في الواقع بغير الشهوة العارمة للتسلط والرغبة الجامحة في الاحتفاظ بكرسي المملكة ، لا سيما وأن الإمبراطور نفسه كان ((الهاً )) يعبده الشعب .

أما الطبقة المثقفة فأشتات متفرقة ، منها اتباع المدرسة الرواقية المغلة في التجريد والتصوف ، ومنها مريدو المدرسة الأبيقودية المفرطة في البهيمية والحسيات ، ومدارس أخرى متأثرة بالفلسفات الوثنية الأغريقية في تصوراتها وأفكارها .

وأما الطبقة العامة من الشعب فهي تميل بطبيعتها إلى التدين لكن التناحر بين الآلهة والصراع المرير بين الفلاسفة ، أفقها الثقة في المعتقدات الدينية والفلسفية بجملتها ، فآثرت الاستجابة لداعى الهوى والانصياع إلى الملذات الجسدية والإغراق في المتع الحسية .

خلاصة القول أن الروم لم يعتنقوا دينيا اعتناقاً جدياً يجعلهم يسمون تصوراتهم وعقائدهم ونظام حياتهم منه وحده نعم كان لهم آلهة ولم تكن آلهة تقليدية (( لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات الوثنية اليونانية لقد كانت أشباحاً سكت عن وجودها حفاظاً للعرف الأجنبي ولم يكن يسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية ) .

وبذلك نستطيع أن نجزم بأن المجتمع الروماني كان مجتمعاً مادياً لا دينياً يعانى عزلة حادة عن معتقداته – أيا كانت – وبين واقع حياته العملى .
وقد (( عبر سيسرو )) عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله : (( لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل ما معناه أن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغى إليها الناس ويسمها بكل رغبة )) (2)
ويقول الراهب (( أوغسطين )) : (( إن الروم الوثنين كان يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل )) (3)…

ليس هذا فحسب ، بل أن أبيقور (ق4) قبل الميلاد – ليعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة ، فهو يقول:
(( إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بنى البشر ، إنهم موودن لأنهم يظهرون من آن لأخر للأشخاص (!) بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم ، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح ، أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا ما نراه في هذا العالم ؟

(( إن جوبيتير يرسل الآن بالصواعق على معبده ، فهل سحق أبيقور الذي يجدف به )) ؟

(( إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشئونهم فلا تعنيهم أمورنا . إنهم يعيشون حكماء سعداء ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله فلنعظهم كمثل عليا يقتدى بها ، غير انه لا يجب علينا ان نشغل أنفسنا بما يريدونه منا ، فإنهم لا يريدون منا شيئاً ، هم لا يعيروننا بألا فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا )) (4)

هذا التصور للآلهة تشترك مع أبيقور فيه الغالبية العظمى من الرومان ، ومن الطبيعي جداً أن ينشأ عن هذا التصرف الخاطئ للإله تصور خاطئ لمهمة الدين في الحياة وواجب المخلوق تجاه خالقه . ولما كان الصراع هو التصور المشترك لطبيعة الحياة عند الرومان ، فقد كانوا يتصورون الآلهة وهي تتصارع في الفضاء كما يتصارع أبطالهم على الحلبة ، وليس من شأن البطل أن يشرع للجمهور بل كل همه أن يخرج من الحلبة ظافراً منصوراً

وبما ان آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئاً ، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة ، و نتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود ((القانون الروماني )) الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم ، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة - إن وجدت – فقد كانت ابيقورية محضة .

وهكذا كان للرومان دين لكنه دين وجداني مجرد لا تأثير له في السلوك العملي ولا يفرض التزامات خلقية معينة ، ولا ينظم من شؤون الحياة شيئاً ، حتى إننا لنكاد نقول أن الامبراطورية الرومانية نسخة قديمة من الولايات المتحدة الأمريكية اليوم .

كان الفرد الروماني – كالأمريكي اليوم – يخرج من نحلة إلى أخرى ، ويتنقل من مبدأ إلى نقيضه دون أن يطرأ على حياته العملية وسلوكه الشخصي أي تغيير فالدين في نظره فكرة مجردة وعقيدة وجدانية فحسب .

ثانياً – حالة الشريعة الإنجيلية إلى سنة 325م :

ليس الإنجيل أول كتاب سماوي أنزله الله ولا هو حتماً آخر كتاب ، فهو واحد من مجموعة كتب ابتدأت قبل المسيح بقرون وانتهت بالكتاب الخاتم المنزل على الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم .

ومهمة الكتاب السماوي وغاية إنزاله بينها الله تعالى في القرآن الكريم أوضح بيان : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ))
(2 –123) ، فالحكم بالكتاب في كل اختلاف و تطبيقه في كل منحى من مناحي الحياة واستمداد كل القيم والقوانين والأنظمة والتشريعات منه هو الغرض المقصود من إنزاله ، والكتب السماوية هي – كما في الآية – كتاب واحد بالنظر إلى أن منزلها واحد وموضوعها واحد ، وهو تقرير حقيقة واحدة لا تختلف أبداً هي توحيد الله وعبادته وحده بالمعنى الواسع الشامل للعبادة ، هكذا كانت التوارة (( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء )) ( 7 : 154 ) فهي شريعة كاملة بالنسبة لعصرها قام عليها دول تملك خصائص الدولة من أمثال داود وسليمان عليهما السلام أنبياء يحكمون بما أنزل الله ويقيمون الحياة كلها على شرعه وأمره . وظلت التوراة ما شاء الله أن تظل منهاجاً وشريعة (( يحكم بها النبيون اللذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار )) ، ( 5 :43 ) فما كان يجوز لمؤمن بها أن يستمد تصوراته وافكاره ولا سلوكه وتشريعاته من سواها .

أما ما وقع في حياة بنى إسرائيل مما يخالف هذا فهو انحراف لا يقره الله ولا تقبله شريعته . ثم جاء عيسى عليه السلام (( رسولاً إلى بنى إسرائيل )) وهو أخر رسلهم ليصلح ما فسد ويقيم ما اعوج من عقائد وأخلاق اليهود ، وليردهم إلى الأصل الثابت : توحيد الله وعبادته وحده بتحكيم شرعه واتباع منهجه .

وبما أنه مبعوث إلى بنى إسرائيل خاصة ، فلم يكن ناسخاً لشريعة موسى وإنما كان متمماً لهما ، وكان الإنجيل مصدقاً لما بين يديه وإن لم يكن مهيمناً عليه (5)

وكان الجديد في شريعة الإنجيل التخفيف من بعض التشريعات التي لم تزل شرعاً دائماً وإنما جاءت عقوبة مؤقتة لليهود ، مع اشتماله على مواعظ بليغة اقتضاها ما جبل عليه اليهود من غلظة القلوب . وجفاف في الأرواح وإغراق تام في عبودية المادة وحرص مصر على التشبث بالحياة الدنيا .
إذن فقد كانت التوراة ، مضموناً إليها تعديلات الإنجيل شريعة يجب أن تطبق ، وعقيدة يجب أن ينبثق منها كل منهج للحياة : (( وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ( 5:45 : 46 ) ، لكن الذي حدث هو أن هذه الشريعة لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام لسببين متلازمين :

الأول – أنه لم يكن لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض ، إذ من المعلوم أن عيسى ، عليه السلام ، توفاه الله ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة .

الثاني – انه ، عليه السلام قد بعث إلى قوم قساة القلوب غلاظ الأكباد ، وفي الوقت نفسه كانت المنطقة المبعوث فيها جزءاً من مستعمرات إمبراطورية وثنية عاتية ، فكان ميلاد الدين الجديد في محيط معاد كل العداء له ولرسوله ونتج عن ذلك اضطهاد فظيع للمؤمنين به لم يدع لهم فرصة لتطبيقه إلا في النطاق الشخصي الضيق .
وكان أول من وضع العراقيل أمام المسيح وشريعته اليهود قتلة الأنبياء ، وتكاد الأناجيل والرسائل تكون وصفاً للعنث الذي لقيه المسيح وأتباعه من الطوائف اليهودية ، وقد جللوا عداوتهم بإغراء الحاكم الرومانى بقتله وصلبه ، ولكن الله تعالى رفعه إليه ونجاه منهم ومنه .
ومن بعد وفاة المسيح ، عليه السلام ، اشتدت المحنة على أتباعه من اليهود والرومان سواء .
أما اليهود فكانوا كما تحدثت رسالة (( أعمال الرسل )) يقتلون المسيحيين ويرجمونهم ويغرون بهم الولاة … وكان من أبرز المضطهدين لهم شاؤل اليهودى ، الذي تقول عنه الرسالة المذكورة :
" أما شاؤل فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساءاً ويسلمهم إلى السجن" (6)، على أن أعظم محنة نزلت بالمسيحية عقيدة وشريعة – هي عملية (( الغزو من الداخل )) التي قام بها شاؤل : فقد تظاهر باعتناق المسيحية وجاء بتعاليم مناقضة سبق ذكر بعضها ، وأخذ يؤلب على المسيحيين الحقيقيين ، وبذلك أحدث فوضى عقائدية وبلبلة فكرية ، فتضاعفت البلاء على المسيحيين ، إذ أصيبوا في دينهم وأنفسهم دفعة واحدة .

وأما الرومان فقد أنزل أباطرتهم بأتباع المسيح أشد الأذى ، واشتهر باضطهادهم ( نيرون 64م) و (تراجان – 106 ) و ( ريسويس – 251 ) و( دفقلديانوس – 3280 ) وبلغ بهم الاضطهاد إلى درجة أن بعض الأباطرة كانوا يضعون المسيحيين في جلود الحيوانات ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم ، أو يلبسونهم ثياباً مطلية بالقار ويقودونها لتكون مشاعل بشرية يستضيئون بها في مراقصهم (7) وفي وسع المرء أن يدرك الحال الذي تكون عليها شريعة يضطهد أتبعاها ثلاثة قرون ويطاردون في معتقداتهم وأفكارهم وهذه المطاردة ، كيف يمكن أن تقوم عليها دولة تنافح عنها وتلزم بتعاليمها وتثبت للعالم أنها شريعة كاملة .
وإذا اتضحت لنا هاتان الحقيقتان ، نعود إلى فصل الدين عن الدولة الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية والكنيسة ابتداء من سنة (325) .
إن الكنيسة لتهتز طرباً إذا ذكر لها عام (325) ، فهو يمثل في نظرها عام النصر الحاسم على أعداء المسيح وبداية العصر الجديد – عصر السيادة والحرية – بعد عصر الاضطهاد والهوان .
لقد حصلت الكنيسة على ما لم يكن ليحلم به آباؤها الأولون … فبينما عاش المسيح والتلاميذ تحت تهديد الوالي الروماني ينظرون إلى الامبراطورية الفسيحة نظر من لا يطمع منها بشيء ، نرى الكنيسة في القرن الرابع تظفر بالامبراطور نفسه صيداً ثميناً وتعمده بالماء المقدس إيذنا بدخوله دين المسيح .

إن هذا النصر كبير ، بل كبير جداً في حس الكنيسة وأتباعها ، لكن الكنيسة نسيت – وما أكثر ما تنسى – قولة المسيح الصادقة : ((ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه )) (8) . فماذا ينفع الكنيسة إذا ربحت قسطنطين وإمبراطوريته وخسرت دينها وتعاليمها ؟

لو أن الكنيسة ربانية حقاً لكان أول عمل عملته بعد انقضاء عهد الاضطهاد المرير هو البحث عن ذاتها هي ، ببعث الإنجيل الأصلي ونشره وتحكيمه في شؤون الحياة ، وكان في إمكانها أن تقنع الامبراطور : فإما أن يقبل ذلك فيكون نصرانياً على الحقيقة ، وإلا فلتكف منه بصداقته ورعايته وتمارس تطبيق شريعتها على أتباعها الحقيقيين في ظل عطف الإمبراطورية . وذلك ما كان مفروضاً أن تضطلع به الكنيسة وأن يرضاه الإمبراطور ويتقبله . غير أن الذي حصل فعلاً هو أنه لا الكنيسة كانت مؤمنة جادة تطمع في هداية الناس ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة ، ولا قسطنطين كان مؤمناً جاداً يريد أن يخلع عن عنقه ربقة الوثنية ليخلص دينه لله ويقف بين يديه وقوف العابد أمام المعبود .
إن الرابط الذي جمع بين الكنيسة والامبراطور هو رابط المصلحة الدنيوية لكلا الطرفين لا غير ، وإن كانت مصلح الامبراطور أرجح وتنازله أرخص .

يقول دابر :
" إن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذى لم تكن عقائده الدينية تساوى شيئاً رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين … النصرانى الوثنى ؛ أن يوحدهما ويؤلف بينهما ، حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة ، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة ، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها " (9) .

كما أدرك هذه الحقيقة المؤرخ الإنجليزي ( ويلز ) ، قد شرح بدقة حال الإمبراطور معللاً اعتناق قسطنطين للمسيحية إنها ديانة رسمية بأنه محاولة منه لإنقاذ امبراطوريته المتضعضعة من التفكك والإنحلال(10) ، وهو ما قال به جيبون من قبل(11).

هذا بالنسبة للإمبراطور ، أما الذين اعتنقوا المسيحية من المواطنين الرومان فلم يتغير تصورهم السابق عن الدين ومهمته في الحياة ، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى ( الأب والابن وروح القدس) محل ( جوبتير ومارس وكورنيوس) فما كانوا ينتظرون من آلهة بولس وكنيسته من تشريع وتوجيه إلا ما ينتظر من آلهتهم الجامدة الشاحبة ، ولم يكن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام جوبتير الذي صوره أبيقور .

وهكذا لم تستطع الكنيسة بتصويرها الفاسد أن تقتلع جذور الوثنية المتغلغلة في أعماق النفس الرومانية ، ولا أن تسمو بتلك النفوس من عالم الملذات الجسدية إلى عالم الفضيلة والطهر – باستثناء القلة التي ترهبت – ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله : ( أن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة ) (12) .

وإذ قد عجزت عن ذلك ، فمن الطبيعي أن تعجز عن إقامة الحياة : بنظمها وقيمها وأخلاقها على أساس من الدين ، وبقى الدين كما كان هواية شخصية محدودة التأثير لم يتغير فيه ، إلا أن المراسم الشكلية كانت تؤدى في معابد فأصبحت تؤدى في كنائس . ولم يقتصر الأمر على هذا ، بل أن الكنيسة تزحزحت عن مركز التأثير إلى مركز التأثر ، فدخلت الخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية في صلب تعاليمها وطقوسها ، وامتزجت بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة ، كما حدث امتزاج وتلاقح بين الشريعة والقانون الرومانى فاصبحت المسيحية ديانة تركيبية كما وصفها لوبون (13) .
وهذا الضلال والخطل الذي وقعت فيه الكنيسة لا يبرره ما ذهب إليه ليكونت دى نوى ، حين قال :( قبل الدين الكاثوليكى الذي نشأ على شواطئ المتوسط ذات المخيلة الواسعة بعض العادات لأنه لا يجد إلى إزالتها سبيلاً .
وانتهت – أي الكنيسة – مرغمة على قبول المساومة وقد طغت عليها أمواج الخرافات القديمة الجارفة )(14) ، فالمؤمن الحق لا يقبل المساومة على دينه مهما قست الظروف والأحوال .


كما لا يبرره من باب أولى ما ذهب إليه فشر في قوله :
(( إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آباءها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا معه منعاً من قديم العادات والتقاليد والمعتقدات ، بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها (15) .

قد يكون جرم الكنيسة أهون لو أنها عدت عملها هذا تصرفاً استثنائياً مؤقتاً تفرضه عليه الضرورة الطارئة ، ثم لا تلبث الشريعة أن تبرز إلى حيز التنفيذ على كل نشاطات الحياة . غير أن الذي تم فعلاً هو أنها اتخذت ذلك قاعدة ومنهجاً وسارت فيه إلى أبعد شوط .

وكان أول من سن سنة التنازل على الشريعة مقابل قبول العقيدة هو شاؤول ( بولس ) يقول برنتن .
(( كانت العقبة الكبرى في وجه الأممين الذين وجدوا أسلوب الحياة المسيحية جذاباً قانون اليهود )) – أي شريعة التوراة – ثم يشرح برنتن كيف أن بولس زال هذه العقبة فلأفتى بأن (( الإغريق والمصريين والرومان الذين يقبلون المسيحية في حل الختان وفي حل التقيد بحرفية القانون )) (16) .
وبمرور الزمن أصبح هذا الانحراف منهجاً مقرراً اعتمدته الكنيسة بعد مجمع نيقية ففصلت بين العقيدة وبين الشريعة ، بين الدين والدولة وقسمت الحياة البشرية دائرتين مغلقتين :

 الأولى – ( دينية ) من اختصاص الله ويقتصر محتواها على نظام الاكليروس والرهبنة والمواعظ وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية .
 والأخرى – (دنيوية ) من اختصاص قيصر وقانونه ، ويحوى محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية ونظم الحياة العامة .

هذه القسمة الضيزى لم تجد الكنيسة غضاضة فيها ، ولم تتحرج من جعل قيصر شريكاً لله في ملكه ، بل اعظم من شريك ، فقسمت الكون شطرين : شطر لله وشطر لقيصر ، فما كان لله فهو يصل إلى قيصر وما كان لقيصر فلا يصل إلى الله .

ويرى بعض المؤرخين أن السبب الذي أوقع الكنيسة في ذلك هو نظرتها القاصرة إلى الحياة الدنيا .. يقول صاحب ( تاريخ أوروبا في العصور الوسطى) : (( إن المسيحيين الأوليين على وجه الإطلاق لم يعمدوا إلى شيء من الإصلاح في المجتمع الرومانى الذي نبتوا فيه برغم ما هو معروف من تحريمهم لكثير من العادات والطقوس القديمة ، ولم تكن لهم فلسفة في الدولة وأصول الحكم ولا الايمان بتجديد المجتمع من طريق الانشاء والتنظيم ، ولم يخطر ببال أحد منهم أن في استطاعته جماعاتهم الصغيرة البعيدة عن السلطة والنفوذ أن تحدث بالسياسة الرومانية أو المجتمع الرومانى شيئاً من التعديل ، ذلك أنهم أيقنوا أن الدنيا متاع الغرور والشرور وتعلموا أن الانسان طريد جنة الخلد وحق عليه العذاب المقيم .
(( وتعلموا كذلك أن هذه الدنيا الغرارة لن تلبث حتى تزول وإن رجعة المسيح إلى الأرض ، وهي ما أعتقدها الناس وشيكة الوقوع ، سوف تملأ الدنيا عدلاً بعد ما ملئت الدنيا ظلماً وجوراً وخبثاً ونقصاً يمحوه كله المسيح محواً ، وإذا كان كذلك فما الذي يحمل المسيحي على إلغاء الرق أو الحرب أو المتاجرة في المحرمات أو الربا أو استعمال القوة الغاشمة التي ساعدت الدولة الرومانية على النهوض ما دام ذلك كله مقضياً عليه بالزوال ، وما دامت المشكلة الكبرى تنحصر في الوسيلة الواقية من العذاب الذي كتبه الله على الناس جزاءً وفاقا لما ارتكبه آدم من الخطيئة في جنة الخلد ، ولذا رضى المسيحيون بجميع ما وجدوا من نظم لا قبل لهم بتغييرها (17)

وهذا التعليل مصيب ، لكنه لا يمثل الحقيقة كاملة ، فإن للكنيسة مستندات نقلية من نصوص الأناجيل لابد من عرض نموذج لها ومناقشته ، وأهمها نصان:

1- القول المنسوب إلى للمسيح (( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله )) :
هذا القول هو أقوى وأصرح حجج الكنيسة ، ولقد ظل شعاراً ترفعه أوروبا كلما أملى عليها الهوى أن تخالف شرع الله وتتمرد على شرعه ، وبفضل هذا الشعار أخذ الدين ينكمش وينحسر على مر القرون حتى لم يبق له في أحسن الأحوال إلا ساعة في الأسبوع خاوية من كل معنى .. فما قيمة ذا الدليل بالمناظرة العلمية المنصفة ؟

لقد سبق أن قلنا إن كل ما روى عن المسيح من أقوال ليست منسوبة إليه يقيناً ، بل لا ظناً راجحاً ، فالكنيسة بدلت وحرفت وأضافت وحذفت حتى طمست تعاليمه وأقواله ودفنتها إلى الأبد ، وهذا القول مما يجوز أن يقال فيه – مبدئيا – إن المسيح لم يقله وإنه من غضافات الكنيسة ، ومادام البحث العلمي يقرر أن الأناجيل كلها ظنية الثبوت ظنية الدلالة فكيف يسوغ للكنيسة أن تحتج بهذه الظنيات في مسألة بالغة الخطورة كهذه ؟
ولندع القيمة العلمية التاريخية للنص وننظر نظرة موضوع
رد مع اقتباس
قديم 08-19-2005   رقم المشاركة : ( 2 )
أبو عبدالرحمن
المشرف العام

الصورة الرمزية أبو عبدالرحمن

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 2
تـاريخ التسجيـل : 29-07-2005
الـــــدولـــــــــــة : وادي جفن
المشاركـــــــات : 17,068
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 4291
قوة التـرشيــــح : أبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادةأبو عبدالرحمن تميز فوق العادة


أبو عبدالرحمن غير متواجد حالياً

افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

جزاك الله خيرًا أخي الكريم ـ أبا عهد ـ على هذه المشاركة والنقل المبارك

نفع الله بجهودكم...

وباختصار للعلمانية هي : فصل الدين عن الدولة....

أو : فصل جميع شؤون الحياة عن الدين...

ولا شك بخطورة هذا القول وهذا المبدأ...

آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس
قديم 08-19-2005   رقم المشاركة : ( 3 )
الساعدي
ذهبي مشارك

الصورة الرمزية الساعدي

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 10
تـاريخ التسجيـل : 01-08-2005
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 1,237
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 10
قوة التـرشيــــح : الساعدي يستحق التميز


الساعدي غير متواجد حالياً

افتراضي

جزاك الله خير
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس
قديم 08-19-2005   رقم المشاركة : ( 4 )
abonayf
ثمالي نشيط


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 13
تـاريخ التسجيـل : 04-08-2005
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 7,582
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 10
قوة التـرشيــــح : abonayf


abonayf غير متواجد حالياً

افتراضي

يعطيك العافيه ابو عهد
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس
قديم 08-20-2005   رقم المشاركة : ( 5 )
عثمان الثمالي
ثمالي نشيط

الصورة الرمزية عثمان الثمالي

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 30
تـاريخ التسجيـل : 13-08-2005
الـــــدولـــــــــــة : الطائف
المشاركـــــــات : 35,164
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 30
قوة التـرشيــــح : عثمان الثمالي محترف الابداع


عثمان الثمالي غير متواجد حالياً

افتراضي

يعطيك العافيه ابو عهد


وشكراا
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس
قديم 08-22-2005   رقم المشاركة : ( 6 )
سليل المجد
ذهبي مشارك


الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 4
تـاريخ التسجيـل : 30-07-2005
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 1,281
آخــر تواجــــــــد : ()
عدد الـــنقــــــاط : 10
قوة التـرشيــــح : سليل المجد يستحق التميز


سليل المجد غير متواجد حالياً

افتراضي

بارك الله فيك ..
آخر مواضيعي
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى الردود آخر مشاركة
الإسلام هو الاستسلام.....!!!! أعاصير مغرب واحة شعراء المنتدى 9 08-13-2006 04:46 PM
مفهوم الأمن في الإسلام بن وافي الــمـنـتـدى الإسـلامــــــــي 2 07-25-2006 11:00 AM
الإسلام والمبادئ الإنسانية بَنتْ الأصَآيلْ الــمـنـتـدى الإسـلامــــــــي 5 05-15-2006 04:03 AM
بطاقة مغناطيسية لكل مصلي (تونس بلد العلمانية) Naif الــمـنـتـدى الـعـام 4 02-09-2006 12:09 AM
بني الإسلام على خمس الإيمان صحيح البخاري عثمان الثمالي الــمـنـتـدى الـعـام 2 08-14-2005 10:32 AM


الساعة الآن 02:07 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc. Trans by